من إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي، أنها أصبحت مصدرًا مهمًا من مصادر المعلومات التي تساعد متخذي القرار على دراسة الأوضاع داخل الوطن. وهكذا شاهدنا في الأيام الماضية، التفاعل الكبير بين المواطنين في القضايا التي تهم المواطنين، منها قضية شركات التوظيف، إذ تصدّر وسم «أوقفوا شركات التوظيف» موقع تويتر، وجاءت معظم التغريدات لتصبّ في خانة رفض شركات التوظيف تلك.
ما يثير الاستغراب فعلا، هو لماذا تلجأ الحكومة إلى شركات التوظيف بدلا من التوظيف المباشر؟ وما هو دور وزارة الخدمة المدنية سابقًا وكذلك وزارة القوى العاملة؟ وما دور وزارة العمل حاليًا؟!
كان يكفي أن تكون لدينا دائرة واحدة بسيطة بها موظفون مخلصون ومبدعون، لتقوم بعملية التوظيف، ونستغني حينها عن كلّ المسميات والهيئات والوزارات التي كثرت وقلت بركتها.
الحاصل أنّ شركات التوظيف هذه تمارس الإتجار بالبشر في أسوأ صوره؛ وقد نتفهّم أن تأخذ الشركة مبلغًا من المال مقابل تعيين شخص، أما أن تستقطع جزءًا كبيرًا من راتبه مدى الحياة، فهذا لا يقره دينٌ ولا شريعة ولا أخلاق ولا قانون؛ كيف لإنسان أن يبقى طول حياته يدفع مالا لشركة مقابل تعيينه، فتسرق هذه الشركات جهده وصحته وعمره كله، بأن تأخذ ما لا تستحقه؟! إنها عبودية حقيقية بصورة عصرية مختلفة عن العبودية السابقة.
تُعرِّفُ وزارة الخارجية الأمريكية في موقعها في الشبكة أنّ «العمل القسري» من أنواع الإتجار بالبشر، والذي يُقصد به استخدام شخص أو جهة ما الخداع والاحتيال أو أيّ وسيلة قسرية أخرى لإجبار شخص ما على العمل؛ فهل هناك أكثر خداعًا من أن يُضغط على إنسان محتاج إلى العمل، أن يتنازل عن نصف راتبه أو أكثر لجهة مجهولة لم تقدّم له خدمة إلا أنها سجلت اسمه للعمل في جهة ما فقط؟! ويدور في ذهني سؤال لم يتم طرحه في وسم «أوقفوا شركات الوظيف»، وهو ماذا إذا ترقى الموظف إلى درجة أعلى، هل تأخذ هذه الشركات نصيبها من الترقية، وهل تأخذ نصيبها أيضًا من مستحقات التقاعد وراتب التقاعد؟!
وُجّهت الكثير من الاتهامات لهذه الشركات ولمالكيها، ولا أعتقد أنّ المواطن يُلام في ذلك؛ وكان هناك كثير من الهمز واللمز وتساؤلات عمن يملك هذه الشركات، مع مطالبات بالكشف عن أصحابها، ليعرف الناس المستفيد من وجودها. ولكن ما ( قد ) يُثبت تلك التهم هو الإصرار على استمرار تلك الشركات – التي أعتبرُها أقرب إلى أن تكون شركات وهمية، مهمتها استنزاف المال العام والإتجار بالبشر عن طريق استغلال ظروفهم – فها هو سعادة مالك بن هلال اليحمدي عضو مجلس الشورى يتساءل: ما الذي يجعل المؤسسات الحكومية تصر على الاستمرار في هذا الأمر، رغم أنه طرح بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي لعدة مرات، وكذلك من خلال أعضاء مجلس الشورى في الفترة السابقة والحالية؟! ويتساءل اليحمدي ما الذي يجعل تلك المؤسسات تستمر في ذلك وهي تعلم أنّ فيه إهدارًا للمال العام، وتسمينا لشركات التوظيف بغير وجه حق، وغبنا للمحاضرين والموظفين العمانيين، وتمكينا للأجانب؟!
ولم يكن الإعلاميون بعيدين عن مناقشة الموضوع، فقد ذكر المذيع علي صعر، الذي يقدّم برنامج «رؤية اقتصادية» في التلفزيون، أنه «عند سؤالنا للوزارة المعنية عن سبب تمسكها بشركات التوظيف بعقود غير مباشرة امتنعت عن الرد، وقامت بترشيح أحد أصحاب شركات التوظيف للحديث نيابة عنها، ليتضح لنا فيما بعد أنه موظف سابق بالوزارة، استقال ليؤسس شركة توظيف» ووصف ذلك بأنه «حقيقة صادمة».
وإذا كان الناشط يوسف الزدجالي الذي نال ثقة المتابعين في تويتر، بصفته أحد المدافعين الكبار عن الباحثين عن العمل والمسرحين من أعمالهم قد حرّك المياه الراكدة في هذه القضية، عندما دعا الضحايا أن يغردوا في الوسم، وبأن يكونوا جزءا من هذا الحراك «لإيقاف هذا السرطان والمرض الذي يذهب فقط إلى فائدة أفراد، ويأخذ من رواتب العمانيين وحقوقهم»، فإنه قدّم البشرى في إحدى تغريداته بأنه «حسب التوجه القادم لن يكون هناك توظيف عن طريق شركات التوظيف في أيّ جهة تتبع الحكومة بل بالتعاقد المباشر. الأفق يلوح بالكثير من العمل المخلص والجاد، والكثير من الأمل، والذي سيصحح أوضاع آلاف الشباب». وهذا ما يرجوه الكلّ، رغم أنّ الناس قد ملوا من الوعود، لكثرة التغريدات التي تبشِّر الناس بالأمل وبدنيا جميلة وأفضل في كلّ شيء، دون أن يروا ذلك الأمل رأي العين.
لقي وسم «أوقفوا التعامل مع شركات التوظيف» تفاعلا نشطًا، ممّا جعل وزارة العمل تصدر بيانًا، وذلك بتاريخ ٤ يونيو 2021، ذكرت فيه «أنها تابعت باهتمام ما تمّ تداوله عن موضوع شركات التوظيف، وأنها قامت بوضع خطة إحلال مناسبة لهذه العقود خلال الفترة القادمة، من خلال التعاقد المباشر أو توفير التدريب المناسب للشباب العماني». والمتابعةُ من الوزارة بحد ذاتها لفتة إيجابية، ولكن المواطنين يريدون حلولا حقيقية لا وعودًا قد لا ترى النور. وإذا ما تم التعاقد المباشر حسب بيان الوزارة – وهو الشيء الطبيعي الذي يجب أن يكون – فماذا عن الضحايا السابقين؟ هل سيأخذون حقوقهم السابقة المسلوبة؟! تلك الأمور في عالم الغيب ولا يجب أن نتناولها الآن، لأنّ المطلوب هو الإسراع في إغلاق هذه الشركات وإرجاع الحق للعاملين؛ لأننا فعلا أمام ظاهرة غريبة وعجيبة من الإتجار بالبشر لا تعرف الحكومات الغربية ولا منظمات حقوق الإنسان مثلها، وإلا ستضيفها إلى تعريفاتها… إنسانٌ درس واجتهد، وعندما اشتغل هناك من يأخذ منه نصف راتبه دون وجه حق؛ فما أحسنها من «شغلة» هذه لأنها مربحة دون أيّ جهد.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 14 يونيو 2021م.