كثيرون، خاصة بين الإسرائيليين، لم ينتبهوا إلى ما سبق أن كتبه “ياسونارى كاواباتا” اليابانى الحائز على جائزة نوبل للآداب وتساءل فيه عن “كيف يمكن إقناع العظام المحترقة أن تنسى”. كواباتا كان يتحدث عن أهالى هيروشيما اليابانية الذين أحرقتهم القنبلة النووية الأمريكية عام 1945 فى نهاية الحرب العالمية الثانية. نقرأ ذلك الآن ونحن نتابع حجم التدمير الهائل والعشوائى والاستهداف الإسرائيلى للأبراج السكنية فى قطاع غزة، وقبلها ثلاثة حروب إسرائيلية على نفس القطاع، ناهيك عن عدوان يونيو 1967 على مصر وسوريا، وبعده جرائم إسرائيل ضد المدنيين فى سنوات الاستنزاف (مدرسة بحر البقر – مصانع أبو زعبل)، ناهيك عن غزو الأمريكيين للعراق واحتلاله وتدميره والانتقال إلى تدمير ليبيا وسوريا واليمن، وسنجد أن أكثر من هيروشيما شهدتها أرض العرب، لكن العالم لا يعبأ بقتلانا بقدر ما يؤمن بحق إسرائيل فى الدفاع عن النفس، دون اكتراث بأن الأرض التى قامت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلى هى أرض عربية محتلة وأن شعب هذه الأرض له كل الحق فى الدفاع عن نفسه.
الحرب الأخيرة أكدت هذا الانحياز الأعمى، عندما قرر الرئيس الأمريكى جو بايدن تأكيداته بحق إسرائيل الدفاع عن النفس دون أن يتلفظ بكلمة واحدة أو أى أحد من أركان إدارته بأن للفلسطينيين أيضاً حق الدفاع عن النفس. الأروبيون هم أيضاً أخذوا نفس الموقف التمييزى ضد الشعب الفلسطينى، وعندما فعلوا ذلك كانوا يؤكدون، دون قصد عبثية الاستمرار فى مسار التسوية الفلسطينى – الإسرائيلى الذى بدأ بتوقيع “اتفاق أوسلو” عام 1993، الذى أخذت إسرائيل منه كل شئ، دون أن تعطى الفلسطينيين أى شئ، سواء تأسيس سلطة ألزموها بالتنسيق الأمنى مع كيان الاحتلال، أى أن تكون وظيفتها مسئولية حماية أمن إسرائيل، ولعل هذا ما يفسر كل خفوت الرفض الفلسطينى للاحتلال عكس الحال فى غزة التى تحررت من هذه القيود التى فرضها اتفاق أوسلو.
جاءت المواجهة الأخيرة أو المعركة الأخيرة أو العدوان الإسرائيلى بين الإسرائيليين والفلسطينيين فى القدس وقطاع غزة وما حققته من نتائج لتدق ناقوس الخطر ولتؤكد أن الانتقام واسترداد الحقوق لم يعد مستحيلاً، ولتذكر الإسرائيليين بما حذر منه الكاتب الإسرائيلى “ديفيد جروسمان” وخشيته من أن تكون “قبور الآخرين قبورنا.. لأن الموتى لا ينسون”. فى إعادة تأكيد للمعانى ذاتها التى تحدث عنها صاحب نوبل اليابانى “ياسونارى كواباتا” بأن العظام المحترقة لا تنسى.
هبة الفلسطينيين داخل أرض فلسطين المحتلة عام 1948 ، أى داخل إسرائيل، ويحملون الجنسية الإسرائيلية ويزيد عددهم عن مليون ونصف مليون فلسطينى تجاوباً مع صرخات الأقصى والقدس والتحاماً بالمعركة التى شنتها المقاومة من قطاع غزة دفاعاً عن القدس والأقصى كانت أهم المفاجآت، ولنقل أفضل أهم الاستجابات لمقولة “أن العظام المحترقة لا تنسى”. هؤلاء لم ينسوا ما حدث لآبائهم وأجدادهم الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلى، ولم ينسوا الملايين من آباءهم وأجدادهم الذين أجبروا على اللجوء فى شتى مناحى العالم طيلة الـ 73 عاماً الماضية التى هى عمر كيان الاحتلال الإسرائيلى منذ نكبة عام 1948. هؤلاء كسروا حواجز الجغرافيا التى فرضها الاحتلال وخرائط تقسيم الوطن الفلسطينى إلى أربعة أقسام هى: الأرض المحتلة عام 1948 (أى إسرائيل) والضفة الغربية والقدس المحتلة وقطاع غزة ، وضربوا عرض الحائط بكل قوانين الاحتلال وانتفضوا ضده فى معظم مدن هذا الكيان خاصة فى اللد والرملة ويافا وأم الفحم وغيرها، واندفعوا بالآلاف للالتحام بأخوانهم القادمين من مدن وقرى الضفة الغربية والتقوا معهم فى القدس دفاعاً عن الأقصى ودفاعاً عن قطاع غزة الذى أخذ يتعرض لأبشع أنواع التدمير والتنكيل عندما هب للدفاع عن القدس والأقصى.
كانت هبة أهالى فلسطين المحتلة عام 1948 وكسرهم حواجز الجغرافيا السياسية والنفسية بين كيان الاحتلال وباقى أبناء فلسطين فى الضفة الغربية والقدس وغزة وشتات اللجوء أهم مفاجآت المعركة الأخيرة مع مفاجأتين أخرتين سوف تفرض جميعها واقعاً جديداً يمكن أن نسميه واقع ما بعد “معركة سيف القدس” كما سمتها المقاومة.
كانت المفاجأة الثانية هى نجاح المقاومة فى غزة توصيل صواريخها إلى حيث تريد داخل الكيان وتدمير ما تريد داخله، ومكنته من كسر ركيزتين من الركائز الثلاثة الأهم التى قامت عليها نظرية الأمن الإسرائيلى هما أولاً نقل المعركة إلى داخل كيان الاحتلال وهو الذى عمل دائماً على فرض أن تكون المعارك التى تخوضها إسرائيل على أرض أعدائها، وثانياً إجبار الجبهة الداخلية على دفع الأثمان الفادحة للحرب على العكس من الإصرار الإسرائيلى على جعل الجبهة الداخلية بمنأى عن أى حرب نظراً لوعيهم بمدى هشاشة هذه الجبهة وخشية من انفراط الدولة وفرض خيار اللجوء إلى الخارج، وحتى الركيزة الثالثة فى نظرية الأمن الإسرائيلى وهى أن تكون الحرب التى تخوضها إسرائيل حرباً خاطفة حفاظاً على الاقتصاد الإسرائيلى بما يعنى أن إسرائيل هى وحدها من يملك قرار بدء الحرب ومن يملك تحديد موعد إنهائها، لم تنعم بها إسرائيل فى هذه المعركة، فقد كانت إسرائيل هى الأحرص على وقف الحرب، بدليل إضطرارها إلى التراجع عن قرار غزو قطاع غزة برياً، بعد أن أدركوا أن غزة ستكون مقبرتهم وأنهم سيعجزون من الخروج منها سالمين.
انتهت معركة “سيف الأقصى” بإحداث تحول إستراتيجى فى علاقات القوة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة ، ومن ناحية أخرى هذا التحول من أبرز معالمه أن إسرائيل وحدها لم تعد تملك قرار تحديد “قواعد اللعبة”، وأن مسار التسوية السابق الذى أخرج المقاومة الفلسطينية من معادلة توازن القوة وحولها إلى “إرهاب” بتعبيرات اتفاق أوسلو وعزل الشعب الفلسطينى عن المواجهة لم يعد ممكناً. لم يعد ممكناً التسليم بقانون القومية الإسرائيلى الذى يجعل فلسطين كلها بحدودها التاريخية دولة للشعب اليهودى دون غيره، ما يعنى تحويل الشعب الفلسطينى سواء من هم فى الضفة والقدس وغزة أو من هم داخل إسرائيل إلى مجرد أقلية عرقية مسلوبة الحقوق الوطنية. ناهيك عن أنه يضع نهاية مأساوية لحقوق اللاجئين فى العودة. لم يعد ممكناً التسليم باحتلال إسرائيل للقدس وتفريغها من سكانها وتهويدها وجعلها عاصمة لكيان الاحتلال، ولم يعد ممكناً التسليم بفرض السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، فالحرب الأخيرة لم تتفجر دفاعاً عن قطاع غزة بل تفجرت دفاعاً عن القدس ، خصوصاً بعد أن فشلت إسرائيل فى تحقيق أى من أهدافها من هذه الحرب الدامية خاصة هدف القضاء على المقاومة نهائياً واضطرت إلى تدمير المبانى السكنية عنواناً للفشل.
التحول الإستراتيجى الذى تحقق نتيجة هذه الحرب سيفرض حتماً مسارات أخرى بديلة لحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لن يكون من بينها مسار التسوية السابق، من أهم معالمها أن تحقق العدالة للشعب الفلسطينى وتحمى حقوقه المغتصبة وفى مقدمتها إقامة دولته المستقلة على كل الأرض التى أحتلت عام 1967 وعاصمتها القدس، فحقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم والعظام المحترقة لا يمكن أن تنسى أبداً من أحرقوها .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 25 / 5 / 2021م