تطبيق القانون ضروري في كل مجتمع، قديماً وحديثاً، كيف ما كان مصدره، أعراف أو عادات أو تشريعات، بمقتضاها يتحاكمون إليها عند النزاع عند الإقدام على أي فعل جرمي كان، هذا الأمر أصبح ضرورة يحتاج إلى تطوير الأدوات، لكن الأمور الدنيوية يصيبها القصور فلابد من جعل أحكام الشريعة مصدراً رئيسياً، يستفيد منه القانون الوضعي في بناء مجتمعات سليمة وصحية.
وبالتالي، إن كل عصر يمتلك أدواته التي تكون ناجعة في الزمان والمكان المناسبين، اليوم تكمن الحاجة وبقوة إلى هيئات علمية متخصصة شرعية يُحتكم إليها، تكون مسؤولة عن فرض القول الواحد بما يضمن وحدة المجتمع داخل إطار وروح الإسلام، والتي سنتطرق إلينا في دراستنا هذه.
من المعلوم لدى المختصين المصريين، أن الدستور المصري نصّ على أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، متأثراً في ذلك بالدساتير الأوروبية، ولربما أن يكون القصد من واضعي الدستور أنفسهم أن لا يعترفوا إلا بالجرائم والعقوبات المنصوص عليها في القوانين الوضعية، على الرغم من أن هذا النص يتضارب مع نص أساسي من نصوص الدستور المصري، وهو النص الذي يقضي بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؛ وذلك يعني التزام الدولة الإسلام ديناً لها معناه التزامها الشريعة الإسلامية شريعة لها، إذ أن الشريعة الإسلامية هي مجموعة القواعد التشريعية التي جاء بها الإسلام وأوجبها، فإذا فسرنا النص الأول كما يفسر في الدساتير الأوروبية كان معنى ذلك إهمال النص الثاني وإبطاله وعدم الاعتراف بالإسلام والشريعة الإسلامية، وإذا أوجبنا العمل بالنص الثاني باعتبار أنه أساسي يقوم عليه كيان الدولة ونظامها العام، وجب أن نفسر النص الأول التفسير الذي يرفع التناقض بأن نقول إنه يسري على الجرائم التي نصت عليها الشريعة والقوانين معاً.
على سبيل المثال، القانون الوضعي لا يحرم الربا إلا في صور خاصة وبشروط معينة، وكذلك فيما يتعلق بمسألة تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فالشريعة تحرم تناول هذه الأشياء وتعاقب على تناولها، والقانون لا يحرمها ولا يعاقب عليها، هذه مسألة بطبيعتها لدى المسلمين إجمالاً هي محسومة وفي الأساس لا تنتظر من أي قانون تحليلها، إلا أن التطور في هذه المسألة مرتبط بنوع العقاب في حال تم هذا الفعل، وهنا يبرز فكر الشارع الذي استلهم من الشريعة أدوات أبقى على مسألة التحريم لكن بما يتناسب وظروف العصر.
وبالتالي، نحتاج في هذا الوقت والذي يقدم فيه كل صاحب منهج منهجه بحرية إلى من يحسن تقديم الشريعة الإسلامية وخاصة في جانب القانون والتشريع الجنائي، مع التنبّه للأدوات العصرية الحالية والاستفادة منها بما ييسر القوانين، لا أن يحد من قوتها، خاصة وأنه كما أشرنا في الأجزاء الثلاثة السابقة، أن القانون الوضعي متبدل ومتغير، وما هذه المقارنة إلا تبيان أوجه الحديث منها القابل للتغيير والتبديل، وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل.
هناك قاعدة أصولية تقول: سريان النصوص الجنائية على الزمان، ما يعني أن القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الجنائية لا تسري إلا بعد صدورها وعلم الناس بها، وبالتالي، لا يطبق القانون الجنائي بأثر رجعي على الوقائع السابقة لنفاذه، فالأصل في القانون أنه يسري بأثر فوري ومباشر وهو ما يعرف بالنفاذ المعجل للقوانين، لكن لا يوجد في كتب الفقه مباحث خاصة عن الأثر الرجعي للنصوص، ولكن ليس معنى ذلك أن الشريعة لا تعرف الأثر الرجعي ولم تتعرض له، فإن من يتتبع آيات الأحكام وأسباب النزول يستطيع بسهولة أن يخرج بنظرية الشريعة كاملة في الأثر الرجعي، القاعدة العامة في الشريعة هي أن التشريع الجنائي ليس له أثر رجعي، وإن هذه القاعدة العامة لها استثناءان: الأول، إن التشريع الجنائي يجوز أن يكون له أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام أو النظام العام، والاستثناء الثاني، إن التشريع الجنائي يجب أن يكون له أثر رجعي لكما كان ذلك في مصلحة الجاني. وعليه يكون الفرق بين الاستثنائين: أن الأول جوازي للشارع، فله أن يجعل للتشريع أثراً رجعياً بشرط أن تستوجب ذلك مصلحة عامة، والثاني وجوبي، فليس للشارع أن يمنعه إلا إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، فالزنا حرّم في أول الإسلام، وكانت العقوبة عليه أول الأمر مخففة، وهي الإيذاء والحبس في البيوت طبقاً لقوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا)، ثم شددت عقوبة الزنا بعد ذلك، فصارت الجلد والرجم، كما جاء في قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)، وبالتالي، لو كان للتشديد أثر رجعي لطبقت عقوبة الجلد والرجم على الجرائم التي وقعت قبل تقدير هاتين العقوبتين.
لكن من الملاحظ أن بعض النصوص صرحت بالعفو عما سلف أي بانعدام الأثر الرجعي، والبعض الآخر لم يصرح به، وليس لهذا في ذاته أهمية؛ لأن النص على العفو عما سلف أي عما حدث قبل نزول النص يعتبر في ذاته نصاً عاماً مقرراً لقاعدة عامة، ولو أنه جاء ضمن نص خاص، فيطبق إذن على كل النصوص الجنائية لا على الحالات التي اقترن بتحريمها دون غيرها، وهذا التفسير يتفق مع القاعدة الشريعة الأساسية التي تقضي بأنه: “لا يكلف شرعاً إلا بفعل ممكن، مقدور للمكلف، معلوم له علماً يحمله على امتثاله”، ويتفق مع القاعدة الشريعة الأساسية التي تقضي بأن: “لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص”.
وفي هذا الإطار، تخرج بعض الاستثناءات وهي: جواز الرجعية في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام والنظام العام: إذا كانت القاعدة العامة في الشريعة أن لا رجعية في التشريع الجنائي، فإنه يجوز استثناء من تلك القاعدة أن يكون للتشريع الجنائي أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن أو النظام العام. ومن الأمثلة على هذا الاستثناء: جرائم القذف والحرابة والظهار، فقد طبقت العقوبة فيها على وقائع سابقة على نزول النص.
وبالتالي، إن المبادئ التي تسير عليها الشريعة الإسلامية في سريان النصوص على الزمان، وهذه المبادئ هي نفس المبادئ التي تأخذ بها القوانين الوضعية اليوم، فقد كانت القاعدة في القوانين الوضعية قديماً أن يكون للشارع الحق في أن يجعل لأي قانون جنائي أثراً رجعياً، ولم يكن حقه في ذلك مقيداً بأي قيد، فلما جاءت الثورة الفرنسية أُلغي هذا الحق، ولم يعد للشارع أن يصدر قوانين جنائية لها أثر رجعي، وقد ظل هذا المبدأ محترماً من عهد الثورة الفرنسية إلى أن بدأ علماء القانون والمشرعون يخرجون عليه في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، حيث تبين لهم أن التقييد المطلق ضار بمصالح الجماعة، وإن كان متفقاً مع صالح الفرد، ورأوا أن صالح الجماعة يجب أن يرجح على الصالح الفردي، بحيث إذا اقتضي صالح الجماعة أن يجعل للقانون أثر رجعي كان للشارع هذا الحق. وممن يرى هذا الرأي الإيطاليون، فإنهم يرون قبول الأثر الرجعي للقوانين التي تنشئ عقوبات أشد لأمور كانت جرائم من قبل؛ لأن حق المجتمع يعلو على مصلحة المجرم. ويرى الشراح الإنكليز أن الأثر الرجعي للعقوبة المشددة أمر معقول. وقد جعل المشرع المصري والمشرع الفرنسي للقانون أثراً رجعياً في قوانين معتادي الإجرام والاشتباه، وعليه يكون ذلك في وقتنا الحاضر أن يمارس هذا الحق كلما اقتضت المصلحة العامة.
إن تطبيق القانون الجنائي من حيث المكان تحكمه أربعة مبادئ أساسية أخذت بها كل الأنظمة الجنائية المعاصرة وهي مبدأ إقليمية النص الجنائي ومبدأ عينية النص الجنائي، ومبدأ عالمية أو شمولية النص الجنائي.
يقصد بمبدأ إقليمية القانون الجنائي أن قواعد القانون الجنائي لا تطبق إلا في حدود الإقليم الخاضع لسيادة الدولة التي يعترف لها القانون الدولي بالسيادة عليه. ويعد هذا المبدأ نتيجة طبيعية لإعمال مبدأ الشرعية لأن هذا الأخير يفرض أن يكون الناس على علم بنص تجريمي قبل تطبيقها عليه، لكن السؤال هنا، هل الشريعة عالمية أم إقليمية؟ الأصل في الشريعة الإسلامية أنها شريعة عالمية لا مكانية، جاءت للعالم كله لا لجزء منه، وللناس جميعاً لا لبعضهم، فهي شريعة الكافة لا يختص بها قوم دون غيرهم، الظروف والضرورة هي التي جعلت من الشريعة الإسلامية شريعة إقليمية وإن كانت الشريعة في أساسها شريعة عالمية. ولهذا نستطيع أن نقول: إن الشريعة الإسلامية في أساسها شريعة عالمية إذا نظرنا إليها من الناحية العلمية، ولكنها في تطبيقها شريعة إقليمية إذا نظرنا إليها من الناحية العلمية.
الإقليمية تعني أن كل دولة هي صاحبة القرار في عقاب مجرميها، بصرف النظر عن جنسيتهم أو معتقدهم أو انتمائهم طالما أنهم داخل هذه الدولة، ما يتيح لها اليد الطولى في هذا الأمر، ومبدأ الشريعة العام معروف في هذا الخصوص، لكن الفقهاء اختلفوا في تطبيقه تبعاً للاعتبارات المختلفة التي نظر إليها كل منهم عند التطبيق، خاصة وأنهم اعتبروا أن البلاد قسمين، كل بلاد الإسلام، ويسمى دار الإسلام، والثاني يشمل كل البلاد الأخرى، ويسمى دار الحرب؛ لأن القسم الأول يجب فيه تطبيق الشريعة الإسلامية، أما القسم الثاني فلا يجب فيه تطبيقها لعدم إمكان هذا التطبيق. لكن في الحياة المعاصرة، لم يعد هناك ما يمكن أن يكون بلداً إسلامياً بنسبة كاملة، إذا أسميناها بالتعددية الدينية، وسكن البلاد الإسلامية من الطوائف والجنسيات الأخرى، سواء عن طريق عمل أو زواج، أو غير ذلك، فهؤلاء يسري عليهم ما يسري على المسلم، مع مراعاة الفوارق الدينية الجوهرية في بعض المعاملات الأخرى، حيث يقتضي العقاب على كل من يعيش داخل الدولة تطبيق القانون على كل المقيمين بأرض الدولة من وطنيين وأجانب إذا ارتكبوا أية جريمة داخل حدود الدولة، كما تقضي بتطبيق القوانين على بعض الجرائم التي ترتكب خارج أرض الدولة، وهذه النظرية هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، وهي النظرية التي أخذ بها قانون العقوبات المصري، لكن للحكم الشرعي أيضاً ضوابط لكن من خلال إنشاء هيئة علمية دينية أكاديمية في كل بلد تُعنى بالأحكام من الناحية الشرعية، وتكون صاحبة القرار السديد في هذا الشأن مثل الأزهر الشريف، أو جامع الزيتونة في تونس وغيرهم.
وبالتالي، إن الوحدة القانونية لا تختلف فيها الأحكام باختلاف الجهات ولا باختلاف الأجناس، واعتبرت البلاد غير الإسلامية داراً واحدة؛ لأن الأحكام التي تسري عليها طبقاً للشريعة الإسلامية أحكام واحدة لا تختلف باختلاف الجهات واختلاف الأجناس. وهذا هو الأساس لتقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام، وعلى هذا إن الدول الإسلامية لن يمنع اليوم من تطبيق النظريات الإسلامية باستخدام أدوات عصرية كما أشرت تواءم واقع الحياة اليوم، طبقت قديماً كما هي لأن الظروف كانت مختلفة، فقد طبقها الأندلسيون في الأندلس، والمغاربة في المغرب، والعلويون في مصر، والعباسيون في بغداد، ونستطيع اليوم أن نطبقها في مصر وفي لبنان وفي سوريا والعراق والحجاز والباكستان وفي المغرب، وفي كل بلد إسلامي له حكومة تحكمه وحدود تحده، مع مراعاة النمط الحالي من خلال دراسة الحالات، من حيث الحكمين الشرعي والوضعي. وكما أن الشريعة حددت العقوبات، ووحدتها، القانون الوضعي كذلك، لم يترك جريمة دون عقاب.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان