عندما يقف تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، شريك الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش فى غزو العراق وتدميره واحتلاله دون قرار بذلك من الأمم المتحدة، ليقول أن العالم “مقبل على تغييرات جيو – سياسية دولية” وأن “عصر الهيمنة الغربية يقترب من نهايته ويسير نحو التعددية القطبية” فإن هذا يعنى جدية الاستنتاجات التى تتحدث عن “الأفول” باعتباره المصير الحتمى للهيمنة الغربية الذى سوف يستتبعه حتماً أفول لـ “الحضارة الغربية” و”الحداثة الغربية” التى ظل الإعلام الغربى يتحدث عنها باعتبارها “النموذج” الذى يجب أن تسلكه وتتبعه دول العالم النامية إذا أرادت اللحاق بركب التقدم.
بلير قال هذا الكلام فى محاضرة ألقاها منذ أيام قليلة فقط، أى فى ذروة أزمة أمريكا وحلف شمال الأطلسى مع روسيا فى أوكرانيا، أمام مؤسسة “ديتشلى” البريطانية – الأمريكية، وزاد فى قوله أن “أكبر التغيرات الجيو – سياسية فى هذا القرن ستثيرها الصين وليس روسيا” موضحاً أن الصين “هى ثانى قوة عظمى فى العالم، وإمكاناتها الاقتصادية ودرجة مشاركتها فى الاقتصاد العالمى أعلى من روسيا” . واستنتج بلير من هذه المقدمات نتيجتين؛ الأولى يقول فيها “نقترب من نهاية الهيمنة الغربية فى السياسة والاقتصاد، وسيصبح العالم، على الأقل، ثنائى القطبية، أو ربما متعدد الأقطاب”. أما النتيجة الثانية فيقول فيها : “لأول مرة فى التاريخ الحديث يمكن للشرق أن يكون على قدم المساواة مع الغرب”.
تحدث بلير عن الصعود الصينى لكنه لم يشأ أن يتحدث عن “السقوط” أو على الأقل “الأفول” الأمريكى على مستويات متعددة. أحد شواهد هذا الأفول شهادة ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكية الأسبق لشئون الشرق الأدنى. على جولة الرئيس الأمريكى جو بايدن الشرق أوسطية وعلى الأخص زيارته للمملكة العربية السعودية وحضوره قمة جدة يوم السبت الفائت مع قادة دول مجلس التعاون الخليجى الست ومصر والأردن والعراق. فقد اعتبر شينكر أن “الزيارة لم تحقق أهدافها” ، مشيراً إلى أن “بايدن كان يريد أن يرى التزاماً سعودية بزيادة إنتاج النفط إلا أنه لم يحصل على ذلك” وأنه أراد “التزاماً من السعودية والشركاء الخليجيين بالمضى قدماً فى ما يتعلق بشكل من (التحالف) الدفاعى فى المنطقة (بمشاركة إسرائيل) وأيضاً هذا لم يحصل عليه”، وخلص بنتيجة مؤداها أن “طبيعة رحلة بايدن لم تكن متينة، ولم تحقق الكثير”.
نحن إذن أمام ظاهرتين تحدثان فى وقت واحد : صعود صينى – روسى استراتيجى واقتصادى وتكنولوجى وأفول أمريكى قد ينعكس سلبياً على العلاقات الأمريكية – الأوروبية فى ظل إدراك آخذ فى التنامى يؤكد أن الأمريكيين ورطوا الأوروبيين فى صراع ممتد مع روسيا فى أوكرانيا، وأن الأوروبيين هم من سيدفعون ، بل ويدفعون الآن، أثماناً غالية لهذا التورط فى تلك الحرب فى ظل أشباح مخاوف حجب روسيا الغاز عن أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء دون توفير البديل الكافى، وفى ظل ارتفاعات متصاعدة فى أسعار الطاقة عالمياً (النفط والغاز) بسبب قرارات واشنطن التى فرضتها على الأوروبيين بمقاطعة النفط والغاز الروسى فى ظل عجزها عن توفير بدائل النفط والغاز الروسيين.
الشهادة الأهم على الأفول الأمريكى جاءت على لسان السيناتور الأمريكى المستقل برنارد سوندرز فى محاضرة شديدة الأهمية استعرض فيها ملامح هذا الأفول وتحدث عن حاجة الأميركيين إلى نظام سياسى بديل للنظام الحاكم الآن فى واشنطن.
تحدث سوندرز عن مظالم النظام الأمريكى وانسحاق الطبقة العاملة والطبقة الوسطى فى ظل “حكم الأقلية” المسيطرة على الثروة والسلطة. وفسر ذلك بقوله “نحن نتجه إلى حكم نظام حكم أوليجاركى (حكم الأقلية) يسيطر عليه عدد قليل ممن يملكون المليارات من الدولارات” وأوضح أن المخيف فى الأمر أن “هؤلاء المليارديريين يملكون بالإضافة إلى الثروة الهائلة سلطة سياسية هائلة وأن أكثر من نصف الشعب يعيشون على الكفاف”. واختتم سوندرز شهادته أن “اللامساواة فى الدخل بين الأمريكيين الآن ليس لها مثيل فى التاريخ الأمريكى، ولابد من العمل على إنهاء النظام السياسى الفاسد حيث تشترى الأموال الانتخابات لصالح حكومة تمثل كل الشعب الأمريكى”.
ربما يكون من الضرورى السؤال: كيف حدث هذا؟ وأين ذهب النموذج الأمريكى للحداثة؟ هل كان أكذوبة؟ وكيف سينعكس الأفول الاقتصادى – السياسى الأمريكى على الأبعاد الثقافية للحداثة الأمريكية، ومنظومة القيم الثقافية الأمريكية التى جرى “عولمتها” وفرضها على العالم باعتبارها نموذج الحضارة والحداثة.
هذه الأسئلة تعيدنا إلى ظاهرة فرضت نفسها على كثير من دول العالم الثالث فى عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى وبلغت ذروتها فى عقد التسعينيات مع سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكك حلف وارسو، ونعنى بها الترويج لما يمكن تسميته بـ “روشتة التقدم والازدهار الأمريكية”. التى كانت تستهدف فرض التبعية الأمريكية على كل العالم، وهو الترويج الذى وصل إلى درجة مطالبة دول العالم الثالث وفى القلب منها عالمنا العربى بـ “مقايضة هدف الاستقلال بهدف الحداثة”، والقول بأن السير على طريق الحداثة يتطلب التضحية بالاستقلال الوطنى والقبول بالتبعية لأمريكا. وامتد الأمر إلى المطالبة بقبول تسوية للصراع العربى- الإسرائيلى وفق الإملاءات والشروط الأمريكية – الإسرائيلية من منظور المقايضة بين الحقوق (الفلسطينية المشروعة) والحداثة أى الحصول على مصالحة الغرب وإسرائيل من أجل تحقيق التقدم والازدهار.
من أبرز مكونات تلك “الروشتة الأمريكية لتحقيق الحداثة والازدهار” التى بدأت كقائمة أفكار وتحولت فيما بعد إلى مطالب وشروط أمريكية للحاق بركب العولمة أو “قطار العولمة” ما عرف بسياسات “إجماع واشنطن” (Washington Consensus ) التى كانت تحظى بدعم وزارة المالية الأمريكية والبنك المركزى الأمريكى إضافة إلى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى. وقد اشتملت هذه الروشتة على مجموعة من الإجراءات على الدول المعنية إتباعها لإحداث تغييرات جذرية فى البنية الاقتصادية كمقدمة لتغييرات أحدث البنى الاجتماعية ومنظومات القيم والأفكار من أبرزها تقليص القطاع العام وتحرير التجارة الخارجية من أى قيود “حمائية” ورفع القيود المفروضة على الادخار والاستثمار وضمان الحرية الكاملة للسوق ، ورفع الوصاية عن البنوك المركزية ومنحها الاستقلالية الكاملة حتى تتمكن من انتهاج سياسة نقدية مستقلة.
هذه الروشتة كانت “فاسدة” أدت إلى إفساد اقتصادات الدول التى اتخذتها كنموذج لتحقيق التقدم والرخاء، لأنها لم تكن تهدف فى الواقع تحقيق ذلك التقدم والرخاء فى تلك الدول بقدر ما كانت تهدف إلى فرض التبعية وتدمير المجتمعات من الداخل.
والآن فى ظل كل شواهد الأفول الأمريكى والصعود الصينى – الروسى كيف سيكون حال سياسات التبعية؟ هل ستبقى الدول صديقة أمريكا حريصة على تبعية لم تعد أمريكا قادرة على حمايتها؟
السؤال مهم الآن ويخص عالمنا العربى قبل غيره هل آن الأوان للتخلص من قيود التبعية والبحث عن نموذج بديل للتقدم والازدهار مع سقوط النموذج الأمريكى ليس فقط فى الاقتصاد والسياسة بل الأهم هو منظومة القيم والأفكار والأخلاقيات التى يحملها هذا النموذج .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام 19 / 7 / 2022 م