مسقط في 28 يونيو /العمانية / الراصد للعمل السردي العماني، يجد ذلك الهاجس
الكتابي الملتصق بالمكان وظروفه لدى الكاتب العماني، فالآخر مسكون بالمكان وتجلياته،
كما أنه لا يمكن أن يغفل حقيقة البدايات المرتبطة بصيرورة حياته ومفاهيمها، وهذا ما
نراه واضحا من خلال التتبع حيث بروز واقع القرية والبحر والوادي والصحراء،
وغيرها من تلك التفاصيل التي أثرت عليه حيث الإمساك بروح الجغرافيا العمانية، هنا
نضع عدة تساؤلات فيما يتعلق بمدى أثر المكان على وقع القصة القصيرة العمانية، ترى
كيف وظّف الكاتب العماني المكان في القصة القصيرة العمانية؟ وما هو أثره عليها؟،
وكيف استطاع الإمساك بزوايا الجغرافيا العمانية على الرغم من تعدد مساراتها وتفرع
اتجاهاتها؟ ونتساءل أيضا وهل نجح في ذلك..
في هذا الشأن تقول الدكتورة فوزية بنت سيف الفهدية، باحثة وكاتبة في الأدب والنقد:
“إنّ تعدّد جغرافيّة المكان في عُمان أتاح للقاصّ العمانيّ إمكانيّة إيجاد أحداث مختلفة
ومتنوّعة، فالمكان بتعدّده هو الفضاء الذي تجري فيه الأحداث، وتتفاعل معه الشخوص،
كما أنّ ثراء تجربة التحديث على الأرض، منحه معينا لا ينضب من الصراعات النفسيّة،
والاجتماعيّة. كلّ هذا أدّى إلى غنى التجربة واستحقاقها بأن توسم بالتميّز والإبداع خلال
فترة زمنيّة قصيرة”.
وفي سياق توظيف المكان في القصة القصيرة وأثره عليها تقول الدكتورة الفهدية:
“إلى جانب المكان فقد وظف القاصّ العمانيّ كذلك الفنون والمعتقدات والأفكار الراسخة
في نفوس أفراد المجتمع في إيجاد عوالم أسطوريّة للمكان من خلال المكان الغرائبي
والأجواء المشحونة بالغرابة والسحر، وهو ما حمّل المكان بُعدًا متخيّلًا تعامل معه القاصّ
بالوسائط الذهنية والصور النمطيّة المتجذّرة في نفوس شخوص تنتمي لهذا المجتمع،
وعكست النصوص القصصيّة كذلك البُعد النفسيّ المحمول في النفس للأمكنة من خلال
ثنائية الهويّة والاغتراب، التي سعى من خلالها الكاتب إلى أنسنة المكان الذي ينتمي إليه
عندما يرحل عنه ويشعر بالحنين والشوق إليه”.
وفيما يتعلق بمدى استطاعة الكاتب العماني الإمساك بزوايا الجغرافيا العمانية على
الرغم من تعدد مساراتها وتفرع اتجاهاتها، وماذا إذا نجح في ذلك تقول الباحثة الدكتورة
الفهدية: “شكلت القرية -بوصفها مكانا يحتضن مرحلة الطفولة للكثير من القاصين في
عُمان- مكانا ذا حضور طاغٍ، خاصّة في النصوص المكتوبة في تسعينات القرن الماضي،
وقد وفّق القاصّ في رسم صورة جغرافية لما هو موجود على أرض الواقع وما تحمله
تلك العناصر المكانيّة من خصوصيّة ثقافيّة، كالجبال، والفلج والبيوت الطينية والمقبرة،
والمزارع بما احتوته من أشجار. ولم يقتصر نقلها لديه على بساطة الوصف بل حمّلها
أبعادا ورؤًى ثقافية متنوعة، فكان المكان مشحونا بالمحمولات الثقافية، ذات الأبعاد
النسقيّة المتأصّلة في المجتمع عبر أزمنة طويلة. وتشير الفهدية إلى أن القاصّ لم يكتفِ
برسم مفردات القرية الجغرافيّة، بل تعدّاه ليرسم حضورها عن طريق إبراز أهم العادات
المتّبعة عند ساكنيها كعادات الختان والحول حول، وعادات العلاج لبعض الأمراض
السارية. وقدّم القاص تلك الصور من خلال أشكال القرية بشتى تمظهراتها الزراعية
والجبليّة والساحليّة، وقد بدا التشابه كبيرا بين البيئتين الزراعية والجبلية وتقاربهما في
الشبه مع البيئة الساحليّة على مستوى المفاهيم الثقافية على الرغم من الاختلاف في طبيعة
الجغرافيا المشكّلة لكلّ مكان منها. وتؤكد في سياق حديثها ان حضور القرية ارتبط في
النصوص بالأجواء الأسطوريّة بما فيها سيطرة ثقافة السحر والساحر والمغيّب، وهو ما
يدلّل على حقيقة الصورة الذهنيّة الكامنة في نفس المبدع لطبيعة المكان الخاصّ للقرية
العمانية لوقوعها بين الجبال في محاضن الأودية، موضحة أن للنصوص القصصيّة دورا
عظيما في إبراز معجم لغوي خاص بالألفاظ والتراكيب اللغويّة الموروثة في صورة
عكست المكان بهويّته الخاصّة على صور متعدّدة منها ألفاظ خاصّة بالحياة الزراعيّة،
وأسماء بعض الأدوات، وكذلك العديد من الأمثال الشعبيّة العمانيّة التي تلخّص حياتهم
وتكشف عن حكمهم التي يؤمنون بها، والتي توجّههم في الكثير من الأحيان. ونقل القاصّ
العماني كذلك صورة المدينة العمانيّة على مستوى فنيّ عميق، حمّل من خلاله المكان
دلالات وإيحاءات خفيّة، فبالغ في وصفها بالاكتظاظ والزحام من جانب المباني وجانب
ساكنيها، هذا لأنّها مثّلت المعادل الموضوعي المناقض لصورة القرية الوادعة والهادئة.
فهي المكان الذي يرهق عاتق الفرد بالأعباء الماليّة، والمكان الذي تفكّكت فيه كلّ الأسس
والقواعد الأخلاقيّة، لكنّها ظلّت تلعب دور المكان المهرَب أو الملجأ لكلّ من أراد أن
يتملّص عن دوره في القرية أو من أراد الحصول على دخل مالي أكبر، ومثلت بالتالي
صورة المكان الحلُم بالنسبة للشباب.
وفي ختام حديثها تشير الدكتورة فوزية إلى أن حضور المكان في النصوص القصصية
العمانية لم يكن سطحيّا البتّة، بل كان وفق آليّات فنيّة ارتقت بمستوى النصوص، إذ لم
يقتصر توظيفه على مجرّد الحضور الجغرافيّ والحقيقيّ، بل امتدّ ليشمل جوانب نفسية
واجتماعيّة وتخييليّة استطاع القاصّ العمانيّ رصدها من خلال لغة التكثيف والإيحاء
المحمّلة بالكثير من الدَّلالات، وقد كان ذلك عبر رسم حركة الشخوص في المكان،
وانتقالهم فيه، ما أسهم في إبراز صورته وهويّته التي تعمّق أصالته وارتباطه بتاريخه
الخاصّ، وهو ما جعل معالمه مرجعا لإمكانيّة شحن ذاكرة المتلقّي بمفرداته وأجوائه. ولقد
حملت النصوص القصصيّة تنوّعًا في الرؤية من خلال تعدّد صور المكان التي أبدع في
نقلها القاصّ العماني، عندما جعل المكان لا يحمل الحدث فقط أو أن يكون وعاءً للزمن،
وإنّما حمّله تاريخه وتراثه، وسمات شخوص نصوصه المتفرّدة بما تحمله من ثقافة خاصّة
في العلاقات، وهو ما جعل هذه التجربة القصصيّة تتميّز بهُويّة مختلفة بين النصوص
على الساحتين الخليجيّة والعربيّة.
الكاتب والقاص محمد الشحري لا يذهب بعيدا عما أوردته الدكتورة فوزية الفهدية في
سياق حديثها فعن كيفية توظيف الكاتب العماني للمكان في القصة القصيرة العمانية وأثره
عليها، يقول الشحري: “لا شك أن المكان كيان حاضر في الكتابة الأدبية شعرا كان أم
سردا، لأن المكان يشكل مع الزمان والانسان زوايا مثلث السرد، وإن عُدّ ذلك كمفهوم
كلاسيكي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن الكاتب لا يستطيع الكتابة خارج المكان
مهما توغل في التجريب، فالمكان أرضية يقف عليها الكاتب في الواقع أو في الخيال.
ويوضح الشحري في حديثه أن المكان أيضا لدى الكاتب العماني يمثل رمزيا عدة ثيمات
– حسب رأيه الشخصي وهنا يعددها بقوله: (منها القرية/ تراث، فلج، عادات وتقاليد..ألخ)
و ( المدينة/ حداثة وتحرر، استقلال شخصي، كائن مديني…ألخ)، ويمكن ملامسة ذلك في
جل القصص العُمانية، خاصة في بواكيرها الأولى. ويعود ذلك لسطوة المكان على
شخصية الكاتب، وجهازه النفسي، المُعين له في إيجاد عوالم قصصه وتخيلها، فهنا تحديدا
نتلمس تأثير المكان على القصة، ونجده حاضرا في العناوين والمتون، وحين أقول
المكان، فلا أقصد الحيز الجغرافي الماثل أمام الأعين، بل المكان المُستدعى من خيال
الكاتب، والمؤثث بواقعية سردية أو غرائبية، لأن الجغرافيا في الأدب ليست الجغرافيا
المرئية، فلا الجبال هي الجبال، ولا البحر هو البحر، ولا الصحراء هو الصحراء. أي
بمعنى ليس المكان بما يُشكله وإنما بما يمثله في النص رمزا ودلالة، لأنه في القصة لو
وُصِفت الجغرافيا كما هي في الطبيعة، لتحولت إلى نشرة سياحية.
وعن كيفية ومدى استطاعة الكاتب العماني الإمساك بزوايا الجغرافيا العمانية على الرغم
من تعدد مساراتها وتفرع اتجاهاتها، وما إذا نجح في ذلك يقول الشحري: “نظرا للتنوع
المكاني في عُمان، ووجود عدة أقلام قاصة من مختلف البيئات، فأستطيع القول، إننا نشعر
بصدى الأمكنة في النصوص، لكنها لاتزال مُنفلتة من ملف التشخيص السردي، نظرا
لانزياح حركة التاريخ عن بعض الأمكنة، وتأسيسها لأخرى في ذهن الكاتب والمُتلقي،
خاصة وأن عوالم الأمكنة تطرأ عليها عوامل الحداثة ماديا ومعنويا، فعلى سبيل المثال،
السبلة العمانية الحالية وما يدور فيها من خطاب، ليست السبلة نفسها قبل نصف قرن، ولا
الغرفة هي الغرفة ذاتها قبل دخول الكهرباء. بمعنى آخر فإن الأمكنة ليست ثابتة، يُمكن
توظيفها كما شاء الكاتب، وإن كانت توحي بذلك، بل أقول حتى الأمكنة تخضع لعاملي
السيرورة والصيرورة”.
كما للكاتب والقاص سعيد الحاتمي رأي في كيفية توظيف الكاتب العماني المكان في
القصة القصيرة العمانية وما يتعلق بأثره عليها وهنا يؤكد: “من المعلوم أن المكان هو
العنصر الرئيس المكون للقصة القصيرة مع بقية أضلاع المربع. وإن كان هذا مفهوما
كلاسيكيا إلا أنه لا يزال صامدا حتى اللحظة يتناوله الباحثون والدارسون لفنون السرد.
وتجنبا للإطالة يمكننا القول إن القصة العمانية ومنذ نشأتها كانت البيئة المحلية بمفرداتها
ومكوناتها المختلفة حاضرة بشكل جلي في جسم القصة القصيرة سواء كان بشكل مباشر
كونها الوعاء أو الحيز المادي الذي تدور فيه أحداث القصة أو من خلال استخدام القاص
لمفردات هذه البيئة وغرائبياتها وتناقضاتها في رسم المشهد السردي، وبشكل تفصيلي نجد
أن القاص العماني يستخدم المكان بمفهومه الدقيق في التأسيس لنصه السردي ثم يقوم بعد
ذلك بالبناء عليه، حيث إنه لا يخلو أي نص أدبي من ذكر البيت او الغرفة والمقهى
والسيارة والمكتب الخ وهذه كلها مفردات مكانية تبنى عليها القصة.
أما عن استطاعته في الإمساك بزوايا الجغرافيا العمانية وما إذا نجح في ذلك فهنا يتصور
الحاتمي أن المكان هو من أكثر مكونات الحكاية التي صبغت القصة العمانية بصبغتها
المميزة، ويوضح قائلا: “القرية العمانية مثلا وبطابعها المميز والمختلف عن المحيط
الإقليمي المجاور كانت بيئة خصبة لولادة نصوص قصصية فريدة. فمصطلحات كالفلج
والمجازة والعابية والليوان والدهريز الخ لا يمكن أن تجدها إلا في نص قصصي لكاتب
عماني، كما أن الحضور القوي للأسطورة- على سبيل المثال- أمرٌ لا يمكن تجاوزه
وخصوصا في بداياتها، ولم يكن لهذه الأسطورة أن تنشأ وتتكون وتزدهر إلا في بيئة
خصبة ظلت لسنوات تربيها وتولدها”. ويبيّن أن الكاتب نجح في الإمساك بزوايا تلك
الجغرافيا فيقول: “بالتأكيد هو نجح وبشكل كبير في رسم صورة فوتوغرافية واضحة لهذه
البيئة، حيث إن القارئ لهذه النصوص يمكنه مثلا تصور الأزقة المتربة التي تسلكها
شخوص الحكاية داخل الحارات القديمة ويكاد يشعر بالحرارة والرطوبة الخانقة في أحياء
مسقط، ويشعر بأنه يسمع ثغاء الماشية في أحراش الجبال والأودية، ويقترب من ملامسة
أكواب الماء المعدنية في مقهى صغير يديره هندي مغترب”، خلاصة القول هنا فإن أغلب
كُتّاب القصة في عُمان كانوا أوفياء لبيئاتهم ومنحوها الحضور الذي تستحقه في نتاجاتهم
السردية وبادلتهم هي في ذات الوقت الفضل بأن مدّتهم بعوالم وحكايات لم يجدوا عناء في
تحويلها إلى نصوص سردية ماتعة.
وتكمل الكاتبة والقاصة أسماء الشامسية ما جاء في سياق القول حول كيفية توظيف
الكاتب العماني للمكان في القصة القصيرة وأثره عليها وهنا تقترب برؤيتها في الأمر
قائلة: “إن الملاحظ للسرد العماني لا يفوته أحد أهم مظاهر السرديات وهي سردية
المكان، وهذه السردية لا تعني معالجة المكان باعتباره بعدًا جغرافيا جامدًا بل متحرّكا في
علاقته بشخوص القصص وتأثيرات الأحداث ومظاهر الصراع، إذ يأخذ المكان أبعادًا
وجدانية وإنسانية تمسك بزمام العمل السردي كله وتؤثر في مركزية العمل ومحوريته
وهويته. وتقول الشامسية في بحث مشترك أجرته قبل سنوات عن الإشكالات والمظاهر
الاجتماعية التي تتوفر عليها القصة القصيرة العمانية تحديدًا، “يظهر بوضوح تأثير
سردية المكان في معظم القصص القصيرة وينهض عامل الزمن الذي يسهم في إحداث
تغييرات أساسية في بنى المجتمع الاجتماعية والاقتصادية في ترسيخ الفضاء المكاني
وتبيان تأثيره العميق على جوهر الإنسان في القصص، وعلى سبيل المثال ضمن هذا
البحث يتخّذ المكان موقعه كفضاء اجتماعي منقسم بين عُمان وزنجبار كما في قصة “النائم
فوق سطح طيني” في المجموعة القصصية لا أمان في الماء لحمود الشكيلي، والمكان في
هذا النوع من القصص هو محرك لوعي جديد لشخوص القصة تفرضه التمظهرات
الاجتماعية والثقافية ذات المناخات المتباينة بين مكانين لهما آثار زمنية حتمية
وخصوصية وحساسية معينة، بفعل عوامل الاغتراب السياسي”. وتضيف الشامسية: “
كذلك في قصة سعيد المخياط من مجموعة وأخيرا استيقظ الدب لعبد العزيز الفارسي
يظهر في تغيير فضاء المكان لأسباب متعلقة بالسفر إلى قرية أخرى من أجل العمل
تأثيرات وجدانية على نفسية البطل في تغير مستويات الطموح والامتثال لمعايير
اجتماعية جديدة، وفي قصة صبي على السطح لجوخة الحارثي تُظهر أحداث القصة
علاقات التنافر في المكان نفسه من خلال الصراع بين الشخصيات نفسها بفعل العامل
الثقافي الذي يكرسه الفصل بين الجنسين ويثيره فضول الجنس الآخر في الرغبة في
اكتشاف وتقصي عالم الجنس المغاير، إذ تنقل لنا جوخة الحارثية بطريقة درامية
التفاعلات الاجتماعية الدقيقة التي تحدث داخل تركيبة القرية الصغيرة وتبرز الفعل
الاجتماعي المحلي من خلال إبراز التناقضات والهواجس والرغبات الخفية في دواخل
ومشاعر بطل القصة”.
وحول مدى استطاعته الإمساك بزوايا الجغرافيا العمانية على الرغم من تعدد مساراتها
وتفرع اتجاهاتها، وما إذا نجح في ذلك تقول الشامسية: “يتخذ المكان المتخيل في الفضاء
الاجتماعي ذات ثنائية القرية والمدينة أو المكان المرتبط بعوالم الجن والسحر والشعوذة
حيزًّا كبيرا في مخيلة معظم الكتاب العمانيين إن لم يكن هذا المظهر هو أبرز سمات
القاص العماني، ولسنوات طويلة من النتاج القصصي الذي نقرؤه ظل القاص العماني
يتكئ على هذا النوع من سردية المكان العجائبية أو سردية المكان ذات الثنائية الضدية
للقرية والمدينة، وبالطبع تضيف معالجة المكان في السرد العماني بمستوياته وأشكاله
المختلفة نوعًا من الحيوية التي تجعل النص نابضًا بالمعاني ومتحركًّا عبر الزمن ومعززا
لبؤرة الصراع في نسيج القصة”.
في نهاية هذا السفر الأدبي تسجل الكاتبة صفاء الوضاحية حضورها وهنا تشير إلى
الكيفية التي وظّف فيها الكاتب العماني المكان في القصة القصيرة العمانية، وأثره عليها
وهنا تفيد بحديث يتوافق عمّا سبقها من الكتّاب أعلاه: ” في عُمان حيث قبَّلت وجهك ترى
قصّةً محفورة في عبق المكان، رواية محفوظة أو قصيدة مقفاة تندفع نحوك. في عُمان
ترى البحر والسهل والجبل تدفعك للكتابة رغمًا عنك، لذلك نلمس المكان في كتابات
الكاتب العماني واضحةً جليَّة، نتسلق جبالها ونشرب من أعينها ونحصد من زرعها
وبساتينها ونتنقل فيها في ربوع القصص. إن عنصر المكان في القصة بشكلٍ عام يشكِّل
الورقة الرابحة، واختيار المكان المناسب لشخوص وأحداث القصة هو ما يُدَعِّم القصة
بالقوة والترابط. لذلك نجد الكاتب العُماني يولي هذا الجانب في كتاباته العناية والحرص
الشديدين. فقد وظفتُ في أحد كتاباتي “قلعة نزوى” الملقبة بـ “الشهباء” فجعلتُ من هذا
الاسم اسم بطلة الرواية، وربطت ثبات القلعة الشامخة وحروبها بقصة البطلة، ليشكلا معًا
المعنى الرمزي والمعنوي لمقصد الكاتب، وهذا أحد أشكال التوظيف للمكان، كما أن
المكان هو من يشكل شخوص القصة وحِرفَهم وأعمالهم وطبيعة حياتهم مما يسهل ترتيب
أفكار الكاتب.
وحول مدى استطاعته الإمساك بزوايا الجغرافيا العمانية بالرغم من تعدد مساراتها وتفرع
اتجاهاتها، وما إذا نجح الكاتب في ذلك تقول الكاتبة الوضاحية: “الانعكاس الجغرافي كان
له الأثر في الرمزيات التي تدعم القصة، وإثراء الحدث والحفاظ على الموروث البيئي
والتسويق للسياحة فيه، والنقطة الأهم أن عنصر المكان في القصة كان له الدور الكبير
في انطلاق خيالات الكاتب وتعمقه وإبداعه، فكما نرى لدينا الأفلاج والعيون والكهوف
المتنوعة التي نتميز بها، لدينا القرى الجبلية التي تصنع أجمل الحكايات. فأن يولد من
عُمان كاتب يدفعه كل شيء من حوله أن يأخذه ويضعه في كتاباته شيءٌ ليس بغريب؛
فمخزون الكاتب الأول هو المكان الذي ولد فيه والمواقف التي حدثت له وعاشها، ومما لا
شك فيه أن الكاتب العماني نجح في ذلك بشكل ملحوظ، فلا تكاد تقرأ عملًا قصصيًّا إلا
وفي بطنه جغرافية عُمان بكل تنوعها. هذا الأمر الذي انعكس في الترويج السياحي لعُمان
في الداخل والخارج، فالفضول الذي يدفعك لرؤية المكان الذي وصف في القصة،
والرغبة في أن تعيش كالتجربة التي قرأتها، يدفعانك كقارئ للبحث عن هذا المكان
ومحاولة زيارته. وهذا ما وجدته من بعض القرَّاء من بلاد الشام والخليج عندما ذكرت في
كتاباتي “قرية وكان” و”قلعة نزوى” ورغبتهم وفضولهم الشديدين في زيارتهما. ونجاح
ذلك مبنيٌ على تعمُّق ودقَّة الوصف لدى الكاتب، وقدرته على نقل الصورة التي يراها إلى
عين القارئ، وهنا تُقيَّم القصص والكتابات، وكذلك الصورة التي تخرج من عين الكاتب
لتنعكس في عين القارئ وخياله وإثراء معلوماته التي تشكل النجاح الأكبر.
الآراء إجمالا تشير إلى أن هناك اتفاقا واضحا على الكيفية التي وظّف الكاتب العماني
المكان في القصة القصيرة العمانية، وأثره عليها مع استطاعته التامة الإمساك بزوايا
الجغرافيا العمانية على الرغم من تعدّد مساراتها وتفرع اتجاهاتها.
/العمانية /