الفصاحة من خير ما يتزيّن به المرء، يتكلم المرء عارضاً فكره على الناس، فيضع عقله أمامهم، يقول تبارك وتعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)، ضمت هذه الآية “النداء والتنبيه والأمر والتعميم والتبرير والتخصيص والنص وغير ذلك”، فمن القادر على استثمار اللغة العربية في فكره وكتابة كتبه وأبحاثه وشعره في أن يستثمر كل ما جاء في اللغة العربية لصالح الكلمة ومآثر الكلمة.
ففي كل الأزمنة جميلة، هناك أشخاص تم تخلديها، وأشخاص طوى صفحتها الزمان، رغم عطاءها، وكما هؤلاء هنالك أشخاص مرّت مرور الكرام، لم يخلّدها الزمان، لأن الأجيال المتعاقبة لم تسمع بها، ولم تقرأ عنها أو لها، فكيف يكون المثقف، مثقفاً إن لم يعرف قامات كان لها الباع الطويل في العطاء، أدباً وشعراً، قرآناً وتفسيراً!
زمن عبد الله الطيب الثقافي يستمد مشروعيته من رؤية العلامة الثاقبة أن (المجتمع السوداني البسيط أعلم منا)، وأن (على المتعلم أن يشارك بما لديه من معرفة في نهضة هذا المجتمع بقدر الاستطاعة)، وأنه إذا أردنا أن (نجود معرفتنا أخرجناها للنقاش مع بقية الناس، وأن المثقف المترفع على وسائل الاتصال المتاحة، كاللوحة الجميلة عليك أن تصلها لترى جمالها).
هو أحد أبرز العلماء في مجالات الشعر والدراسات الإسلامية والأدبية، البروفيسور عبد الله الطيب، الذي لعب في حياته دوراً ريادياً في إعادة الاعتبار للثقافة والتراث العربيين، وكشف عن كثير من السرقات الأدبية من الشعر العربي والتي قام بها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كبار الشعراء الأوروبيين، لا عجب من ذلك فتاريخ الطيب شاهد على ذلك، إذ يمتد التاريخ الأكاديمي للأستاذ الدكتور عبد الله إلى أكثر من نصف قرن.
النشأة
ولد عبد الله الطيب بقرية التميراب غرب الدامر، (1921) تعلم بمدارس كسلا والدامر وبربر وكلية غوردون التذكارية بالخرطوم والمدارس العليا ومعهد التربية ببخت الرضا وجامعة لندن بكلية التربية ومعهد الدراسات الشرقية والإفريقية. نال الدكتوراه من جامعة لندن (SOAS) سنة 1950، وعمل محاضراً في معهد دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في جامعة لندن، ثم رئيساً لقسم اللغة العربية ومناهج المدارس المتوسطة في معهد بخت الرضا لتدريب المعلمين في السودان، ثم أستاذاً في قسم اللغة العربية في جامعة الخرطوم وعميداً لكلية الآداب فيها لمدة ثلاثة عشر عاماً، أشرف على إنشاء كلية عبد الله باريو في جامعة أحمد وبيلو في كانو بنيجيريا، وكان أول عميد لها. واختير مديراً لجامعة الخرطوم (1974 – 1975)، ثم مديراً لجامعة جوبا (1975 – 1976)، كما عمل أستاذاً للدراسات العليا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في مدينة فاس بالمغرب، ليس هذا فقط، كان الطيب عضواً في هيئة تحرير الموسوعة الإفريقية في غانا، وعضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، ورئيساً لاتحاد الأدباء السودانيين، وأستاذاً زائراً لعدد من الجامعات العربية والإفريقية والبريطانية، وقد نال درجة الدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات، كما تولى رئاسة مجلس جامعة الخرطوم، ومجمع اللغة العربية في السودان.
وبالدخول للشق الأكاديمي للبروفيسور الطيب، فلقد كان له الكثير من الأبحاث العلمية والمحاضرات التي ألقاها في مجمع اللغة العربية في الخرطوم، كما أن لديه العديد من المقالات في مجلة المجمع. وهو عضو قديم بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وقد كان له نشاط كبير فيه حتى وفاته في19 يونيو/حزيران 2003. وقد فاز بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، إذ يحتل مكانة مرموقة في الأوساط الثقافية والأكاديمية في الوطن العربي، وتشمل اهتماماته مختلف مجالات الفكر والأدب واللغة العربية، فهو شاعر وكاتب روائي ودارس متعمق للأدب العالمي.
وله إسهامات أدبية متميزة في مجال النقد الأدبي القديم عند العرب، وفي حقول الفكر والأدب عموماً، فهو محيط بالشعر العربي وتاريخه وقضاياه إحاطة قل أن تتوافر لكثير من الدارسين، وقد تميزت مؤلفاته بطابع أصيل يربطها بأمهات الكتب في الأدب العربي ونقده، ومنها كتابه “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها” المكون من أربعة مجلدات، وهو سفر قيم يحلل فيه مختلف جوانب الشعر العربي وخصائصه منذ العصر الجاهلي، وقد استغرق في تأليف أجزائه خمسة وثلاثين عاماً، وصدر الجزء الرابع منه سنة 1990م متضمناً إشارات عديدة لدور النقاد العرب في العصور المختلفة وتطور القصيدة العربية وتأثيرها على عدد من الشعراء الغربيين، وقد صدر له أيضاً العديد من المؤلفات والكتب والبحوث الأخرى باللغتين العربية والإنجليزية تناول فيها قضايا الشعر والنثر والنصوص والمدائح النبوية، وله عدة دواوين شعرية ومسرحيات، وقصص للأطفال باللغة العربية، وكان له أيضاً نشاط واسع في الأوساط الإعلامية امتد على مدى خمسين عاماً، ومن ذلك برنامجه الإذاعي حول تفسير القرآن.(1)
وللتوسع قليلاً عن كتاب المرشد الموسوعي، هو من أهم المراجع المعاصرة حول تقنيات الشعر العربي ونظمه، وقواعده، ويقدم ذلك بأسلوب سلس وسهل، وحيث يعتبر موسوعة في مجاله، ويرى عميد الأدب العربي، طه حسين أن الكتاب جمع بين الإمتاع الأدبي والدقة العلمية، ويتحدث عن مؤلفه الذي كان شاباً صغيراً وقتها، وأنه لم يتعرف عليه قبل أن يطلع على مسودة كتابه الضخم، ويؤكد الأديب الراحل عميد الأدب العربي بشأن إطرائه على الكتاب: “ولست أقول هذا متكثراً أو غالياً، أو مؤثراً إرضاء صاحبه، وإنما أقول عن ثقة وعن بينة، ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذ المؤلف قبل أن يزورني ذات يوم ويتحدث إليّ في كتابه هذا”، ثم يمضي للقول: “ثم لم أكد اقرأ منه فصولاً، حتى رأيت الرضى عنه، والإعجاب به، يفرضان عليّ فرضاً، وحتى رأيتني ألحّ على الأستاذ المؤلف في أن ينشر كتابه، وأن يكون نشره في مصر، وأخذت نفسي بتيسير العسير من أمر هذا النشر”.(2)
وكما أشرنا، يعتبر عبدالله الطيب علم من أعلام الأدب السوداني الحديث، وقد جمع بين المناهج التقليدية والحداثة في كتبه، التي تنوعت ما بين الشعر ونقد الشعر و”الأحاجي السودانية” التي رصدها في كتاب بالاسم نفسه والمذكرات وغيرها، كما كان الطيب يقوم بتفسير القرآن الكريم عبر الإذاعة السودانية بطريقة بسيطة وباللغة الدارجة، حيث يوصل المعاني لعامة الناس، وله تسجيلات نادرة في برامج تلفزيونية وإذاعية، تقوم على التعريف بالأدب العربي ودوره في الحضارة الإنسانية، كما كان من كبار المحتفين باللغة العربية والداعين لعودتها إلى مجدها.
النشأة العلمية
نشأ عبد الله الطيب نشأة علمية، فدخل الخلوة في صغره وتعلم القرآن وقرأ الشعر القديم. وتميز منذ صباه الباكر بالذكاء وقوة الحافظة التي ساعدته على اختزان الجزء الأكبر من العلم في صدره والتي استمر عليها حتى وفاته، ولحافظته القوية تجليات عديدة، ولكن أطرفها قدرته على تذكر ما يخوض فيه من حديث، فقد كان يلقي دروسه على طريقة المشايخ القدماء ومنهجهم في تقصي جزئيات المواضيع والعودة منها إلى الموضوع الرئيسي بطريقة (وصل ما انقطع)، من دون أن ينسى موضع الوقوف وما كان يخوض فيه من شؤون اللغة والتفسير، حيث بدأ بتفسير القرآن الكريم بالإذاعة السودانية باللهجة العامية استهدف بها غالبية قطاع المجتمع، وانتهج في ذلك نهجاً ميسراً نأى به عن الغلو في التأويل. وأكمل هذا العمل الجليل في عام 1969، ثم طبع ونشر “تفسير جزء عم” عام 1970، و”تفسير جزء تبارك” عام 1989، وما يزال تفسير “قد سمع” ينتظر النشر مذ فرغ من إعداده قبل مرضه الأخير.
الصوفية والطيب
اشتهر أجداده بنشر العلم والتقوى والصلاح بين مريديهم، ويتصل نسبه بعدد من الأجداد الشعراء تخصصوا في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينهم رجال ونساء، ويقول: إن والده نفسه كان شاعراً ورث عنه كراسة بخط يده تحوي بعض أشعاره. وللبروفيسور أبيات متفرقة في التصوف وله عدة قصائد في المدح النبوي ومنها (القصيدة المادحة) ولعل أجمل قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي قصيدته (برق المدد بعدد وبلا عدد)، ويقول عنها، سميتها “برق المدد بعدد وبلا عدد” وهي قصيدة نبوية، فيها تعبير وتفكير في أحوال الإسلام والمسلمين والمجتمع والحضارة والتاريخ والعصر، ومنبعثة من محبة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الطاهرين، وصحبه الأبرار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأسأل الله التوفيق والقبول، إنه سميع قريب مجيب.
ويملك عبد الله الطيب مواهب وعبقرية شاعرية ثرية وفكراً رائعاً وخيالاً خصباً وهو عالم لغوي وشاعر وحافظ للقرآن والقراءات والتفسير، كما أنه مؤلف مسرحي وكاتب مذكرات يمكن اعتبارها أول ما وضع السودانيون في علم الاجتماع الوصفي. وإلى جانب أنه لغوي عربي من أرفع طراز، كان البروفيسور شديد التمكن من اللغة الإنكليزية وكان على دراية كبيرة بالفرنسية. ولكنه لا يجد ما يضاهي الشعر العربي، كما تميز البروفيسور عبد الله بمعرفته الواسعة بلهجات البلدان العربية وقدرته الفذة على ردها إلى أصولها العربية القاموسية ولعله كان يفعل ذلك كوسيلة للربط بين القبائل ومثال ذلك تجربته للربط بين لهجات القبائل السودانية حيث وضع برنامجاً لكيفية إدخال اللغة العربية في المدارس بجنوب السودان.
ومن أهم ما كتب الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الأحاجي السودانية، من نافذة القطار، من حقيبة الذكريات، القصيدة المادحة، مع أبي الطيب، شرح بائية علقمة، أربع دمعات على رجال السادات، تاريخ النثر الحديث في السودان، المعراج، تاريخ كمبردج للأدب العربي، مجلة دراسات إفريقية “هجرة الحبشة وما وراءها من نبأ”، مقال في الموسوعة البريطانية عن عباس محمود العقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي وأحمد شوقي والأدب العربي، وغير ذلك الكثير، أما مقالاته ومحاضراته لا تقل أهمية أيضاً، سواء في الإذاعة أو التلفزيون ومجامع اللغة العربية، ومحاضرات عن السيرة النبوية وغير ذلك.
تزوج الطيب من سيدة انكليزية تدعى جريزلدا الطيب ما زالت على قيد الحياة، وتقيم بالسودان، وهي فنانة تشكيلية متمسكة بالتراث السوداني والموروث وتعلمت اللغة العربية، وغادرنا البروفيسور عبدالله الطيب عام 2003، تاركاً موروثاً ضخماً لكل المتمسكين بالقيم العربية الأصيلة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
المصادر:
- من هو الأديب السوداني الذي قدم له طه حسين أول مؤلفاته؟ – العربية نت – 2018.
- الثوابت في مقتطفات من آثار الدكتور عبد الله الطيب – الأستاذة صفية عبد الرحيم الطيب – مجلة العلماء الأفارقة.