لم أخطط لذلك، لكن الروح اقتربت كثيراً من لقاء البارئ عزّ وجل، وحينها رغم إدراكي، لكني اكتشفت مشاعر جديدة لم آلفها من قبل وحتى لم أختبرها أو أعيشها، بل فقط سمعت عنها، توقعت أن انسحب من كل معارك الحياة على حين غرّة، لكن الله تبارك وتعالى نفخ في روحي من جديد، ووهب لي روحاً جديدة، سأدرك معها، أن التفاني والإخلاص في مرضاة الله تعالى، أعظم ما يمكن للمرء القيام به.
لقد عشت تجربة قاسية جداً، وأثرت بشخصيتي كثيراً، وفتحت عيناي على أمور كثيرة ربما كانت أمامي لكني كنت غافلاً عنها، ما تحقق من ذلك، اكتسابي لتجربة وخبرة جديدة، ستساعدني حتماً على تجاوز الكثير من عقبات الحياة التي قد تعترضني، الأهم جعلتني أعود إلى نفسي وأتأملها جيداً، ما مضى منها وما سيأتي، والأهم أن أتأكد أن أولوياتي دائماً ستكون صحيحة.
لقد التقطت من دهاليز أجنحة المشفى بوح نبضاتٍ جديد، معاناة مريض، ومعاناة طبيب في راحة المريض، الإنسان بطبيعة الحال مخلوق ضعيف، لكنه مكرّم من الله تبارك وتعالى أن جعله خليفة في أرضه، قال تبارك وتعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، ومنحه العقل والإرادة والصحة والعلم والمعرفة، والصحة نعمة من أعظم نعم الله بعد الإيمان بالله تعالى، وفي تجربتي أيقنت أن الإنسان يجب أن يأخذ بالوقاية، وأن يتداوى بالأدوية إن أصابه المرض، وتبقى النتيجة منوطة بالله سبحانه وتعالى، إن شاء عافاه وإن شاء غير ذلك، فلا رادّ لمشيئته، قال تبارك وتعالى: (وإذا مرضت فهو يشفينِ)، ولأن القرآن الكريم لم يفارقني طيلة رقودي في المستشفى، أيقنت أن الشفاء بإرادة الله عز وجل، وإنما جعل الطب وسيلة لتخفيف الآلام وسبباً للشفاء إن كان مقدراً من عند الله، لأن الحق تبارك وتعالي ربط لنا الأسباب بالمسببات.
في محنتي سلمت أمري لله تعالى، ومن بعده للأطباء الجنود البيض، الذين هم فعلاً كانوا في الصف الأول بالدفاع عن المجتمعات جميعاً، وينطبق ذلك على ملائكة الرحمة من الممرضين والممرضات، وكل العاملين في هذا الحقل، ودورهم وكأنهم جنود الله على الأرض، لا يجب أن ننكر دورهم الكبير في مساعدة المرضى وتخفيف آلامهم، فالله تعالى أمرنا بالصبر، وكان الدواء منهم، من عقلهم وعلمهم الذي هو هبة الله تعالى لهم، فكانت مواجهتي ضد هذا الفيروس الخطير، الإرادة القوية الممزوجة بالرضا بقضاء الله وقدره، وصبرت وتسلحت بالأمل في الشفاء الذي قدّره الخالق سبحانه بعد الأخذ بالأسباب، واللجوء إلى الأطباء المتخصصين وتعاطي الأدوية التي يصفونها، فالمرض من قدر الله، والعلاج من قدر الله، وعلى المسلم أن يستعين بالله على قدر الله، لأن إرادة الشفاء موجودة في داخلنا، مهما كانت الأمراض خطيرة علينا أن نتوكل على الله تعالى، فهذه الروح ملكه وحين يريدها لا مرد لقضاء الله ولا اعتراض.
لا أنكر أن نعمة الحياة جميلة أيضاً، خاصة إن كان تفكيرك في أبنائك، وأحبائك، على وجه الخصوص، إن كانوا صغاراً، وهنا يرابط الخوف أن تفقد أحبائك وتتركهم دون أن تكون قد أمّنت لهم ما يقيهم شر الزمان، لقد كان خوفي في هذه الجزئية أكثر من خوفي على نفسي، وشعرت بخوف كبير أن أفقد حياتي قبل تحقيق هذه الغاية، لكن هي دعوات الأحباء، ورضا الله سبحانه وتعالى، رغم آلامي وما حدث معي، بكل صدق وأمانة لم يفارقني القرآن الكريم لحظة واحدة، فإن كتب الله تعالى عمراً لي سأواصل واجباتي كمسلم على أكمل وجه، وإن كان لرحلتي نهاية لأني شعرت بذلك، سررت لأن القرآن كان معي في كل لحظة وبأشد لحظاتي سواداً.
بالتالي، إن الإرادة القوية للإنسان تساعده على التخلص من همومه وأمراضه النفسية والعضوية، وتعاليم الإسلام التي تعلمناها بصدق تبني الإنسان الواثق بقدرة الله، والقادر على التحدي والصمود مع التسليم في النهاية بقضاء الله وقدره، لأن هذا النوع من الإيمان ليس سلوكاً سلبياً كما يتوهم البعض، بل هو سلوك إيجابي يسبقه عمل وسعى جاد ومواجهة حقيقية ومحاولات لا تعرف اليأس لتغيير ما عليه الإنسان، ونحن مأمورون شرعاً أن نحافظ على حياتنا قدر استطاعتنا، وبكامل الصدق أقول إن للأطباء فضل كبير، ومع ذلك شعرت بأن لقرآن الكريم كان له الدور الأكبر معي، والمرض بحد ذاته ينظر إليه الناس على أنه مصيبة، وهذا صحيح؛ فإنه بلاء، قال تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم)، وقال تعالى أيضاً: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)، وهذا المرض إذا نزل بالإنسان فهو قضاء من الله.
وأقوى العلاجات، هو العلاج الإيماني، هي عملية استحضار، وشعور، هي عملية إحساس، هي عملية تذكر، تأمل تدبر تفكر، لكنها تقود إلى نتائج باهرة في النفس والقلب، فالله تعالى يبتلي عباده المؤمنين، بالسراء لنشكر، وبالضراء لنصبر، لمسلم بالنسبة له المرض ما هو شيء حصل بدون مقابل، ليست آلاماً بدون مقابل، إنها آلام بمقابل عظيم تكفير السيئات، وهذا ينفع جداً يوم الدين، يوم الموازين عندما تنصب عند رب العالمين، قال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)، وحتى يدخل الميزان لا بد أن تكون الحسنات كثيرة، والسيئات أقل، فإن الإنسان إذا صبر في المرض ليس فقط تكفر عنه سيئاته، وإنما يعطى حسنات على العبادة، يعني، لا بد أن يدرك المريض أنه يقوم بعبادة الآن عظيمة وهو في المرض، وهي: الصبر على الابتلاء، وعدم الجزع، والاستسلام لأمر الله، والرضا بالقضاء، هذه عبوديات كبيرة جداً يقوم بها الآن فيؤجر، وتزاد حسناته، هذا حرفياً ما حدث معي.
إذاً، هنا الإنسان في غفلة وهو في حالة الصحة، إذا مرض يبدأ يتساءل كلما اشتد المرض: من أين هذا؟ ما الذي فعلته حتى أصابني؟ فيبدأ يفكر ويحلل، ويخرج بنتائج، يقول: أنا أصابني بمعاصي، ما هي المعاصي؟ متى فعلتها؟ كم هي؟ ويبدأ يحاسب نفسه، وبالتالي يتفطن لسبب الابتلاء هذا الذي أصابه، فيرجع إلى مولاه بالتوبة، وينطرح بين يدي ربه ملتمساً العفو، راجياً المغفرة، يعاهد ربه على التوبة، وأنه إذا قام من المرض لا يعود إلى هذا العصيان، وكم من أناس تغيرت مسيرتهم في الحياة بسبب المرض، فكم حياة إنسان كان يفعل المعاصي في صحته، تاب وعاد إلى إيمانه، بعد أن كتب الله له عمراً جديداً، وكيف إن كان هذا المريض راضياً ربه متمماً لواجباته جميعها، ففي الحالتين هي نعمة من نعم الله على عباده جميعاً.
الإنسان المسلم نفسه قوية، ويعلم بأن الله يفرج ويشفي وهناك أمل، قال تعالى: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)، لقد ارتجيت الفرج من ربي بلا يأس، وكلي يقين في شفائي أنني سأعود إلى الله وإلى الطاعات وأفعل كل ما يزيد لهذه الغاية، لذلك الحياة خير للمؤمن؛ لأنه يزداد بها خيراً، وخلصت إلى أن العبادة في وقت الشدة أجرها عظيم، لذلك أتمنى من كل قلبي، شفاء كل مريض وتخفيف آلامه، ومن كتبت له الحياة مجدداً، ليتأمل ويتدبّر فكل وسائل مرضاة الله عز وجل بين أيدينا، وما حياتنا إلا محطة ستنتهي رحلتنا في يومٍ من الأيام، لنكن محصنين بالإيمان ورضا الله عز وجل، هي تجربة مريرة لكنها مفيدة ونحمد الله ونشكره على الضرّاء قبل السرّاء.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان