أقامت الجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم يوم السبت (11 رمضان 1442هـ – 24 إبريل 2021م) محاضرة بعنوان: (المواقف التربوية المستوحاة من آيات المواريث)، للشيخ إبراهيم بن ناصر بن سالم الصوافي (أمين الفتوى بمكتب المفتي العام لسلطنة عمان).
بدأ المحاضر ببيان أن في آيات القرآن الكريم وسوره مواقف تربوية كثيرة لمن تدبرها، وتعمق في فهمها، ومن ذلك الآيات التي تتحدث عن المواريث.
ثم بين أن الآية السابعة من سورة النساء: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبًا مَّفۡرُوضًا﴾ جاءت بعد أن ذكر الله في الآية السادسة قبلها اليتامى، وما يجب من المحافظة عليهم، وعلى حقوقهم، وحفظ أموالهم، وعدم الأخذ منها إلا لمن كان قائمًا عليها وكان محتاجًا فيأخذ بالمعروف، وأما إذا كان غنيًا فليستعفف، ثم تسليمهم إياها بعد أن يصلوا إلى سن البلوغ مع رشدهم.
ثم بعد ذلك انتقل المحاضر لتفصيل الحديث في قوله –تعالى-: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ﴾: في هذا تقرير لمبدأ العدالة، وأداء الحقوق إلى أصحابها، وميزان العدل ميزان تربوي يحتاجه الإنسان في كل موقف؛ لذلك شرع الله قائم عليه؛ ولذلك صُدِّرَت به الآية؛ لأن العدل هو الأساس الذي تستقيم عليه الأمور.
ونبه المحاضر إلى أن اللفظ الوارد في الآية وإن كان ورد في آية متعلقة بالمواريث إلا أنه يصلح أن يكون قاعدة عامة نبني عليها كل شيء؛ فكما يعطى الرجال حقوقهم كاملة فكذلك النساء تعطى حقوقهن كاملة؛ وفي هذا تحقيق للتوازن بين الجنسين.
ثم بين أن النص الأول: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ﴾ يؤسس أن للرجال نصيبًا من الميراث، وعندما ذكر ما يتعلق بالنساء استخدم نفس العبارة: ﴿وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ﴾ التي تؤسس أن للنساء نصيبًا من الميراث كذلك؛ وفي هذا ما يفيد العدالة بين الجنسين.
وقدم ذكر الرجال على النساء جريًا مع ما جاء في بقية آيات المواريث، وكذلك لأن الله خصهم بالقوامة التي تستلزم أداءهم حقوقًا، وقيامهم بواجبات مالية غير واجبة على النساء.
وذكر لفظتي: ﴿لِّلرِّجَالِ﴾ و ﴿لِلنِّسَآءِ﴾: لأن الآية لا تتناول حالة خاصة، بل هي بمثابة قاعدة عامة، والقرآن الكريم يعبر بالرجال والنساء عندما يكون الأمر عامًا وليس متعلقًا بحالة خاصة.
ثم انتقل المحاضر ليبين أن الله قد قدم الخبر: ﴿لِّلرِّجَالِ﴾ ﴿لِلنِّسَآءِ﴾: لبيان الخصوصية، والملك؛ فذلك نصيب محض خالص لهم، وهذا يقرر –كذلك- لمبدأ الملكية، والاستقلال، وحفظ الحقوق، وعدم الاعتداء عليها.
بعدها بين المحاضر أن الله نَكَّر كلمة ﴿نَصِيبٌ﴾: للتفخيم؛ فهذا الحق ذو شأن ومقدار عند الله ولو بدا لكم حقيرًا، وربما يكون التنكير للتقليل؛ فمهما كان ذلك الشيء قليلًا فيشمله الحكم، وكذلك حتى لا يُثَرَّب مَنْ طالب بحقه ولو كان حقه قليلًا، ولو كان من يطالب بحقه غنيًا؛ ففي هذه الكلمة دلالة على موقف العدل الذي أتى به الإسلام، وفيها إثبات الأحقية لمطالبة الإنسان بما له مهما قل.
ثم انتقل المحاضر إلى الحديث عن سر التعبير بالوالدين: ﴿ٱلۡوَٰلِدَانِ﴾ رغم أن الأب لا يلد، ولكنه هنا غلب جانب الأم التي تلد؛ لأن المقام مقام تعظيم وإجلال، ومن ناحية أخرى فلأن القاعدة عامة؛ فيبين هنا سبب الورث وهو الوالدية؛ فالأب قد يطلق على بعض الأشخاص الآخرين الذين لا يرثون.
بعدها تناول المحاضر ما يستفاد من ذكر ﴿وَٱلۡأَقۡرَبُونَ﴾: تشير إلى قضية القربى والرحم وأهمية الترابط فيما بينهم، ويشدد الإسلام على عظم حقوق الأقربين، ويفرض الإسلام لهم ما لم يفرضه لغيرهم، وسماهم الأقربين لأن فيه قربًا معنويًا ولا بد أن يتحول بعد ذلك إلى قرب محسوس؛ فالمجتمع قائم على القرابات التي لا بد أن تكون مترابطة؛ لتقوى بعد ذلك وشيجة الأمة؛ لأنها تقوم على تطبيق مبدأ تقوية الوشيجة بين الأقارب والأرحام.
ثم تعرض المحاضر لقوله –تعالى-: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ﴾؛ فأوضح أن القرآن الكريم يواصل استخدام التأكيدات على أهمية تنفيذ حكم الله في المواريث مهما كان هذا المال الذي يتعلق به الميراث قليلًا أم كثيرًا؛ لأن الله يريد أن ينصب ميزانًا للعدل؛ لأنه استقامة الحياة تتوقف عليه.
وقد بدأ الله بذكر القليل لأنه قد يهمل، ويحتقر، ولا ينتبه له كالمال الكثير؛ فنبه على أن قلة التركة لا تسقط الحقوق المتعلقة بها.
وأما قوله –تعالى-: ﴿مَّفۡرُوضًا﴾: فيفيد أنه من الله، ولا بد من الالتزام به، وإعطائه جميع من فرض له؛ سواء أكان قويًا أم ضعيفًا، رجلًا أم امرأة.
بعد ذلك انتقل المحاضر إلى الحديث عن الآية الثامنة من سورة النساء: ﴿إِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا﴾؛ فبين أنه إذا حضر وقت القسمة بعض الأقارب غير الوارثين أو اليتامى أو المساكين فإنهم يعطون من التركة على سبيل الاستحباب عند الجمهور، وإن كان أحد الورثة يتيمًا فإن الذين يحضرون لا يعطون من نصيبه وإنما يعطون من نصيب الورثة الآخرين. وفي إعطائهم مراعاة للنفسيات؛ فهم وإن لم يكونوا ورثة ويعلمون أنه لا نصيب لهم من التركة إلا أن نفوسهم قد ترغب في أن تحصل على شيء من ذلك المال؛ فإن لم تعط قد تتأثر سلبًا، ولكنها إذا أعطيت منه تحققت لها الراحة والسعادة. والالتفات إلى الآخرين ومراعاة نفسياتهم لا بد من الالتزام به في علاقة المرء مع غيره؛ فالمتحدث في مجلس عليه أن يوزع نظره عند الحديث بين الحاضرين، والأب في تعامله مع أولاده وأسرته، والمسؤول مع موظفيه، والداعية مع الناس، وهكذا.
وكذلك فإن إعطاء الحاضرين من المال المقسوم زرع للرحمة، والشفقة، والإعطاء، والبذل في سبيل الخير.
ثم علق المحاضر على أن في استخدام كلمة ﴿ٱلۡمَسَٰكِينُ﴾ إشارة إلى ما هم عليه من مسكنة؛ نتيجة قلة ذات اليد.
وقوله –تعالى-: ﴿فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ﴾: فاجعلوا لهم رزقًا منه، وهنا تساؤل: لماذا قال المولى –عز، وجل- هنا: ﴿فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ﴾، وفي الآية الخامسة من نفس السورة قال في أموال السفهاء: ﴿وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا﴾؟ لأنه هنالك يتكلم عن أموال السفاء أنفسهم؛ فيكون رزقهم فيها؛ ليدل على أن أموالهم تنمى لئلا تنقص؛ فيأكلون من الفوائد المترتبة على تنميتها. وقد عبر القرآن عن أموال السفهاء بـ: ﴿أَمۡوَٰلَكُمُ﴾ لأن منفعتها عامة لنا جميعًا.
بعد ذلك انتقل المحاضر إلى قوله –سبحانه-: ﴿ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا﴾: ولا تكتفوا بالإعطاء، ولكن اصحبوه بالقول الحسن دون منٍّ أو إيذاء؛ فإما أن تعطي مع قول حسن وإلا فَكُفَّ الأذى.
وفي هذا منتهى العناية بالحاضرين، والالتفات إلى من قد يكون بقربك محتاجًا دون أن تظهر عليه الحاجة فلا ينتبه له ولا يشعر به.
ثم تناول المحاضر بعض المعاني المتعلقة بالآية التاسعة: ﴿وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا﴾: وليخش الله الذين لو تركوا من بعدهم ذرية ضعفاء فإنهم يحبون أن لا تظلم ذريتهم، ولا يعتدى على حقوقها، فكما أنهم يحبون من بعد وفاتهم أن يحفظ غيرهم حقوق ذريتهم لو كانوا ضعافًا فكذلك عليهم هم أن يتعاملوا مع غيرهم لو تركوا ذرية ضعيفة؛ فيحفظون حقوقهم، ولا يعتدون عليها؛ فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)، وكما تدين تدان.
ثم انتقل المحاضر إلى الآية العاشرة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارًاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرًا﴾: في هذه الآية ربط وتذكير باليتامى الذين ذكرتهم الآية السادسة، وفي ذكر اليتامى بيان لشأنهم عند الله –تعالى-، ووجوب رعاية حقهم، والحذر من استغلال ضعفهم.
وذكرت الآية الأكل: ﴿يَأۡكُلُونَ﴾؛ لأنه يغلب به استخدام المال وإتلافه؛ ولذلك فإن الأكل يشمل أخذ المال بكل وجوهه وصوره، وعبرت الآية بالأكل؛ لأن صورة من يأكل مستحضرة أكثر من غيرها.
وقد استخدم الفعل المضارع الذي يفيد تجدد حدوث مثل هذه التصرفات.
وفي التقييد بذكر: ﴿ظُلۡمًا﴾ رحمة من الله؛ لأنه يمكن أن يكون أكلًا حلالًا لمن كان قائمًا على أموال اليتامى وكان محتاجًا فيأخذ بالمعروف، وأما إذا كان غنيًا فليستعفف: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾، وفيه رحمة بجواز خلط طعام اليتامى مع طعامهم مع قصد الإصلاح: ﴿وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡيَتَٰمَىٰۖ قُلۡ إِصۡلَاحٌ لَّهُمۡ خَيۡرٌۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 220]؛ فإذن المشدد فيه هو أكل أموالهم ظلمًا دون وجه حق، وإلا فالأخذ مقابل الجهد عند الحاجة لا بأس به.
وقال –سبحانه- ﴿ظُلۡمًا﴾؛ لكمال التشنيع على الآكلين؛ لأنهم يظلمون اليتامى الضعفاء الذين ليس في قدرتهم الدفاع عن أنفسهم.
وقوله –تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ﴾: يدل على أن ما يؤكل بغير وجه حق إنما هو حرام محض، وسحت، وهو عند بعض المفسرين: أكل مجازي لا حقيقي؛ فهو مجاز مرسل علاقته السببية؛ فالمراد: إنما يأكلون في بطونهم المال الحرام؛ الذي يفضي بهم إلى النار. وقال مفسرون آخرون: هم يأكلون في الآخرة نارًا حقيقية –كما جاء في بعض الروايات-؛ فالجزاء من جنس العمل.
وبين المحاضر أنه لا يمنع من الأخذ بالمعنيين؛ فما دام معنى الآية يحتمل الأمرين فيمكن توسيع دائرته طالما كان من غير تكلف؛ لأنه متعلق بكلام الله الذي لا يفوته معنى بخلاف شأن كلام البشر.
وذكر المحاضر تساؤلًا: لماذا ذكر ﴿فِي بُطُونِهِمۡ﴾ مع أن الأكل يكون في البطون؟ فأجاب: لأن في هذا الإطناب زيادة لتوضيح الصورة، ولتقبيح الأمر؛ لأن ذكر البطن مستقبح عند العرب.
وتنكير كلمة: ﴿نَارًا﴾ يفيد التفخيم.
وذكر بأن من قال إن الأكل حقيقي وليس مجازيًا استدل بقوله –تعالى-: ﴿وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرًا﴾، وذكر الله هذا العقاب: لزيادة تهويل جزاء آكلي مال اليتيم بغير حق، ولتأكيد سوء عاقبتهم يوم القيامة.
فإذن هذه الآية تشدد على مكانة اليتامى، وأهمية العناية بهم، وتربيتهم التربية السليمة؛ ففي ذلك الأثر العظيم، والأجر الكبير: (أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين).
كما أنها تحذر من الاعتداء على أموالهم، ومن ظلمهم فيها. كما أن فيها تقريرًا لمبدأ العدالة بين الأقوياء والضعفاء الذين لا يجدون من يدافع عنهم.
ثم انتقل المحاضر إلى بيان بعض الجوانب المتعلقة بالآية الحادية عشرة: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخۡوَةٌ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعًاۚ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾: فأوضح أن هذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي فيه توصية بالأولاد فيما يتعلق بالميراث؛ لأن من عادة الوالدين أنهما لا يحتاجان إلى توصية فيما يتعلق برعاية أولادهما؛ لأن الإنسان قد زرع فيه من الشفقة والحرص على الجانب المادي للأولاد ما لا يحتاج معه إلى توصية، عكس موقف الأولاد من آبائهم؛ لأن عاطفة الأولاد تجاه والديهم ليست كعاطفة الوالدين تجاه أولادهم، وقد تكون لديهم بعض المواقف السلبية تجاه والديهم أو تجاه أحدهما نتيجة لبعض الأمور السابقة التي تجعل الولد يقصر ويتعلل بها؛ لذلك فالقرآن اشتمل على كثير من الآيات التي توصي بحق الوالدين: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهًا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهًاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]، ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٍ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ. وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [لقمان: 14 -–15]، ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ٢٣ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا﴾ [الإسراء: 23 – 24].
وفي الآية الحادية عشرة من سورة النساء –موضوع الحديث- لم يقل المولى –جلت قدرته-: يأمركم، يحكم عليكم، بل قال: ﴿يُوصِيكُمُ﴾؛ فالوصية فيها معنى لطيف، فيه شفقة، وفيه بحث عن النافع لهم، وفيه اختيار الأفضل والأحسن والأكمل لهم.
وقد وصى الله الوالدين في هذا الموضع بأولادهم لأن الإنسان في لحظة الوفاة قد يحيف على بعض أولاده، وقد يقدم أحدهم على غيره لسبب ما، ولكن هذه الآية تقطع ذلك كله؛ فإذا كانوا أولادًا للإنسان فلا يجوز أن يميز بينهم، وأن يتصرف وفق هواه فيجور؛ لأن نصيبهم من الميراث قد حكم الله به، ولا فرق في ذلك بين الأولاد؛ سواء كانوا من امرأة واحدة أم من أكثر من امرأة، وسواء كانت أمهم تعيش أم متوفاة أم مطلقة.
﴿يُوصِيكُمُ﴾: تدل على التجدد؛ فهي وصية متجددة من الله.
﴿لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ﴾: تعبير دقيق لا يقوم مقامه أي تعبير آخر. وقد استخدم ﴿لِلذَّكَرِ﴾؛ ليبين أن الوصية لجميع الذكور؛ سواء بلغوا مبلغ الرجال أم كانوا صغارًا أم أجنة، وكذلك الإناث.
ولأن الحديث هنا يتناول حالات خاصة ويكون موتهم على التعاقب وليس كمثل الآية السابعة التي كانت تؤسس لقاعدة عامة فإنه استعمل هنا لفظي: ﴿لِلذَّكَرِ – ٱلۡأُنثَيَيۡنِ﴾.
وهنا طرح تساؤلًا: لماذا لم يقل الله: للأنثى نصف نصيب الرجل؟ فأجاب أن في استخدام القرآن بيان أن المرأة قد أعطيت نصيبها كاملًا، ولم تنقص منه شيئًا، وإنما لحكمة علمها الله ولنفقات واجبة على الرجل كان نصيبه مثل نصيب الأنثيين، ولم يقل الله: ضعف؛ لأن الضعف قد يزيد عن اثنين؛ وبهذا يتبين أن في استعمال القرآن تنصيصًا على حق الذكر.
وفي هذا –أيضًا- رد على المزاعم المغلوطة في أن الإسلام ميز الرجال على حساب الإناث، وأنه ظلمهن.
وفي قوله -عز، وجل-: ﴿مَا تَرَكَۖ﴾: رسالة تربوية موجهة إلينا؛ وهي أننا سنترك هذا المال شئنا أم أبينا؛ فعلينا أن نجمل في الطلب، وأن نحسن السعي، وأن لا يكون على حساب الواجبات والالتزامات الأخرى، وأن نأخذه من الحلال؛ فإن مما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة: (وعن مالِهِ: مِن أينَ اكتسبَهُ؟ وفيمَ أنفقَهُ؟).
وليس في ذلك دعوة إلى الزهد، بل على العكس؛ فالتملك ليس له حد، ولكن في الآية تنبيه إلى أن الإنسان سيترك ماله، وسيفارق ما جمعه، فعليه أن يراعي الله في طريقة كسبه، وأن لا يطلبه مما يحرم؛ فيضره في آخرته.
﴿وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ﴾: استعمل: ﴿وَلِأَبَوَيۡهِ﴾: لأنه يتكلم عن حالة خاصة؛ ولذلك لم يقل: ولوالديه. وكذلك فإن في استعمالها استعطاف؛ لأن (الأبوة) فيها تذكير بما تحمله الأبوين تجاه ولديهما، وما قدماه له من: التربية، والإحسان، والمعروف؛ الذي تقدم منهما إلى ولدهم؛ لذلك لا يستثقل أن يكون لهما نصيب من ماله بعد وفاته. وفي ذلك الاستعمال رسالة إلى أن الصغير قد يموت قبل الكبير؛ فلا تغتروا بالشباب، ولا ينفق المرء شبابه في سبيل الطاغوت؛ مثلما يقول بعضهم: دعه يتمتع بشبابه، ويقصدون: أن يفعل ما يحلو له دون مراعاة ضوابط الدين، والتمتع بالشباب إنما يكون في طاعة الله، وفيما أباحه، لا ما في حرمه، وإلا فما يتصوره بعض الناس من أن للإنسان أن يفعل في شبابه ما أراد، فإذا فترت شهواته، وخارت قواه، جعل لله آخر حياته هو تصور غير صحيح؛ فهل يضمن الإنسان أن يمد في عمره حتى يتوب؟ وهل يضمن أن يوفق للتوبة؟ وهل في زمن الفتوة والقوة يوجه ذلك إلى ما يغضب من أنعم عليه كل النعم، وأمره بعبادته، ثم عندما ينتهي من تضييع شبابه، ويتعب يقول لله: هذا ما بقي، وهو لك؟ ﴿تِلۡكَ إِذٗا قِسۡمَةٞ ضِيزَىٰٓ﴾ [النجم: 22].
وكذلك فإن في الأحكام المذكورة في الآية مراعاة للأحوال؛ فإذا كان للمتوفى ولد فإن الشارع الحكيم يراعي الطبائع؛ فبما أن الوالدين في إدبار والأولاد في إقبال لم يزد حقهم عن السدس؛ لأن حاجة الولد من الجنسين إلى المال أكثر؛ فحتى لا يجحف حقهم أعطاهم نصيبًا أكبر، ولكن في الوقت نفسه لم ينس الوالدين، وضرورة وصلهم؛ فأعطاهم ما يتناسب مع وضعهم.
﴿فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ﴾: في ذلك إشارة تربوية لمن قدر له أن يكون عقيمًا لا ولد له؛ فعليه أن يصبر، وقد جعل الله له أحكام تخصه، وفي ذلك –أيضًا- تعزية وتصبير لمن فقد ولده وترك والدين؛ فإذن جاءت الآية لتشمل الحالات المختلفة، وترسم صور الحياة كما هي في دنيا الناس وعالمهم.
وقوله –تعالى-: ﴿ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ﴾: فيه إرشاد إلى ضرورة الاعتناء بحقوق الناس، وردها، وتعظيم لشأن الوصية؛ حيث ذكرها الله، وجعلها مقدمة على الميراث. وقد قدم الوصية لعدة أسباب:
لأن الوصية أكثر من الدين؛ فكثير من الأحوال التي يتوفى فيها الأشخاص يكون لا دين عليهم، ولأن المقام مقام ذكر الوصية، ولأن الاعتناء والاهتمام بها قد يكون مهملًا عكس الدين الذي يوجد من يطالب به.
وتنكير كلمتي: ﴿وَصِيَّةٍ – دَيۡنٍ﴾ يفيد التفخيم والتعظيم؛ فهما مقدمان على تقسيم المواريث، وقد يفيد التنكير التقليل؛ فمهما كانا قليلين يجب الاعتناء بهما، والالتزام بأحكامهما. ويصلح توجيه ما يقتضيه التنكير للأمرين معًا.
وفي قوله –تعالى-: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ﴾: تأكيد على ضرورة مراعاة هذه الأمور المفروضة من الله –تعالى-؛ فلا تتلاعبوا فيها، ولا تتحايلوا؛ فهذه أحكام الله، ومن تظنون أنه أقرب نفعًا إليكم قد يكون ضرره أكبر من غيره إذا صدكم عن الحق أو جعلتموه سببًا لصرفكم عن الالتزام بشرع الله؛ فقد يكتب المورث لمورثه أن عليه له كذا وكذا عن ضمان وهو لا ضمان عليه في الحقيقة؛ ليمرر ما أراد؛ فيكون ذلك سببًا للإضرار به، ونيله عذاب الله، وسخطه؛ فعلى الإنسان أن يراعي في تعاملاته مع أقاربه وغيرهم العدل، والإنصاف، دون حيف، أو إجحاف، أو إضرار، أو محاباة، ولا يصح له أن يوصي لوارث إلا عن حق لازم له عليه.
ولا يصح –كذلك- للمورث أن يحرم مورثه من نصيبه حتى لو كان الوارث عاصيًا، وقد يكون نيله نصيبه من الميراث سببًا لهدايته؛ لذلك ما يتعلق بأحكام المواريث هو حكم من الله، وقسمة ربانية لا يجوز المساس بها؛ ولهذا فلا مراعاة لعاطفة إذا كانت على حساب الالتزام بأحكام الدين.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾: فأفضل شرع ما جاء به الله، وأحكمه ما كان منه؛ فهو يعلم ما فيه خيرنا ونفعنا في الدارين ما لا تستطيع جميع العقول أن تقترحه وتتوصل إليه؛ فالله عليم بخلقه، حكيم في شرعه.
ثم فتح باب الأسئلة، ومن الفوائد التي تضمنتها الأجوبة: أن استخدام كلمة ﴿ٱلسُّفَهَآءَ﴾ في الآية الخامسة من السورة: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمًا﴾ هو استعمال رائع، وفيه وصف دقيق؛ لأن السفيه هو من لا يحسن التصرف في ماله، وفي هذا الاستعمال إشارة إلى عظم المال؛ فعدم المحافظة عليه وتضييعه من السفاهة التي لها أشكال متعددة ومنها هذا؛ فلا بد أن يحافظ الإنسان على ماله، ولا يبذره؛ فبه قوام الحياة، وإلا حجر على صاحبه التصرف فيه، ووكل شخص ليتولى رعاية أمواله، والإنفاق عليه منها.
وجاء كذلك في الأجوبة: أن الآية التاسعة اختتمت بقوله –تعالى-: ﴿وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلًا سَدِيدًا)؛ لتدعو من تسول لهم أنفسهم أن يتذكروا لو تركوا ذرية ضعافًا كيف يريدون أن يتعامل معهم من يتولى أمرهم؟ وهذا الختام يفيد أن تلك المعاملة الحسنة يجب أن تشمل: الأقوال، والأفعال؛ فكما أنهم لا يفعلون السيء كذلك يقولون القول العدل الذي يحفظ شتى الحقوق.