إن معرفة الله تبارك وتعالى والخضوع والتذلل له والإخلاص أيضاً، فطرة إنسانية تطورت بالإيمان وقراءة كتاب الله العزيز وفهم آياته وسبر أغواره، في التعامل مع الخالق ومع الخلق، قال تعالى في كتابه العزيز: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وظلالهم بالغدوّ والآصال).
إن شريعة الإنسان هي عقيدة وعمل، والعقيدة هي ميزان الأعمال، بل هي الأصل والمصدر، ولذلك كانت مهمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي العقيدة في سنوات البعث الأولى، قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، فمن اليقين أن العقيدة بأحكامها ما جاءت على نسق أحكام الشريعة الإسلامية في تحقيق مقاصد الشريعة، إذ أن إصلاح الإنسان من أسمى الغايات التي خصها الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، فهل أجمل من أن يكون صلاح الإنسان من صلاح عقيدته من أجل بناء الإنسان، فلقد اشتملت العقائد على المقاصد والمصالح، كما بيّنها الإمام الغزالي بالأسرار وأن العقائد وجدت لمصالح الناس في المعاش والمعاد.
تأمل الآية القرآنية في توحيده عز وجل: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون)، هل تأملتم إفراد الله في العبادة وإثبات الصفات والأسماء له، وإفراده بربوبية الخلق والتصرف، عندما حدد الخالق عز وجل هذه الأمور وضعها في تصرف الإنسان، ووضع له ميزان يزين به كل شيء في دنياه، الاستقامة والكرامة والعدل والمحبة، أعزه في كل شيء حتى في العبادة والتوحيد، سخّر له نظام الكون كله لأن يعيش في نظمه بما يرضي الله تبارك وتعالى، وحضه أن يكون مرفوع الرأس ويزين الحياة بمقياس الخير لا الشر، فيعمل لدنياه ما يضمن له العيش الكريم لكن لما يهيئ له الدار الآخرة.
ويعد الحسن البصري المثال الصادق للحياة الروحية التي كان يحيها الإنسان المسلم الزاهد، من خلال الإقبال على الله تبارك وتعالى والتفكير فيه، حيث قال: (يا بن آدم بع دنياك بآخرتك، تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك، فتخسرهما جميعاً، يا بن آدم إذا رأيت الماس في الخير فنافسهم به، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم فيه، الثواء ها هنا قليل والبقاء هناك طويل)، هذا القول يلخص حياة عملاً وفعلاً، يلخص رحلة إنسان عمل في الدنيا ليكسب الآخرة، فكلما زاد الإنسان إيماناً كلما ارتقى وارتقت كرامته، ولن يستطيع كائن من كان المساس بها، من خلال التأمل والتدبر في عظمة الخالق تبارك وتعالى، لم يترك لنا شيئاً إلا لسبب، والخير فيما اختاره الله، قال تعالى في كتابه العزيز: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم).
من التوحيد تنقاد القلوب لله تبارك وتعالى، مقرة له سبحانه وتعالى بأنه الله الواحد الأحد، المستحق وحده بالعبودية بكمال الجلال والمحبة والرغبة والرهبة فاستقامت حياة الإنسان واستوت على ذلك، بما يحب الله ويرضاه من الأقوال والافعال، يقول ابن القيم: (وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا إله إلا الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الاصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله تعالى والخضوع له والذل له وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه والأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها).
إن معرفة العبد لربه لا بد أن تكون معرفة يقينية من خلال التفكر بمخلوقاته والكون الفسيح، والتعاليم القرآنية التي تنهى عن المنكر وتنشر الهدى في كل دنيا الناس، لقد نظم الله تبارك وتعالى حياة الإنسان وأمسكه طريق الحياة، بالعلم والمعرفة الحسنة، فالخضوع لله تبارك وتعالى مقصد عظيم من مقاصد الشريعة مبني على المحبة الخالصة والصادقة ومبني على الخوف والرجاء لله تبارك وتعالى، قال تعالى: (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)، فشعور الإنسان بربه وحاجته إليه يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه والتزام مرضاته، (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
وإذا تتبعنا الآيات الكونية وجدنا ان الخضوع سمة الكائنات وصفتها، قال تعالى: (والنجم والقمر يسجدان)، تأمل عظمة الخالق، ليس فقط أنت أيها الإنسان من تسجد لله فأنت وكل الكائنات الأخرى وجدتم عابدين خاشعين ساجدين، لكن الفرق أنك مسؤول عن أعمالك، مسؤول عن مراعاة شرع الله وتعاليمه في دنياك، كما تجل الخالق عليك أن ترضي الخالق بما يبعد الشر عن كل شيء، لا تكن خانعاً ومستكيناً، ولا ذليلاً فأنت قيمة ربانية خلقك الله تعالى لتكون كما يريدك، فكلما كنت مؤمناً تقياً وصالحاً كسبت دنياك لآخرتك، يقول الشاعر أبو النواس:
أيا رُبّ وجهٍ في التراب عتيق … ويا ربَ حسنٍ في التراب رقيق
فقل لقريب الدار: إنك ظاعنٌ … إلى منزلٍ نائي المحل السحيق
وما الناس إلا هالكٌ ابن هالكٍ … وذو نسبٍ في الهالكين عريق
إن أهم القضايا التي شغلت الفكر الإنساني منذ القدم هي قضية الوجود والمصير فبدأت تخرج التساؤلات عن وجود هذا الكون الفسيح من سماء ونجوم وأقمار وكواكب، فمن أين هذا الوجود؟ فهل من أحد لا يعرف أبو العتاهية الشاعر الكبير الذي أطال الوقوف أمام المشكلات التي حيرت العقل البشري وتحدث عن خلق الكون والإنسان والزوال والموت، لقد تحدث القرآن الكريم عن خلق الكون: (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقننهما وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي أفلا يؤمنون)، أي كان كل شيء متصلاً بعضه ببعض في بادئ الخليقة، ولم يكن من شيء على الهيئة الحالية، ففتق هذه من هذه، وجعل السماوات سبعاً وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، فالماء رحيق الأرض أيها الإنسان، ونحن لا نستطيع العيش دون ماء وهواء، فلا تكن إلا عبداً شكوراً، يقول أبو العتاهية:
الحمدلله على تقديره … وحسن ما صرّف من أموره
فيا عجباً كيف يعصى الإله … أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ … علينا وتسكينةٍ وشاهد
وفي كل شيء له آية … تدل على أنه واحد
فما دمت أيها الإنسان آمنت بربك إلهاً واحداً، فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه تبارك وتعالى فإن أحسست بضعفٍ ما، في حكم مسألة ما، بأي أمر ما، راجع إيمانك بالله تبارك تعالى، وصوب أخطائك، ما دامت الفرصة سانحة، إذ أن أهم وأعلى مقاصد الشريعة إنقاذ الناس من عذاب النار والتعبد للرب وحده وهذا المقصد تحديداً تذوب به كل المقاصد الأخرى، لأنه يؤثر في رؤى الناس للكون والحياة للسياسة والاقتصاد لتنفيذ الحدود وتطبيقها ولهيمنة الشريعة وثباتها، و”لا إله الله محمد رسول الله”.
أخيراً، جعل الله تبارك وتعالى الشريعة دين الفطرة التي يعتنق النفس البشرية، وأمور الفطرة مجبولة بهذه النفس، سهل عليها قبولها وتقبلها، قال تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفاً) لكنه قوي بحب الله تبارك وتعالى، قوي بعدله وكرامته والافتخار بها، فهذه الشريعة التي خصها الله تعالى للإنسان دائمة، سهلة بين كل الأمم، فلم يضع الله بينه وبينك حاجز ارفع يديك وتوجه إلى الخالق، دون وسائط أو تعقيد أو تكلف، فهل أجمل من علاقة كالعلاقة بين العبد وربه؟!
تفكر وتأمل في الكون وما خلق الله تبارك وتعالى، فتدبيره لهذا الكون غاية في الإبداع والإتقان.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان