في أوج الخلافة العثمانية، سيطر العثمانيون، مطلع القرن السادس عشر العام 1516، على جميع الأراضي الواقعة ضمن الجمهورية اللبنانية اليوم، مدة 400 سنة، سنّوا خلالها الأنظمة العسكرية والأمنية والإدارية والاجتماعية لتحسين البلاد وتنظيمها، حيث منحت الدولة العثمانية جبل لبنان، من دون بيروت والبقاع ومنطقتي طرابلس وصيدا، استقلالاً إدارياً بموجب “النظام الأساسي” الصادر العام 1861 بموافقة الدول الأجنبية، والذي تمّ تعديله العام 1864، وبقيت متصرفية جبل لبنان بقيت مستقلة عن ولاية بيروت حتى العام 1915.
من هذا المدخل يتبين لنا واقع تلك الحقبة وشكلها السياسي، حيث عانت لبنان في أواخر الخلافة العثمانية من مجاعة قاسية قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى وجلاء الأتراك عنه العام 1918، فقد خضعت البلاد عام (1915) إلى حصار تجويعي قاسٍ فضلاً عن انتشار المجاعة فيه بسبب الجراد. فتوفي الكثيرون من الجوع في بيروت وجبل لبنان، كما لجأ متوسطو الحال إلى بيع ممتلكاتهم بأبخس الأثمان لسد حاجاتهم، وفي نهاية العام 1917، سمح القائد الأعلى في الجيش العثماني جمال باشا بإرسال القمح إلى جبل لبنان، والعام 1918 انتهت الحرب العالمية الأولى وسيطرت الجيوش الفرنسية والبريطانية على لبنان، وربطاً مع واقع اليوم تتقاطع هذه الظروف مع الأوضاع الحالية التي يعيشها لبنان اليوم، وعودة التدخلات الأجنبية ذاتها وبقوة للتحكم بهذا البلد العريق مجدداً، عبر حصاره وخنقه وتجويعه، وإفشاله سياسياً في ظل غياب العمل السياسي والمشروع الواضح الذي أوصل البلاد حالياً إلى الحضيض.
الحالة السياسية الحالية تحتاج إلى عقلانية سياسية سبق وأن تحدث عنها الفيلسوف الراحل كما جنبلاط في كتابٍ مستقل، أحد أهم الشخصيات اللبنانية في زمنه، (6 ديسمبر/كانون الأول 1917 – 16 مارس/ آذار 1977) هو زعيم الدروز اللبنانيين ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، تولى قيادة الحركة الوطنية خلال الحرب الأهلية اللبنانية. إلى جانب ذلك، يعتبر مفكراً وفيلسوفاً وأحد الشخصيات اللبنانية المعروفة بدعمها للقضية الفلسطينية.
اللافت في شخصية الفيلسوف كمال جنبلاط أنه كان في كل الظروف التي مرّ بها في مُرّها الكثير وحلوها القليل، حتى في أثناء كل المسؤوليات الرسمية أو النضالية التي حملها. كان الفكر والأفكار والإنتاج الفكري وكما بدا للجميع جزءاً راسخاً من تكوينه وطبيعته وشخصيته، كشغفه بالأسئلة وبالمعرفة في كل باب، في قراءته مبكراً لكل لون من ألوان الثقافة، من أقصى اليمين الديني والسياسي إلى أقصى اليسار الماركسي والشيوعي كان طبيعياً بالتالي أن تنعكس قراءاته الواسعة وثقافته المتعددة الألوان وحيويته العملية والنضالية في شكل إسهامات فكرية من كل لون، وما لقب “المعلّم” الذي هو لصيق دائماً باسم كمال جنبلاط، أو الرديف المحبب للاسم الأصلي، غير إشارة ذات معنى رفاقي عميق للارتباط العضوي الذي جمع المعلم الشهيد إلى الفكر والأفكار في النظرية والممارسة، وللناس أيضاً لما في مفهوم المعلّم من أبعاد فكرية وأخلاقية وإنسانية رفيعة.
فلقد كان لاختصاصه الحقوقي وخدمته كنائب منذ فترة مبكرة (1943) مناسبة ظهر فيها الجانب السياسي في فكره، وكذلك اتساع اطلاعه وأفقه الفكري الذي لا يزال إلى الآن شاهداً على غنى فكره الحقوقي ومصادره الأصلية ذات المركز الأكاديمي المرموق. وكانت محاضراته وفي فترة مبكرة في مطلع الخمسينات مرآة لفكر أكاديمي حقوقي وسياسي مرموق من جهة، لكنه نقدي وطليعي أيضاً ولا يمكن قولبته في هذا الاتجاه التقليدي أو ذاك. وما نقده العميق في المحاضرات تلك (والتي جمعت في كتابه “الديمقراطية الجديدة”) لنوع الديمقراطية الغربية ولعيوبها غير بعض الدليل على أصالة فكره وعميق إسهامه السياسي حتى في المرحلة المبكرة تلك.
كتب الفيلسوف كمال جنبلاط: (بينما يتلهى معظم السياسيين بالقضايا العارضة من المجلس النيابي أو تبديل حكومة بحكومة، أو مأساة مصارف، أو تحسين علاقة لبنان بالنظام السوري أو سواها من القضايا الطارئة، يقوم في لبنان زحف لشعب لبناني شاب جدي في جميع المناطق، يتألف من عشرات آلاف طالبي العمل ومن المثقفين وأرباب الجيل الجديد، لا يرتبطون لا بقليل ولا بكثير بما يجري اليوم على الساحة السياسية اللبنانية. هذا الجيل الجديد أخذ يتمنطق بغير ما نألفه من مقاييس، وبدأ يتوجه إلى أهداف غير التي آلفها سكان السراي وأرباب الرياسات والسياسات. فالنواب والدولة ومعظم السياسيين هم في واد، تفكيراً وعملاً، وهذا الجيل الجديد في واد آخر. لا يرى الشباب أية بارقة أمل في ظل النظام السياسي القائم، ويطالب بقلب الأوضاع اللبنانية رأساً على عقب. قد لا يعرف هؤلاء ما هو الشيء الجديد، ما هي الدولة الجديدة التي يريدونها تختلف كلياً عن الدولة القائمة اليوم)، فما هو الفرق اليوم عمّا ذكره المعلم في الأمس عن الواقع الحالي، لا بل إن الواقع الحالي لربما أسوأ بكثير عمّا كان عليه سابقاً، لا بل تمادى الوضع أكثر مع المحاصصات الطائفية وتقديس الزعامات على حساب الشعب الذي يعاني دونما أي شعور من قبل الطغمة الحاكمة، وهذا ليس تدخلاً في شأن داخلي لدولة ذات سيادة، لكن كمثقفين ومتابعين لا بد من الإضاءة على هذا الوضع، فالأدلجة نظام يعاني منه كل ساسة لبنان، كمال جنبلاط كان درزياً لكنه لم يكن مؤدلجاً، فهل يوجد مثله اليوم حتى من جبل لبنان نفسه.
هذا الفيلسوف رحل عن لبنان غدراً، وبصرف النظر عن المسببات لمن أراد التخلص من فكر هذا المعلم، لكنه وضع أسس وقيم ومبادئ وأرساها في كتب خالدة، كانت لتكون مرجعاً أكاديمياً تُدرّس وتُطبّق في الحياة العملية سواء في القانون أو السياسة أو الاقتصاد أو الحالة الاجتماعية والتركيبة الديموغرافية التي يتشكل منها لبنان، لكن ومع الأسف الشديد وأكرر أن الأدلجة التي تتحكم في كل الزعامات دون استثناء هي أحد الأسباب الرئيسية والمباشرة لمعاناة لبنان إلى اليوم، هذا الفراغ الذي تعيشه لبنان نتيجة طبيعية لعدم الاستفادة من أفكار جنبلاط أو أنطون سعادة وحتى الزعماء الإسلاميين مثل محمد حسين فضل الله، لكن لماذا؟ ومن المستفيد؟ يُراد للبنان أن يبقى قابعاً في الظلام، تحت رحمة الأجندات الدولية والإقليمية، يُراد له أن يكون استقلاله شكلياً لا حقيقياً، ألم يكفي ما حدث له من حروب كالحرب الأهلية وحرب تموز وحرب عام 2000، لقد كان للفيلسوف جنبلاط آراء ومواقف ومشاريع في الإصلاح السياسي، فلقد كان حاضراً فكره في كل الموضوعات والمسائل الإنسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والفكرية العميقة.
ومع توليه الزعامة بدلت ملامح الجنبلاطية السياسية من العام 1977 حتى اللحظة الراهنة، بنى جنبلاط الابن نفوذه السياسي في شكل مختلف كلياً، ونسج علاقات متينة مع دول عربية، منها سوريا حيث شاب تلك العلاقة مد وجزر، وكمال جنبلاط امتلك مشروعاً سياسياً قوامه بناء دولة ديموقراطية حديثة لكنه لم يكن قادراً على تحقيق أهدافه بسبب بنية النظام الطائفي، الطائفية السياسية في لبنان تتحمل وحدها، وربما أكثر من ثمانين في المئة مسؤولية الأزمات السياسية المتلاحقة حتى اليوم، لذلك نجد أن الفيلسوف جنبلاط أكد في أطروحاته أن لا خلاص للبنان الا بالتخلص من الطائفية السياسية، مع العلم أنه ميَّز بدقة بين الطائفية والانتماء الديني. وفي الوقت الذي دعا فيه إلى القضاء على هذه الآفة، كان يطالب بتعليم ديني الزامي في المدارس الرسمية والخاصة سواء بسواء. كمال جنبلاط بقدر ما كان مفكراً سياسياً، كان مفكراً دينياً، وبقدر ما كان اشتراكياً، كانت اشتراكيته مستمدة من روح الإسلام والمسيحية. كان يعتبر المسيح أول اشتراكي، واعتبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الفقراء، لذا لم يخلط على الإطلاق، ولم يساوره الشك أن الطائفية السياسية مرض، بمقدار ما يشكل التدين الحقيقي ثروة للبنان وللمشرق العربي.
بعد رحيله دخلت الجنبلاطية السياسية في مسار نوعي مع الابن الوارث، إن لجهة التعامل مع الملفات الداخلية، وإن لجهة العلاقة مع المحيط العربي خصوصاً سوريا، فالظروف السياسية بينهما مختلفة، ومن بعد اغتيال جنبلاط الأب، وذروة العلاقة تمثلت في اتفاق الطائف، ثم في العملية العسكرية التي شنها السوريون وحلفاؤهم اللبنانيون في 13 أكتوبر/تشرين الأول عام 1990 لإخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا. نجاح هذه العلمية دشنّ عشر سنوات أخرى كاملة في التحالف الجنبلاطي – السوري، كان لوليد جنبلاط فيها دور كبير في ترسيخ العلاقات بين بيروت ودمشق. الاّ أن هذه المرحلة انكسرت منذ العام 1998 خصوصاً بعد التجديد للرئيس اميل لحود، الأمر الذي خلق شرخاً بين جنبلاط وسوريا. وقد ترافق ذلك مع تصاعد دور الرئيس رفيق الحريري لبنانياً وعربياً، فنشأ تحالف سياسي جنبلاطي – حريري مع سوريا، ولكن متميز عنها في الوقت نفسه. وما جرى بعد ذلك معروف، هذا الأمر انكسر ولا يمكن إصلاحه ومن الممكن القول بدأ من إغتيال رفيق الحريري وإلى يومنا هذا.
لقد ترك جنبلاط إرثاً فكرياً وثقافياً غنياً قلّ نظيره، وقد ظُلم كمال جنبلاط لأن الجهد الذي بُذل لحفظ تراثه ونشـر مبادئه وأفكاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية لم يكن كافياً ومنتظماً ومثابراً ومستمراً كي تصل الرسالة الى أوسع جمهور ممكن، ولا سيما جمهور الشباب والأجيال الطالعة، كمال جنبلاط أرسى دعائم الديمقراطية الشعبية، وأراد نهوض الإنسان وبخاصة اللبناني، لكن لا تفكير جمعي في لبنان، الأنانية هي السائدة، والطائفية لغة العصر، يحاربونها نظرياً وعلى الأرض يحدث العكس، كل فئة أو طبقة سياسية تفتقر إلى الانتماء الوطني بعكس المعلم جنبلاط الذي وضع الوطن أولاً قبل الدين وقبل كل شيء، لكن مع الأسف، في غياب المشروع الحقيقي وتجاهل تعاليم وعبر القدماء من الساسة لن ينقل بلادنا نحو ضفة الأمان أبداً، وما اغتيال الفيلسوف كمال جنبلاط إلا شاهد على أن البيئة التي نعيش فيها لا تريد مكاناً للرجال الحقيقيين، بل تريد المؤدلجون للاستثمار وخدمةً للمصالح الغربية والإقليمية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان