” المحاظر” في موريتانيا نهج تربوي وتشريعي
نواكشط في 25 يونيو /العمانية/ اشتهرت موريتانيا بتسميات عديدة عبر تاريخها الطويل من بينها “أرض المنارة والرباط” و”بلاد شنقيط” و”بلاد المليون شاعر” إلخ.. وهي تسميات تحمل من الدلالة الشيء الكثير، حيث تُحِيلُ سامعها إلى حقيقة مؤداها أن هذه الربوع، رغم مناخها الجاف وصحرائها القاحلة، تضطلع بدور بارز في مجال الثقافة والعلوم الإسلامية والعربية.
ويعود الفضل في هذه المكانة إلى “المحاظر”، وهي مؤسسات أهلية تُعنى بتدريس القرآن الكريم والعلوم الشرعية واللغة العربية بدءا من مرحلة الأساس التي يجري فيها تحفيظ كتاب الله وتدريس مبادئ لغة الضاد للأطفال وتنشئتهم على الأخلاق الحميدة والزهد والورع.
ويتدرب هؤلاء الأطفال على الصمود والتحمل والقدرة على المكوث لسنوات عديدة في حلقات الدرس مهطعي رؤوسهم لشيخ جليل يبث في صدورهم ما شاء الله من علوم الشريعة واللغة والمنطق، فيتخرجون بعد فترة من مجاهدة النفس وخطراتها والشيطان ووساوسه والحياة وملذاتها، علماء ربانيين ومجتهدين يشار إليهم بالبنان ويُعَوّلُ عليهم في الفتوى وتعليم الناس أمور دينهم.
وخَرّجت المحاظر في موريتانيا مئات العلماء الأفذاذ الذين خدموا الإسلام غربا وشرقا وتَصَدروا للفتوى والتدريس في أكبر المجامع الفقهية والجامعات الإسلامية. ويقول الشيخ محمد ولد محمد يحي عدود، أحد شيوخ ومدرسي محظرة “آل عدود”، إن دور علماء شنقيط هو الذي بَوّأَ البَلَدَ مكانة عليا بين الأمم الإسلامية في نشر الدين والاهتمام بالعربية وعلومها.
وأضاف في تصريحات لوكالة الأنباء العمانية في نواكشوط أن هذه المحظرة الموجودة بحاضرة “أم القرى” الواقعة على بعد 50 كيلومترا إلى الشرق من العاصمة نواكشوط تستقطب أعدادا كبيرة من الطلاب القادمين من جميع أنحاء العالم. إذ يَدرُسُ فيها حاليا طلبة من تركيا وروسيا وأوكرانيا واليمن وكردستان العراق وبعض الدول الأفريقية جاءوا طلبا لعلوم الشريعة واللغة العربية.
وتضم محظرة “آل عدود” – شأنها شأن أغلبية المحاظر في البلد – قسمين اثنين أحدهما للكبار يُدَرسُ المتون الشرعية من فقه وعلوم لغة والآخر للصبية ويقتصر على تحفيظ القرآن الكريم. ومن المسائل الفاضلة التي تتميز بها جامعات الصحراء هذه أنها لا تطلب أي تعويض مالي من الطلاب مقابل دراستهم وإنما تشترط فقط عليهم سلامة العقل والمُعتَقَدِ.
ولا يزال النمط التعليمي القديم أيام البادية والترحال سائدا حتى اليوم في المحظرة الموريتانية، مع مسحة حداثة تأخذ إيجابيات العصر وتتغاضى عن سلبياته.
وقد مَثلَ التعليم المحظري منذ القِدَمِ صَمامَ أمان حمى موريتانيا من تغلغل الاستعمار الثقافي ووقف سَدا منيعا أمام التغريب والسلب الحضاري رغم غياب سلطة مركزية لقرون عديدة على هذه الأرض.
من جهته، وضح الشيخ سيد محمد ولد إبراهيم، شيخ “محظرة التقوى” بنواكشوط، أن المحاظر، بالإضافة إلى دورها التعليمي، تؤدي دورا تربويا مهما لأنها تُعَدّ مراكز للتدريب والتنشئة الخلقية يخضع فيها الطلاب لنمط من شظف العيش والقسوة والزهد في ملذات الدنيا لكي يحصلوا على رصيد وافر من الورع، إلى جانب الرصيد العلمي والمعرفي.
وأشار في لقاء مع وكالة الأنباء العمانية في موريتانيا إلى أن الورع والخشية من الباري عَزّ وجَلّ يمثلان أمانا وحماية من الشطط والتسرع في إصدار الفتوى.
وقال الشيخ سيد محمد ولد إبراهيم إن معظم خريجي المحاظر في موريتانيا هم علماء ربانيون يخشون الله ويُشبِهُونَ في هذا النمط من التربية والتدريس، إلى حد كبير، نظام الدراويش في “التكيات” في المشرق الإسلامي.
وأضاف أن المحاظر، رغم أنها تعليم أهلي بسيط، إلا أنها تُعَد نظاما تعليميا متكاملا ابتداء من مرحلة الروضة حيث يتعلم الصبية طريقة تهجي الحروف وانتهاء بمرحلة الجامعة والدراسات العليا في الفقه واللغة والفكر الإسلامي ومرورا بمرحلة الأساس التي يُكَمل فيها الطلاب حفظ القرآن الكريم وبعض المتون البسيطة لِتَعَلمِ أحكام العين ومبادئ النحو العربي من أجل استقامة الألسنة.
وقد استطاعت المحاظر ونظامها التربوي، البسيط في ظاهره وبأدواته المتواضعة – الألواح الخشبية والمداد التقليدي – الحفاظ على هوية موريتانيا العربية والإسلامية، ولم ينجح المُستَعمِرُ طيلة سنوات احتلالها أن يسلبها حضارتها وثقافتها رغم جهوده الحثيثة في سبيل ذلك.
/العمانية/
أ م