التوحيد يعني أن هناك إلهاً واحداً لا شريك له في خلقه وتفرده في صفاته، حيث فصّل القرآن الكريم فاعلية الإيمان وترسيخ هذا الاعتقاد بوحدانية الله تبارك وتعالى، القرآن الذي يعتبر هذا التوحيد والإيمان الاعتقادي “حجّة” على الخلق لا فضيلة لهم، قال تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنّى يؤفكون).
وعند تأمل القرآن الكريم لوجدنا تفاصيل التوحيد راسخة في آياته، حيث تضمن كتاب الله العزيز شرائع من الأمر والنهي وغير ذلك، قال تبارك وتعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون)، فالإيمان هو الإقرار والتصديق وإفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة، حتى في هذه اللغة العربية التي نقرأها ونتحدّث بها، سنجد هذه البنية للتوحيد. فالجملة العربية إمّا جملة خبرية أو جملة إنشائية، والجملة الخبرية يترتّب عليها إمّا تصديقٌ أو تكذيب. أما الجملة الإنشائية فيترتّب عليها قبولٌ أو رفض، وعلى هذا يكون توحيد الاعتقاد من جنس الخبر، فأنت حين يخبرك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن الله واحد أحد، وأنه خالق كل شيء، وأنّه سميع بصير، وأنه فعّال لما يريد.
واستكمالاً لدراسة التوحيد في نهج إمام وشيخ المجددين محمد عبده وكتابه “رسالة التوحيد”، لا بد من فهم المدارس وطبيعتها التي كانت في ذاك الزمان القريب نسبياً، ومع ظهور المذهب الأشعري الذي يعتبر نقطة تحول هامة في التاريخ والفكر الإسلامي بصفة عامة، وعلم الكلام الذي شرحناه موسعاً في الجزء السابق، على وجه الخصوص، حيث أصبح هذا العلم علماً معترفاً به كعلم من علوم الدين، هذا المذهب بعد تخلي الإمام أبو موسى الأشعري (أبو الحسن علي بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، 260 هـ) عن الاعتزال في القرن الرابع الهجري، بالتزامن مع قيام علم الكلام ونصرة العقائد بالأدلة العقلية إلى جانب الأدلة النقلية وذلك في نسق عبادي متكامل، فالأشاعرة رأيهم أن الله تعالى ليس كمثله شيء، واحد عالم قادر حي سميع بصير لا يشبه في ذاته ولا صفاته شيء، ولا يشبه شيئاً، حيث ظلت هذه المدرسة على مر التاريخ وإن ظهرت بعض الاختلافات بين المتقدمين والمتأخرين لكن كلها لم تخرج عن النسق الذي تم رسمه عند تأسيس المدرسة الأشعرية.
ويذكر كتاب الطبقات مؤلفات الاشعري وهي في غالبها ردود على أصحاب الديانات الشرقية والمنكرين للألوهية، والفلاسفة والرد على المعتزلة وغيرهم، ومن أشهر الكتب في ذلك “الإبانة عن أصول الديانة” وكتاب “اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع”.
ولا ننسى أنه من بين المفكرين المعاصرين الدكتور محمد عمارة هو الباحث المَنهجي الموضوعي، الذي يخدم العلم، ويحترم المنهج، وقد حمل عقلية الفيلسوف، وقلب الصوفي، وانضباط الفقيه، وحماس الداعية، ورقَّة الأديب، وعزيمة المقاتل، وعلى مدار أكثر من رُبع قرن، اهتم محمد عمارة بتراث مدرسة “الإحياء والتجديد”، وهو الاسم الذي يُطلق على مدرسة جمال الدين الأفغاني والشيخ المجدد محمد عبده وما تفرّع عنهما، وامتد اهتمام عمارة إلى أعلام النهضة المصرية بعموم، فأخرج الأعمال الكاملة لعدد من هذا الجيل مثل جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، وغيرهم.
وتعد الإلهيات الفكرة الأبرز في تجديد الفروق الكلامية بين الفرق المختلفة، ولنصرة هذه الفكرة أو تجسيداً لهذا الرأي، استعمل كل فريق ما شاء من الأدلة ليزيد من عضد رأيه ونصرةً لمذهبه، ففكرة التوحيد تعتبر من أهم المحاور التي شغلت الفرق الكلامية منذ نشأتها إلى الوقت الحاضر، وبخاصة المعتزلة والأشاعرة، فالأشاعرة ساروا على النهج الوسطي القائم على العقل والنقل كما أشرنا، وقالوا بأنها صفات أزلية إذ لو كانت حادثة لأحدثها لله في ذاته وهذا محال، ولذا قالوا بثبوت صفات الذات والله تعالى قادر على كل شيء، لكن الشيخ محمد عبده فقد سلك منهجاً عقلياً في معالجته لفكرة التوحيد من خلال كتابه “رسالة التوحيد” وذلك لعرضه لعلم التوحيد وغايته ويقول في هذا الشأن: (الغاية من هذا العلم القائم بفرض مجمع عليه وهو معرفة الله تعالى بصفاته الواجب ثبوتها، مع تنزيه عما يستحيل اتصافه به، والتصديق برسله على وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتماداً على الدليل لا استرسالاً مع التقليد وفق ما أرشدنا إليه الكتاب، فقد أمر بالنظر واستعمال العقل فيما بين أيدينا من ظواهر الكون).
وبالتالي هنا اللمسة الأشعرية لموقف الشيخ محمد عبده من علم التوحيد وإثبات وجود الله تعالى وصفاته التي أثبتها لنفسه، إلا انه لا ينزل من قيمة العقل في الاستدلال على الإيمان بالله ووحدانيته، ويقول شيخ المجددين حول ذلك: (فالإسلام في هذه الدعوة المطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سو الدليل العقلي)، فالشيخ عبده سلك مسلكاً مستقلاً في معرفة الله فلم يتقيد بمذهب من المذاهب ولم يخرج عما يمليه عليه عقله، ويصل إليه تفكيره، إمام المجددين صاحب فكر مستقل، كما سلك الإمام في الاستدلال على وجود الله عز وجل مسلكين، الأول مسلك الفلاسفة وخلاصته أن الموجود إن كان واجباً فهو المطلوب، والمسلك الثاني، هو مسلك المتكلمين وخلاصته أن هذا العالم حادث ولا بد له من محدث الذي هو الله تبارك وتعالى، أما الوحدة فيثبتها برأيه العقلي فيرى أنه مما يجب الاعتقاد به استحالة التركيب في حقه تعالى، ويرى أيضاً استحالة أن يقبل الواجب القسمة لأنه لو قبل ذلك لعاد إلى غير وجوده الواجب، وصار إلى موجودات متعددة فيكون بذلك قبولاً للعدم أو تركباً وكلاهما محال، فالتوحيد لا نجد فيه اختلافات كثيرة بين آراء المتكلمين الأوائل سواء من الأشاعرة أو من الإمام محمد عبده.
فالتوازي بين الآراء الاشعرية وما حمله الشيخ عبده في رسالة التوحيد في التوفيق بين العقل والنقل والبرهان على المسائل العقدية أوضحها بأسلوب بعيد عن الجمود والتقليد، وفي كتابه ظهرت هذه النظرة جلياً التي أعادت للعقل العربي مكانته في الوصول إلى المفاهيم العقائدية التي يمكن إثباتها بالدليل العقلي، حيث ابتعد الإمام عن التأويلات اللفظية والفلسفية للنهوض بخطاب متجدد يساهم بالنهوض بالأمة وتحرير عقلها من الخرافات ويسهم إسهاماً كبيراً في إصلاح العقيدة، خاصة عند عرضه لمفاهيم النبوة وما يتعلق بها كالفرق بين النبي والرسول وصفات المعجزة وكيف تدل على صدق صاحبها، وما يجب للأنبياء من صفات وما يستحيل منها، والاعتقاد برسالة خاتم الأنبياء والتصديق بما جاء به وأن القرآن معجزة خالدة، وقد أملت جميع الأفكار التي طرحها الشيخ عبده في كتابه التوحيد بتبيين حاجة البشر إلى الرسل والغاية من ذلك لنشر الأمن والمحبة والعدل وتأسيس قواعد التعليم والإرشاد والتوجيه، حيث يذهب الإمام إلى قيمة العقل بالمدى الأوسع من خلال إثبات نبوة الرسل للإيمان بها وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الصادق فيما بلغ به.
وبالتالي إن الإمام عبده في منهجه يضفي على هذه المفاهيم النزعة العقلية البعيدة عن شوائب الأهواء والنزاعات من خلال تمسكه بالعقل والذهاب به إلى أبعد الحدود دون إغفال النص، ولا يأخذ من الفلاسفة إلا ما يخدم الإسلام المسلمين أمام تحديات التقدم والتطور، وبرأيه في ذلك أن النبي لم يطلع أحداً على دقائق معارفه في مقام الألوهية والربوبية إلا الله تعالى والنبي نفسه، وإن ما وصلنا من شرعه، وما يصرح بثبوت الإلهيات والنبوة والمعاد بأقاويل مقدسة لكنها حملت أوجهاً كما حملها الناظرون كل حسب اعتقاده، ما يجعل الرؤية التجديدية للإمام هي الطابع العقلي المعتمد على الفلسفة من دون استبعاد النظرية التوفيقية المبنية على العقل والنقل، وبرأي الإمام أن التوحيد يجعل عمل الإنسان منسجماً مع عقيدته فلا يمكن أن تنفصل العقيدة عن العمل للوصول إلى الاقتناع بالعمل الصالح، ومن هنا تظهر استقلالية العقل والرأي في الإسلام للوصول بالإنسان إلى كمال قيمته وكمال إنسانيته.
وقد تكون الحالة التي واجهها محمد عبده آخر حياته عندما شدد على أن جميع مواقفه من المجتمع والدولة كانت مهمومة “بروح الدعوة”، إذ كان يتحسس ويدرك ويحدس قيمة “الروح” في الدعوة، بوصفها دعوة إصلاحية، أي أنه كان يسعى لدفع الفكرة الإصلاحية صوب تكاملها الفلسفي. وليس مصادفة فيما يبدو سعيه أواخر حياته لجمع وتنسيق محاضراته الكلامية في (رسالة التوحيد)، كما لو أنها الملاذ الأخير لروح الدعوة الإصلاحية، في محاولة منه لتطويع فكرة التوحيد ضمن سياق رؤيته الإصلاحية، أي تحريرها من الاختمار بمعايير الرؤية السياسية، من منطلق الاعتدال في تفكيره، فقد تضمنت الصيغة الهادئة “لرسالة التوحيد” بين جوانحها هدوء محمد عبده وسكونه، من منطلق أن الزمن يندثر لكن التاريخ يبقى، وليس هناك من فكرة جوهرية في تاريخ الإسلام أكثر أهمية من التوحيد. بل هي الفكرة التي شغلت في الواقع كل تفكير جرئ في محاولاته البحث عن علة العلل أو ترابطها في الوجود والزمن.
لقد أراد شيخ المجددين محمد عبده القول، بأن ما يضعه هو فكر أقرب إلى حالة الإسلام الأول في موقفه من فكرة التوحيد، وبالتالي إن حقيقة الإسلام من وجهة نظر محمد عبده، تقوم في توحيد الفضائل والصالحات والنظام، أي الفضيلة والفائدة والقانون. وتشكل هذه القيم الجوهرية الحياة المثلى في مستواها الفردي والاجتماعي والثقافي على السواء. من هنا جاء استنتاجه بأن حقيقة الإسلام ترمي إلى تأسيس حرية الفكر واستقلال العقل وصلاح السجية واستقامة الطبع وإنهاض العزائم إلى العمل، لكن الأهم أن الإمام طرح فكره هذا ليس من منطلق ذاتي، بل بدافع الخير للأمة وتقدمها، فسياق رسالة التوحيد هو سياق الإصلاح والدعوة الإصلاحية بنظرة تخدم العقل وتزيد من قيمته.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان