تحدثنا في الجزء الأول من بحثنا في موضوع “التشريع الجنائي الإسلامي”، عن نبذة تمهيدية توضح بديات القاضي والفقيه الدستور الشهيد عبد القادر عودة، وبعضاً من التفصيل عن هذا الكتاب ومقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي.
لكن، أن يخطو الكاتب لأن يضع موسوعة قانونية شرعية ووضعية وبتحديد أكثر، “جامعة مستقلة”، تكون مرجعاً لكل القانونيين والمهتمين بالمجالين الفقهي الشرعي والقانون، فهل لعبت الحالة السياسية في انطلاقة الشهيد لأن تنعكس بروائع ونفائس تركها لنا؟ وهل كان المجتمع المصري آنذاك يحظى بالديمقراطية التي يتوق إليها أي شعب، سواء في العهد الملكي أو الجمهوري؟
في عهد الملك فاروق (1920 – 1965) آخر ملوك المملكة المصرية، حيث كان المهمشون المستبعدون من الاشتراك في الحياة السياسية أكثر من 80٪ من السكان، فلا مشهد ديمقراطي حقيقي، إذ كانت تُصاغ القوانين وفقاً لأهواء الحاكمين الفعليين، وفي عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (1918 – 1970)، كان الوضع مختلفاً جداً، إذ قضى بضربة واحدة على سيطرة الإقطاع، ولكنه أيضاً قضى قضاءً مبرماً على نظام الأحزاب، واستعاض عنه بنظام الحزب الواحد، إذ رأى أنه لا فائدة من تنافس الأحزاب، وتبادل المراكز السياسية، مقابل حرمان الشعب من “لقمة العيش”، لكنه وبنفس الوقت قام بتهميش طائفة مهمة من المصريين، وهم المثقفون وأصحاب الآراء المخالفة لرأيه.
هذه الأوضاع أفرزت طبقتين من الشعب، طبقة فقيرة جلها من الفلاحين، وطبقة غنية، وهذا أمر طبيعي في ظل إطباق الاستعمار وبخاصة الانكليزي، أرخت بظلالها، وعتّمت على الحالة الاجتماعية السائدة، لكنها وبذات الوقت كانت القنبلة التي انفجرت لنشوء نهضة ثقافية من رحم المعاناة، ففي عهد الملك فاروق كان المعارضون يسمون بـ”أصحاب المبادئ الهدامة”، وفى عهد عبد الناصر كانوا يسمون بـ”الرجعية وأعوان الاستعمار”، من هذه الأجواء بزغ نجم الشهيد عبد القادر عودة كقانوني من الطراز الأول وإنسان ومسلم ووطني.
بالعودة إلى موضوعنا في شرح الكتاب الموسوعي “التشريع الجنائي الإسلامي”، كنا قد شرحنا بعض الفروقات والتوافقات والخلافات بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ففي الجرائم التأديبية والأخطاء الإدارية، يشير الكاتب إلى أن الفقهاء لم يفرّقوا بين الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية أو الأخطاء الإدارية، كما يفرق بينها القانونيين اليوم، وقلنا سابقاً وهذا يؤكد ذلك أن القانون الوضعي يتبدل ويتغير ولا يمكن له أن يبقى ثابتاً، والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة العقوبات في الشريعة من ناحية وإلى تحقيق العدالة من ناحية أخرى، فالجرائم في الشريعة إما أن تكون جرائم حدود أو قصاص أو تعازير، وأما الخطأ الإداري إذا لم يكن من جرائم القصاص أو الحدود فهو يقع ضمن جرائم التعازير، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أشد العقوبات في الشريعة هي على جرائم الحدود والقصاص، أما العقوبة التأديبية فتكون على سبيل المثال بفصل الموظف أو توقيفه عن العمل أو خصم من راتبه، وهكذا.
وفيما يخص الجريمة المدنية فلقد عرفها الفقهاء الإسلاميون لكن لم يطلقوا عليها هذه التسمية التي أطلقها الفرنسيون، فالأصل في الشريعة أن النفوس والأموال معصومة، والضمان في حال ارتكاب جرم إما عقوبة أو تعويض مالي، وفي هذا الشأن تتفق الشريعة مع القانون الوضعي، فهي تجعل الإنسان مسؤولاً عن كل فعل ضار بغيره، وساء كان القانون يعتبره جريمة أم لا.
أنواع الجريمة
تتفق الجرائم جميعاً في أنها فعل محرّم معاقب عليه، وكنا أشرنا إلى الجرائم هي حدود أو قصاص أو دية أو تعازير، وهنا يعني من حيث حجم الجريمة وخطورتها، أما من حيث قصد الجاني، فتكون جرائم عمد أو غير عمد، وبالتالي تقسم هذه بدورها إلى جريمة متلبس بها أو دون تلبس، وسلبية وإيجابية وبسيطة واعتياد ومؤقتة وغير مؤقتة، وجرائم ضد الجماعة وضد الأفراد، وجرائم عادية وجرائم سياسية، وبالتالي إن الفرق بين الجريمة التي نصت عليها الشريعة والعمل الذي يحرمه أولو الأمر، أن ما نصت عليه الشريعة محرم دائماً، فلا يصح أن يعتبر فعلاً مباحاً، أما ما يحرمه أولو الأمر فيجوز أن يباح في الغد، إذا اقتضى ذلك مصلحة عامة.
أركان الجريمة
إن الأوامر والنواهي هي تكاليف شرعية لا توجه إلا للعقلاء، وكما هو معروف أن التكليف خطاب موجه للعاقل، وعلى هذا تكون أركان الجريمة ثلاثة: الأول، أن يكون هناك نص يحظر الجريمة ويعاقب عليها وهو ما يعرف قانونياً الركن الشرعي للجريمة، والثاني، إتيان العمل المكون للجريمة سواء كان فعلاً أو امتناعاً، وهو ما يعرف بالركن المادي للجريمة، والثالث، أن يكون الجاني مكلفاً أي مسؤولاً عن الجريمة وهو ما يعرف بالركن الأدبي، وهذه الأركان يجب توفرها في كل جريمة حتى يمكن العقاب عليها، كركن الأخذ خفية في السرقة، وأما الفرق بين أركان الجريمة العامة والخاصة، أن الأركان العامة واحدة في كل جريمة، بينما الأركان الخاصة تختلف في عددها ونوعها باختلاف الجريمة، ويقسم الفقهاء الأحكام الشرعية إلى أحكام تكليفية وأحكام وضعية، الأول هو ما اقتضى طلب فعل من المكلف أو كفه عن فع أو تخييره بين فعل والكف عنه، قال تبارك وتعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وأما الحكم الوضعي هو ما اقتضى جعل شيء سبباً لشيء أو شرطاً له أو مانعاً منه كما جاء في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما).
القاعدة الشرعية تقول: (لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص)، والقاعدة الأخرى تقول: (الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة)، وهاتان القاعدتان تؤديان معنىً واحداً وهو أنه لا يمكن اعتبار فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك وإذا لم يرد هذا النص، فلا مسؤولية ولا عقاب، وتجدر الإشارة إلى أن هاتان القاعدتان أخذ بهما الحنفية والشافعية (المستصفى للإمام الغزالي جزء1 صفحة 63)، والجدير بالذكر أن هذه القواعد وجدت منذ 13 قرناً أما القانون الوضعي فلم يعترف بها إلا في القرن الثامن عشر ميلادي، حيث أدخلت في التشريع الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية.
مصادر التشريع الجنائي
من المتفق عليه بين جمهور الفقهاء أم مصادر التشريع، القرآن، السنّة، الإجماع، القياس، ويعبّر الفقهاء عن المصادر التشريعية بأنها الأدلة التي تُستمد منها الأحكام، ومن المتفق عليه أيضاً أن الحكم الذي يدل عليه من هذه الأدلة الأربعة هو حكم واجب الاتباع، لكن هناك وبذات الوقت مصادر أخرى مختلف عليها، فيراها البعض مصادر تشريعية أحكامها ملزمة، ولا يراها البعض كذلك، والمصادر المختلف عليها هي: الاستحسان، الاستصحاب، والمصلحة المرسلة والعرف، أما مصادر التشريع الجنائي الإسلامي فيما يختص الإجراءات الجنائية هي ذات المصادر التي سبق الكلام عليها، مع مراعاة أن بعضها متفق عليه والآخر مختلف عليه، والمصادر التشريعية الجنائية الإسلامية المقررة للجرائم والعقوبات هي أربعة، ثلاثة متفق عليها وهي: القرآن والسنة والإجماع، وأما الرابع وهو القياس فقد اختلف عليه العلماء، فرأي البعض أنه مصدر تشريعي جنائي، ورأى البعض أنه ليس مصدراً في تقرير الجرائم والعقوبات، مع الإشارة إلى أن القرآن والسنة هما أساس الشريعة وهما اللذان جاءا بنصوص الشريعة المقررة للأحكام الكلية، أما بقية المصادر فهي لا تأتي بأسس شرعية جديدة، ولا تقرر أحكاماً كلية جديدة، وإنما هي طرق للاستدلال على الأحكام الفرعية من نصوص القرآن والسنة لا يمكن أن تأتي بما يخالف القرآن والسنة لأنها تستمد منها وتستند إلى نصوصها.
وبالتالي إن نصوص القرآن في هذه المسألة قطعية لكن الدلالة قد تكون قطعية وظنية، فإن كان النص دالاً على معناه ولا يحتمل التأويل كانت دلالته قطعية كما في قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)، فدلالة ثمانين على العدد قطعية ودلالة أبداً على التأييد قطعية، أما في حال كان النص دالاً على معناه وكان يحتمل التأويل، فدلالته ظنية، كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، فلفظ القرء قد يعني “الحيض” وقد يعني الطهر، ودلالته على معناه ظنية لا قطعية فكلا المعنيين واردان.
من هنا إن أحكام الشريعة لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال، وما يميزها كما أشرنا في الموضوع السابق عن القوانين الوضعية أن أحكامها شرعت للدنيا والآخرة، فمزج الشريعة بين أحكام الدنيا والدين وإيمان المسلمين بها، ضمن للشريعة الاستمرار والثبات وبث في المحكومين روح الطاعة ودعاهم للتحلي بالأخلاق الكريمة وللشريعة قوة في الردع ليس لأي قانون وضعي آخر مهما أحكم وضعه وأحسن تطبيقه وتنفيذه، وهنا لا بد من ذكر أمر غاية في الأهمية وهو أن هذه المقارنة استناداً على الفقيه الشهيد عبد القادرة عودة لكن لا يعني ذلك أننا من باب النقد نوردها للتقليل من القانون الوضعي لكن كون ما يحكم أغلب بلادنا الشريعة الإسلامية بحكم أنها بلاد إسلامية اقتضى التوضيح، حيث يقول عودة في هذا الشأن: (لا نذكر ما ذكرنا للاستدلال على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وبطلان القوانين المخالفة لها، وإنما نذكره لنبين ما يقتضيه ويستوي عندنا، بعد ذلك أن يعترف الدستور الإسلامي أو ينكره، فإن اعتراف الدستور أو إنكاره ليس له قيمة ذاتية، والعبرة في هذا الأمر بالواقع وبحكم الدين الإسلامي نفسه، وحكم الدين الإسلامي أن لا قانون للمسلمين غير الشريعة، وأن الشريعة هي قانونهم ودستورهم الأساس).
أخيراً وليس آخراً، نجد أن أسلوب الشهيد عودة أسلوباً علمياً تميز بالشرح، والتحليل والنقد، والترجيح، مما يساعد على استيعاب الأفكار، والمعنى، مع مراعاة الظروف التي كُتب بها الكتب وذكر الكاتب نفسه شح المصادر لظروف تلك المرحلة، وبالتالي أراد عودة إظهار محاسن الشريعة، وبالتالي إن موضوع النظام الجنائي شكل منذ ذلك العصر إلى هذا اليوم، نقطة الخطر في النظام القضائي، لأنه يتعلق بجرائم الحدود، والتعزير، والكتاب الذي خصصته لهذه الغاية “التشريع الجنائي الإسلامي” يعالج هذه النقطة بدراسة أصولها في المنظور الإسلامي، ومقارنتها بالقوانين الوضعية، لاستكشاف ما يحمله من الحلول للإشكالات هذه.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان