الزواج نعمة من نعم الله تبارك وتعالى، للرجل وللمرأة معاً، لما يحمل من رحمة وسكينة ومحبة ومودّة، قال تبارك تعالى في محكم كتابه العزيز: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون).
الإعجاز القرآني أجاز الهدف البسيط من موضوع الزواج من خلال الحديث عن السكن النفسي والمكاني والعاطفي والمعنوي والاجتماعي.
وبنفس الوقت، تواجه الأسرة في واقعنا المعاصر مشكلات وتحديات عديدة أفرزتها التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وما شابه ذلك، حيث أصبحت تهدد كيان هذه الأُسر، حيث نتج عن ذلك الآن انحراف وجرائم الكبار والصغار وعزلة المسنين وتشرد المعاقين وانتشار ما يُعرف بالأسرة الفردية التي يمثلها فرد واحد (أرملة، مطلقة، مسنّ، عاجز)، قد أدى هذا وغيره إلى تغيير النظرة إلى الأسرة من حيث الوظائف التي تمارسها أو من حيث العلاقات بين أفرادها.
ولكون العلاقة الزوجية هي أساس تكوين الأسرة وتُعتبر من أدق العلاقات البشرية وأقوى الرباطات وأوثقها، لأن أساسها مبني على المشاعر والعواطف، لكن هذه المشاعر قد تنقلب إلى أحقاد وكره وحروب تصل إلى الطلاق والدعاوى القانونية، لكن قبل فتح هذه المشكلة والتنقيب في آثارها ومخاطرها، لا بد أن نوضح هذا الأمر من الناحية الدينية، وبشكل أدق في الفقه الإسلامي، ولقد تناول القران الكريم الزواج والأسرة في مجموعة كبيرة من الآيات كما تناولت السيرة النبوية الأسرة بمجموعة من الأحاديث وحثت على أهمية الزواج وتكوين الأسرة وتربية الأولاد تربية خلوقة ودينية قوامها الاحترام والأخلاق لبناء مجتمع صحي وسليم. فالأصل إذاً في الزواج هو عدم الطلاق، ويبقى الطلاق تشريعاً استثنائياً وحلاً لحالات خاصة جداً فليس انتقاماً ولا تشفياً ولا إظهاراً للرجولة ولا هروباً من مواجهة المسؤولية.
من هذه المقدمة وهذا المنطلق، جعلت الشريعة الإسلامية للطلاق حدوداً، حيث جعلت التريث الخطوة الأساسية لأن لا يتم التسرع وهدم هذه المؤسسة، فأمرت الرجل عن كانت زوجته على سبيل المثال غير مطيعة بأن يعظها، وأن يهجر مضجعها، وآخر الأمور ضربها على سبيل الإيقاظ، فإن لم يحقق نتيجة، تحكيم طرف في المشكلة، فإن نفذت هذه الأمور، لا مجال إلا بالطلاق، قال تبارك وتعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليّاً كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً). فالطلاق يتعلق بكيان الأسرة ورباطها، وله شريعة عظيمة ومقاصد حكيمة، ففيه فك لعقدة الزواج إذا تعذرت الحياة الزوجية وساءت الأمور بين الزوجين، وهذا هو المناسب للطبائع البشرية، هذا الأمر بطبيعة الحال يولد مشاكل عندما يصل الطرفان إلى نهاية مسدودة، وبالتالي شرّع الإسلام الطلاق للخروج من هذه المشاكل وتجنبها رغم أنه أبغض الحلال إلى الله تبارك وتعالى، وقد وضع الإسلام له حدوداً كما أشرنا كي لا يعبث به أحد بحسب أهوائه وميوله أو مزاجه، الشريعة الإسلامية أكدت أنه لا يجوز للرجل أن يطلق وقت يشاء.
قال الدكتور مصطفى السباعي في كتاب “المرأة بين الفقه والقانون”: (إن الطلاق عن طريق المحكمة كما عند الغربيين، قد ثبتت أضراره وعدم جدواه، وذلك لما يقتضيه من فضح الأسرار الزوجية أمام المحكمة، وقد تكون هذه الأسرار مخزية، ولنتصور رجلاً قد تقدّم إلى المحكمة، يطلب منها طلاق زوجته لأنه رآها وهي تزني مثلاً، تصوّر كم يكون مقدار الفضيحة بين الجيران والأصدقاء وكيف يكون انتشارها في الصحف والمجلات)، لذلك نجد أن هذه الأمم قد ابتعدت عن دينها الذي يحرّم الطلاق، وأباحت الطلاق بقوانين مدنية، اما مهاجمة تشريع الطلاق على أنّه هدّام للأسرة والمجتمع، لكن هذا الإدّعاء باطل جملةً وتفصيلاً، ومدحوض من أصله بدليل أن الإسلام عندما أباح الطلاق قد أرشد الزوج إلى التريث وعدم الاستعجال والصبر على المرأة حتى في حال كان هناك كراهية، قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).
الطلاق يحتاج إلى طول تفكير وتدبر واستشارة، أما أن يستخدمه السفهاء في شيء تافه ولا قيمة له فهو أمر مرفوض، حيث من آثاره أسرة مفككة وضياع الأولاد وعدم استقرار للأسرة ولذلك تهتم الدول و الأنظمة بالطلاق وتجرى لبحوث والدراسات لإيجاد حلول له سعياً لإعانة الأسرة العربية على مواجهة التحديات، حيث يعتبر الطلاق مشكلة اجتماعية ونفسية. وهو ظاهرة عامة في جميع المجتمعات ويبدو أنه يزداد انتشاراً في مجتمعاتنا في الأزمنة الحديثة، إذ تكشف الإحصاءات الرسمية في كثير من الدول عن معدلات متزايدة لحالات الطلاق سنوياً، وتنال الدول العربية على وجه الخصوص نصيباً كبيراً من هذه المعدلات المرتفعة، وتشير بعض التحليلات إلى أن بين كل ثلاث حالات زواج تجد حالة طلاق واحدة، وإن استقرار الأسرة العربية يعني استقرار المجتمعات العربية، وبالتالي عُني الإسلام بالأسرة وبيان أحكامها، دعماً لوجودها وتمتيناً للصلات بين أفرادها، تحصيناً للفرد والمجتمع المسلم، فالأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبالأسرة تتحقق المقاصد الكبرى التي ارتضاها التشريع الإسلامي من حفظ النسل والأنساب والأعراض، وتحقيق المتطلبات البيولوجية والثقافية للإنسان، ولهذا نجد أن الإسلام أعلى من شأن رابطة الزوجية وفصل أحكامها حتى لا تعبث بها الأهواء والأمزجة.
وقد كان الغرب يعيب على الإسلام في مسألة تشريع الطلاق إذ هو أمر شرعي، لكنهم قالوا إنه استهانة بالمرأة من قبل الإسلام، وبقدسية الزواج، لكن الصحيح أن هذا الأمر لا علاقة للإسلام به بل هو ناتج عن الأشخاص أنفسهم، لأن الطلاق المشروع في الإسلام الهدف منه الإصلاح ولا تترتب عليه المفاسد، وبالتالي، الطلاق لغةً: (الإرسال والترك)، والطلاق في الشريعة الإسلامية ثبتت مشروعيته في الكتاب والسنّة الشريفة والإجماع.
قال تبارك وتعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، وقال تعالى أيضاً: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم)، وقال تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة). فقد بيّن الله تعالى أن الطلاق مرتان وبعدها إما أن يمسك الزوج بمعروف أو يسرّح بإحسان، ولا رجعة بعد الثالثة إلا بعد أن تتزوج رجلاً غيره، فالتخيير بين الإمساك والتسريح بدون أي قيد أو شرط دليل مشروعية.
وكما هو معروف إن مقاصد الشريعة الإسلامية أوجدت كل الحلول لمشاكل دنيا الناس في العبادات والمعاملات وبالتالي إن علم مقاصد الشارع له مقام عظيم, وذلك لأن معرفة حقيقة المصالح والمفاسد متوقفة عليه, فهو مفتاح لفهم نصوص الشريعة، وفي هذا البحث سنتطرق إلى المقاصد الجزئية التي تعني المقاصد المتعلقة بمسألة معينة دون غيرها، مثل مقصد الأذان والصلاة, والزكاة والصيام والحج، وما يعنينا تحديداً المقاصد المعنية بالأحوال الشخصية، مثل مقاصد النكاح ومقاصد مشروعية التعدد ومقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح، ومقاصد الإقامة سبعاً عند البكر وعند الثيب ثلاثاً، مقاصد الطلاق، ومقاصد الإشهاد على الطلاق، والاستبراء والعدة وغير ذلك.
وفي بحثنا هذا سنركز على المقاصد المتعلقة بالطلاق، وارتباط القانون بالشريعة الإسلامية في هذا الجانب، حثّ الإسلام على استحكام بناء الزواج واستمراره، ومع ذلك كلّه قد يكون في بقاء الزواج واستمراره فيه مفسدة, فإذا دبّ الخلاف بين الزوجين واستعصى العلاج والإصلاح، لا بد من أن يقع الطلاق، ومقاصد الطلاق يمكن إرجاعها إلى مقصد واحد وهو: دفع الضرر والمشقة والعسر عن الزوجين أو عن أحدهما, فالرجل يقدم على الطلاق فيطلق الطلقة الأولى, ففي الطلقة الأولى إما أن يكون الخطأ من الرجل أو من المرأة، والإسلام يفترض أولاً أن يكون عقد الزواج دائماً, وأن تستمر الزوجية قائمة بين الزوجين حتى يفرق الموت بينهما, ولذا لا يجوز في الإسلام توقيت الزواج بوقت معين, غير أن الإسلام وهو يحتم أن يكون عقد الزواج مؤبداً, يعلم أنه إنما يشرع لأناس يعيشون على الأرض، لهم خصائصهم وطباعهم البشرية, لذا شرع لهم كيفية الخلاص من هذا العقد إذا تعثر العيش وضاقت السبل وفشلت لوسائل للإصلاح, وهو في هذا واقعي كل الواقعية, ومنصف كل الإنصاف لكل من الرجل والمرأة، والإسلام عندما أباح الطلاق، لم يغفل عما يترتب على وقوعه من الأضرار التي تصيب الأسرة, خصوصاً الأطفال, إلا أنه لاحظ أن هذا أقل خطراً, إذا قورن بالضرر الأكبر, الذي تصاب به الأسرة والمجتمع كله إذا أبقى على الزوجية المضطربة, والعلائق الواهية التي تربط بين الزوجين على كره منهما, فآثر أخف الضررين, وفي الوقت نفسه, شرع من التشريعات ما يكون علاجاً لآثاره ونتائجه, فأثبت للأم حضانة أولادها الصغار, ولقريباتها من بعدها, حتى يكبروا, وأوجب على الأب نفقة أولاده, وأجور حضانتهم ورضاعتهم, ولو كانت الأم هي التي تقوم بذلك, ومن جانب آخر, نفّر من الطلاق وبغضه إلى النفوس.
إذ ليس مقصود الإسلام الإبقاء على رباط الزوجية كيفما كان, ولكن الإسلام جعل لهذا الرباط أهدافاً ومقاصد, لا بد أن تتحقق منه, وإلا فليلغ, ليحل محله ما يحقق تلك المقاصد والأهداف، والشريعة لم تهمل جانب المرأة في إيقاع الطلاق, فقد منحتها الحق في فسخ النكاح, إذا كانت قد اشترطت في عقد الزواج شرطاً صحيحاً, ولم يفِ الزوج به, وأباحت لها الشريعة الطلاق بالاتفاق بينها وبين زوجها, ويسمى هذا بالخلع أو الطلاق على مال، مما يدل على حسن الشريعة الإسلامية مشروعية الطلاق, دفعاً للضرر عن الزوجين أو عن أحدهما كما أشرنا, وقد جعله الله ثلاث طلقات, وذلك لإمكانية زوال السبب الذي أدى إلى الطلاق في مدة العدة بعد الطلقة الأولى أو الثانية, فيراجعها الزوج وتحسن عشرتهما, وقد أمر الله بالإشهاد في سورة الطلاق في قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا)، فاختلف العلماء في هذا الأمر الوارد: هل هو راجع إلى الطلاق أم إلى الرجعة, أم هما معاً؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة النعمان إلى أنه راجع إلى الطلاق والرجعة, فاستحبا الإشهاد عند الطلاق والرجعة، وذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل إلى استحباب الإشهاد عند الرجعة فقط، وقد ذهب ابن حزم إلى أن الأمر بالإشهاد في الطلاق والرجعة للوجوب, ومن لم يفعل ذلك كان متعدياً لحدود الله تعالى، وبالتالي المقاصد هنا تكون: سد باب الخصومة، ومنع كلٍ من الزوجين كتمان ما يلزم بيانه. فإذا طلق أشهد حتى لا ينكر ذلك؛ لأن الشيطان قد يزين له الإنكار، فإذا أشهد كان هذا من أسباب السلامة والعافية من طاعة الشيطان في إنكار الطلاق، وهكذا الرجعة عليه أن يشهد على رجعتها؛ لأنه قد يتأخر في إبلاغ الزوجة فيكون الشهود بينة له, تعينه على حصول المطلوب من الرجعة.
كما حث الإسلام المؤمنين على العدة في نصوص متنوعة, وذلك لأن العدة مما يحفظ بها المقصد الضروري وهو النسل، لذا ذكر العلماء مقاصد متنوعة للعدة والاستبراء, وهي: العلم ببراءة الرحم, حتى لا تختلط الأنساب، وتمكين الزوج من الرجعة إذا كان الطلاق أقل من ثلاث، وتعظيم خطر الزواج ورفع قدره وإظهار شرفه، بحيث لا تنتقل الزوجة من زوج إلى زوج إلا بعد إمضاء فترة العدة، يقول ابن القيم: (وأما عدة الطلاق فلا يمكن تعليلها بذلك؛ لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق, ولا ببراءة الرحم؛ لأنه يحصل بحيضة كالاستبراء, وإن كان براءة الرحم بعض مقاصدها, ولا يقال: “هي تعبد” لما تقدم, وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما فيها من الحقوق؛ ففيها حق الله, وهو امتثال أمره وطلب مرضاته, وحق للزوج المطلق وهو اتساع زمن الرجعة له, وحق للزوجة, وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت في العدة…).
أخيراً، الزواج هو مؤسسة اجتماعية أوصى وأمر بها الله عز وجل وحفظ النسل, حتى تكون البشرية على أكمل وجه، وأما الطلاق هو: إزالة الضرر عن الزوجين أو عن أحدهما، وإذا تدبرت ما شرعه الله في هذه المعاملات والحقوق الزوجية وجدت ذلك كله خير وبركة, لتقوم مصالح العباد وتتم الحياة الطيبة, ومن رحمته تبارك وتعالى بالجميع أن من أخلص عمله منهما, ونوى القيام بما عليه من واجبات ومستحبات كان قربة له إلى الله, وزيادة خير وأجر, فمشروعية هذه الأمور تدل على حسن الشريعة, وكيف راعت مصالح العباد, وأنها شريعة صالحة لكل زمان ومكان.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان