طفت قضية جزيرتي تيران وصنافير إلى السطح من جديد وبقوة، ونُشر اسم الجزيرتين في الكثير من وسائل الإعلام العالمية، بعد أن كشف موقع “واللا” الإخباري العبري، وصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، وكذلك موقع “أكسيوس” الإخباري الأمريكي، النقاب عن أنّ إدارة الرئيس الأمريكيّ جو بايدن تجري وساطة سريّة بين إسرائيل والسعودية ومصر، في محاولة للتوصل إلى تسوية لاستكمال نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية.
وحتى نكون على بيّنة من أهمية الجزيرتين، فهما تقعان في مدخل مضيق تيران الذي يفصل خليج العقبة عن البحر الأحمر. ومضيق تيران هو الممر المائي الوحيد للكيان الإسرائيلي من إيلات، ممّا يسمح بالشحن من وإلى أفريقيا وآسيا دون الحاجة إلى المرور عبر قناة السويس، وتستخدم سفن البحرية الإسرائيلية هذا الممر المائي للوصول إلى البحار المفتوحة، حيث تجري مناورات بحرية غير ممكنة في الحدود الضيقة لخليج العقبة. وكان القرار الذي اتخذه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يوم 23 مايو 1967، بإغلاق مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية في خليج العقبة، السبب الرئيسي في اندلاع حرب 1967. وحاليًا تتبع الجزيرتان إداريًا الدولة المصرية، لحين انتهاء إجراءات تسليمهما للسعودية، بعد أن صدّق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 17 يونيو 2017 على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، التي وقّع عليها البلدان في 8 أبريل 2016، وبموجبها تتنازل مصر عن ملكية الجزيرتين للسعودية؛ وهو الأمر الذي أثار – حينها وحتى الآن – غضبًا شعبيًا مصريًا رافضًا التنازل عن الجزيرتين اللتين عادتا إلى السيادة المصرية بعد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978، حيث كانت إسرائيل قد احتلت جزيرة تيران عام 1956 ضمن العدوان الثلاثي، ومرة أخرى في حرب 1967، وانسحبت منها عام 1982، فعادت الجزيرة إلى الحماية والإدارة المصرية، وتوجد بها حاليًا قوات دولية متعددة الجنسيات بحسب اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
طالبت السعوديةُ من مصرَ الجزيرتين في أكثر من مناسبة، وصحيحٌ أنّ الحكومتين السعودية والمصرية وقعتا اتفاقية تعيين الحدود البحرية بينهما، والتي طبقًا لبنودها تقع الجزيرتان داخل الحدود البحرية السعودية، إلا أنّ محكمة القضاء الإداري المصري أصدرت حكمها في 21 يونيو 2016 ببطلان توقيع الاتفاقية، وأيدتها في ذلك دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا بحكمها الصادر في 16 يناير 2017، فيما أقر البرلمان المصري الاتفاقية في 14 يونيو 2017، رغم معارضة معظم الأعضاء، وحتى الآن لا زالت القضية معروضة أمام المحكمة الدستورية المصرية العليا.
وحسب باراك رافيد المراسل السياسي لموقع “واللا” فإنّ السعوديّة ترغب في إجراء تغيير جذريّ في نشاط قوّة المراقبين الدوليّة التي تعمل في جزيرتيْ تيران وصنافير. ونقل رافيد عن مصادر إسرائيليّة رفيعة قولها إنّ دولة الاحتلال على استعداد لدراسة المطلب السعوديّ، ولكنّها تشترط ترتيبات أمنيّة بديلة، بالإضافة إلى خطوات تطبيعيّة بين الكيان والسعوديّة، لافتًا في ذات الوقت إلى أنّ الموضوع المركزيّ في المفاوضات التي تدور حاليًا بين أمريكا والسعودية ومصر وإسرائيل، يدور حول مستقبل المراقبين الدوليين الذين ما زالوا موجودين بالجزيرتيْن، للتأكد من حرية الملاحة في مضائق تيران وعدم المسّ فيها. وحسب المصادر نفسها فإنّ السعوديين وافقوا أنْ يحافظوا على الجزيرتيْن كمنطقة عازلة، دون وجود قوّات عسكريّة، وتعهّدوا بالحفاظ على حريّة الملاحة الكاملة لجميع السفن في مضائق تيران، وهذا ما تريده إسرائيل أساسًا، وقد سبق أن فرضته على مصر ضمن اتفاقية كامب ديفيد، ولكن إسرائيل – كعادتها بألا تعطي شيئًا مجانًا – فإنها تطلب مقابلًا جرّاء موافقتها على المطالب السعوديّة حول الجزيرتيْن، مثل اتخاذ عدّة خطوات في التطبيع بينها وبين السعوديّة، من بينها السماح لشركات الطيران الإسرائيلية بعبور الأجواء السعودية نحو الهند وتايلاند والصين، وكذلك رحلات مباشرة إلى المملكة ليتمكن المسلمون في الكيان من السفر بسهولة لأداء فريضة الحج، حيث تسمح السعودية الآن بمرور الطائرات الإسرائيلية عبر جزء من أجوائها الشرقية في الرحلات الذاهبة والقادمة من وإلى الإمارات والبحرين.
وإذا كان الأمريكيون لم يتمكّنوا حتى اللحظة من التوصل إلى تفاهمات بين إسرائيل ومصر والسعوديّة حول الجزيرتين، إلا أنّ المفاوضات بين الأطراف الثلاثة ما زالت مُستمرّة، في وقت شهدت الساحة المصرية اعتراضات واسعة ضد التنازل عن الجزيرتين، ونشط من جديد وسمٌ دشّنه نشطاء مصريون حمل عنوان “تيران وصنافير مصرية”، أكدوا فيه أنّ الجزيرتين ستعودان إلى السيادة المصرية عاجلًا أم آجلًا. ولم تفاجئ الأخبار الجديدة بعض النشطاء الذين أكدوا أنّ اللعبة كانت مكشوفة منذ البداية، إذ الهدف لم يكن سيادة السعودية على الجزيرتين، بل الهدف كان تثبيت السيادة الإسرائيلية عليهما. وبرأي الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة فإنّ “إسرائيل تحاول استخدام هذه القضية كسنارة لاصطياد السعودية وإجبارها على التطبيع الكامل معها، مثلما فعلت مع دول عربية أخرى”. ولم تكن النخبة المثقفة وحدها التي وقفت ضد القرار، فقد شاركت نقابة الصحفيين المصرية عام 2017، في وقفة احتجاجية، شارك فيها العشرات اعتراضًا على مناقشة البرلمان المصري اتفاقية إعادة تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، التي تقر بسيادة الأخيرة على الجزيرتين. وربما كان الصحفي عبد الناصر سلامة رئيس تحرير صحيفة “الأهرام” السابق، أبرز من اعترض على التنازل عن السيادة المصرية عن الجزيرتين، عندما كتب مقالًا ناريًا على صفحته في فيسبوك، تناول فيه ما رآه – برأيه – أخطاء مصرية قاتلة، منها التنازل عن الجزيرتين. واعتقلت السلطات المصرية عبد الناصر سلامة، يوم 17 يوليو 2021، فيما قالت النيابة المصرية إنه تقرر حبسه على ذمة التحقيق 15 يومًا، لكنه لم يظهر حتى الآن. وحقيقة فإنّ مقال سلامة “القنبلة” أثار جدلًا واسعًا بين متابعيه الذين أشادوا به وأشفقوا عليه، وقوبل مقاله بشكل جيد من قبل المعارضين السياسيين خارج مصر وداخلها، باعتبار أنه من النادر أن يتخطى كاتب يعيش داخل البلاد “القيود المفروضة”، فيما لقي هجومًا عنيفًا من البعض. وما يُحسب لعبد الناصر سلامة أنه كان ينتقد الأوضاع من داخل مصر، ولم يغادرها إلى دول أخرى مثلما فعل الآخرون؛ وعندما أوصدت صحيفة “المصري اليوم” الباب أمام نشر مقالاته، استمر في نشرها على صفحته الشخصية على فيسبوك. ومن قراءتي لمقاله ذلك، كنتُ أحسّ وأنا أغوص بين سطوره بما يعتمل في قلبه من حرقان، فالكاتبُ أصلا هو إنسانٌ تعتريه ما تعتري كلّ البشر من أحاسيس فرح وغضب وثورة، وفي القضايا العامة فهو أكثر التصاقًا بها، وكثيرًا ما حدث أن يكتب كاتبٌ غيورٌ مقالًا قد يُرفض حينها من البعض ويُرى أنه قد تخطّى الخطوط الحمر، فإذا الأيام تثبت صحة توجهه.
هكذا يبدو أنه في حال الاتفاق على نقل الجزيرتين إلى السيادة السعودية بالشروط الإسرائيلية – وهو المتوقع – فسيكون الاتفاق أهم إنجاز للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ “اتفاقيات أبراهام”، التي توسطت فيها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وأدت إلى اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، وتكون المنطقة مقبلة على انفتاح وتطبيع كبير بين العرب والكيان الصهيوني، وهو ما توقعه موقع “أكسيوس” من أنّ التوصل إلى اتفاق بشأن نقل تبعية الجزيرتين إلى السعودية، يمكن أن يكون “خطوة أولى” على طريق تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل، ويمكن أن يبني الثقة بينهما ويخلق انفتاحًا على العلاقات الدافئة بين البلدين اللتين لا تربطهما علاقات دبلوماسية رسمية؛ فالسعوديةُ حريصة على عدم إضفاء الطابع الرسمي على هذه العلاقات، مشترطة حلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومهما كان من الأمر، ففي رأيي أنّ بقاء الجزيرتين تحت السيادة المصرية أضمن بكثير من انتقال سيادتها إلى السعودية؛ فحالةُ الحرب بين إسرائيل والعرب لم تنته بعد، ومن المبكر جدًا الحديث الآن عن نهايتها.
زاهر بن حارث المحروقي