من أعجب الأمور في الشأن الإيراني، اتهام الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد إيرانيين بالعمل لصالح إسرائيل ووقوفهم وراء النكسات التي تعرّضت لها الصناعة النووية والفضائية الإيرانية في الآونة الأخيرة، كاشفًا عن عمالة المسؤول الأول عن مكافحة الكيان الصهيوني في وزارة الاستخبارات، لإسرائيل نفسها، ممّا ساعد عملاء الكيان في سرقة أسرار الصناعة النووية والفضائية من طهران، وأنّ جميع العملاء كانوا من الجنسية الإيرانية. ويعود سبب تعجبي إلى أنّ التصريح جاء من رئيس سابق لإيران، وأنّ الدولة المخترَقة هي إيران- العدو الأول لإسرائيل في هذه الفترة-، ممّا يُفترض أن تكون إيران في حذر شديد، إذ كيف لها أن تكون دولة نووية ويتم اختراقها وسرقة ملفاتها السرية المتعلقة ببرنامجها النووي؟
وقصة سرقة أرشيف إيران النووي تصلح أن تكون فيلمًا سينمائيًا، لما فيها من الإثارة والسهولة في آن واحد، حصلت إسرائيل خلالها على آلاف الوثائق الخاصة بالأرشيف النووي الإيراني، عبر مداهمة نفذّها عملاء الموساد في 31 يناير 2018، وعرض حينها رئيس وزراء الكيان السابق نتانياهو- متفاخرًا- خلال خطاب تلفزيوني، ملفاتٍ وأقراص مضغوطة، قال: إنها وثائق متعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، «لدينا أكثر من 55 ألف وثيقة سرية تمّ الحصول عليها بعمل استخباراتي حول أنشطة إيران النووية السرية، تُثبت أنّ إيران تكذب عندما تقول إنها أوقفت أنشطتها النووية وسعيها لامتلاك الأسلحة النووية».
يوضح يوسي كوهين رئيس الموساد المتقاعد في حوار للتلفزيون الإسرائيلي مساء الخميس العاشر من يونيو 2021، أنّ التخطيط لعملية الحصول على الأرشيف الإيراني استغرق عامين، وأنّ عشرين من عملاء الموساد شاركوا في العملية على الأرض، ولم يكن أيّ منهم إسرائيليًا. ولدقة العملية فإنّ كوهين تابعها من مركز القيادة في تل أبيب، وكان الأمر مثيرًا – حسب رأيه – أن يشاهد الوثائق النفيسة وهي تظهر على الشاشة أولاً بأول؛ حيث تسلل العملاء إلى مستودع واضطروا إلى كسر أكثر من ثلاثين خزينة، ونقلوا الوثائق عبر الأقمار الصناعية خوفًا من الانكشاف ومن اعتقال المنفذين. ولكن ما مصير من نفذ العملية؟! يوضّح كوهين أنّ كلّ الذين نفّذوا العملية – وهم عشرون شخصًا – قد نجوا، وأنهم الآن بخير، رغم أنّ البعض اضطر إلى الخروج من إيران.
في شهر أبريل الماضي عندما نُشر خبر سرقة هذه الوثائق، ظننتُ أنها من الأكاذيب الصهيونية التي برعوا فيها، وتناقشتُ مع الكاتب والمحلل علي بن مسعود المعشني المتخصص في الشؤون الإيرانية، فكان من رأيه أنّ ما أجبر الرئيس أوباما بالأمس والرئيس بايدن اليوم على السعي لتطبيق الاتفاقية النووية، هو تمكن إيران من تحصين برنامجها النووي وعلمائها بصورة أقلقتهم؛ ورأى المعشني أنّ «بعض الأخبار عبارة عن تسريبات أمنية ليست بالضرورة صحيحة، قد تكون رسائل لكشف الآخر أو إشعاره بأنه مكشوف، إضافة إلى استهداف إيران منذ عام الثورة ليلا ونهارًا، من قبل أعتى أجهزة الاستخبارات في العالم ليس بالأمر السهل، فما نعلمه يكون مقابله العشرات من العمليات السرية غير المعلنة، وهذا ديدن حروب الاستخبارات في العالم». والآن مع تصريح نجاد يبدو أنّ الواقعة حقيقية وأنّ السرقة تمّت بالفعل، وليست مجرد ادعاء إسرائيلي، ولا يبدو أنّ تصريح نجاد جاء فقط ضد خصومه السياسيين، بعد منعه من الترشح للرئاسة.
الأمرُ أكبر من سرقة الوثائق، إذ وصل إلى العمليات التخريبية التي وقعت أكثر من مرة في أكثر من موقع حساس، منها عملٌ تخريبي تسبّب بحريق في موقع تخصيب اليورانيوم في يوليو 2020، وكذلك عملية تخريب أخرى أوقعت خسائر كبرى في موقع نطنز النووي في شهر أبريل الماضي؛ هذا غير اغتيال محسن فخري زاده، كبير الباحثين النوويين الإيرانيين، على طريقٍ خارج طهران في نوفمبر الماضي، في هجوم اتهمت طهران إسرائيل بالوقوف وراءه، والذي أشار إليه كوهين في مقابلته الصحفية، عندما قال: إنّ فخري زاده كان هدفًا لسنوات، «وأنّ معرفته العلمية كانت مثار قلق الموساد، وكلُّ من يمثّل تهديدًا محتملا لمواطني إسرائيل يجب ألا يظلّ موجودًا».
أسئلة كثيرة تدور في الذهن؛ كيف لأناس أن يعملوا ضد وطنهم، وهم الذين عاشوا في كنفه واستفادوا من خيراته؟ ما الذي يجعلهم يلجأون إلى الخيانة؟ هذه أسئلة عامة تُطرح عمّن خانوا أوطانهم لأيّ سببٍ كان؛ ولكن في الشأن الإيراني كيف استطاعت إسرائيل أن تخترق إيران إلى هذه الدرجة، حتى يصبح مسؤول «مكافحة تجسس إسرائيل» في وزارة الاستخبارات الإيرانية جاسوسًا للكيان الصهيوني، كما ذكر الرئيس نجاد، الذي لفت إلى وجود «عصابة أمنية» رفيعة المستوى في بلاده، «هذه العصابة الفاسدة، عليها أن تشرح دورها في اغتيال العلماء النوويين والتفجيرات في نطنز». واتهامُ نجاد للعصابة الأمنية بالمسؤولية عن الاختراقات الصهيونية يعطي الجواب واضحًا عن سؤال يتكرر بعد كلّ اعتداء؛ كيف نجحت إسرائيل في الدخول إلى إيران وتنفيذ مثل هذه العمليات؟ وإيرانُ معروفةٌ بقوتها وصمودها ومراقبتها لحدودها بصلابة، ومراقبتها شبه اللصيقة للأجانب والإيرانيين من حاملي الجنسية الأجنبية؛ يكمن حلّ اللغز في اختراق المنظومة الأمنية؛ فمتى ما اختُرق الأمن فذلك إيذانٌ بالانهيار والسقوط، وأخطرُ الأعداء دائمًا هم أعداء الداخل.
عبر التاريخ ما انهارت أمةٌ أو دولةٌ أو وطنٌ أو دينٌ أو عائلةٌ أو بيتٌ أو حتى نادٍ اجتماعي أو رياضي، إلا بسبب الخلافات الداخلية، وبسبب الخيانات. ومنذ إنشاء الكيان الصهيوني اعتمد التجسس مبدأ، وهذا ما جعل الكيان يحقّق الكثير من الإنجازات. وإذا كانت إيران – على قوتها – اختُرقت بهذه الكيفية، ماذا عسانا أن نقول عن البلدان العربية، التي تُسابق بعضُها لتقديم كلّ شيء للكيان دون عناء التجسس والاختراق؟!
رغم كلِّ المخططات والاختراقات ضد إيران، – وهي مؤشر خطير بالتأكيد – إلا أنها لا تزال دولة قوية ولها ثقلها، والدليل المفاوضات النووية معها. وقد سئل نتانياهو في لقاء متلفز عن أكبر تحدٍ يواجه إسرائيل، فكان جوابه «إيران». واستدرك «هل تريد ثلاث تحديات؟ الإجابة هي إيران، إيران، إيران».
والسؤال الذي يُطرح بقوة هو: إلى أين تتجه إيران وسط هذه الاختراقات؟ وماذا هي فاعلة؟ وهل ستجعل القيادة الإيرانية مسألة الاختراق الإسرائيلي هذه من أولوياتها؟!.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان 20 يونيو 2021