في السنوات العشر الماضية، منذ انطلاق ما سُمِّي بالربيع العربي، شاهدنا وعايشنا مصائر قاسية لستةٍ من الحكام العرب، كان القاسم المشترك بينهم هو الإطاحة بهم، وتراوحت مصائرهم بين القتل الشنيع لاثنين منهم، والهروب ثم الوفاة في المنفى لأحدهم، فيما تعرّض اثنان آخران للمحاكمة بتهم الفساد، وأزيح السادس عن الحكم من مقعده المتحرك، وهو لا يدري أصلا أنه حاكم. وما جمع بين هؤلاء – وغيرهم بالتأكيد – هو التشبث بكرسي الحكم، وهذا أدى إلى غياب الحرية والعدالة، وانتشار المحسوبية والفساد؛ فأصبحت الثلة الحاكمة تعيش حياة باذخة، مقابل السواد الأعظم من المواطنين، الذين كان عليهم أن يواجهوا مصاعب الحياة المعيشية والتعليمية والصحية وغيرها، مع امتلاء السجون بأصحاب الرأي. لذا فلا يمكن أن يكون مصير هؤلاء الحكام قد جاء عبثًا أو خبط عشواء دون حكام العالم الآخرين، إذ أنّ النتائج عادة تأتي وفق مقدماتها؛ بمعنى أنّ هناك أسبابًا وجيهة أدت إلى تلك النهايات المأساوية، ولا يمكن أن أنكر التدخلات الأجنبية، كحلف الناتو مثلا وغيرها من الدول الغربية، إلا أنّ هذه التدخلات ما كانت لتنجح لولا أنها وجدت البيئة الجاهزة في الداخل. وكان في مقدمة هذه البيئة الفاسدة «هاجس السلطة وما يكتنفها من مخاطر، وحب الحكام الطغاة للتّملك وكنز ثروات لا حصر لها»، حسب وصف الكاتب روبرت فيسك في مقال نشره في صحيفة إندبندنت البريطانية في الأول من ديسمبر 2018، وقال فيه: «إنّ هؤلاء الحكام يعتبرون بلدانهم بتاريخها «مُلكًا خاصًا لهم، يتصرفون به كيف يشاؤون». فهم «يستطيعون زج عشرات الآلاف من معارضيهم في السجون أو إلقاء براميل متفجرة على رؤوسهم، أو تقطيع أوصال صحفي عنيد»».
لم تعد مشكلة التشبث بالكرسي مشكلة عربية أو عالمثالثية فقط، فقد وصلت إلى القطب الأوحد في العالم، عندما أصرّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب غير مرة – رغم هزيمته المنكرة في الانتخابات – أنه الرئيس المنتخب، وأنه سيستمر في الرئاسة، وغير ذلك من ترهاته؛ ثم جاء بعده رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق بنيامين نتانياهو، الذي أصرّ على البقاء في السلطة بعد اثنتي عشرة سنة قضاها في الحكم. ومثلما قال ترامب: «إني عائدٌ قريبًا» فإنّ نتانياهو ردّد العبارة نفسها.
رغم مرور ستة أشهر على تولي الرئيس بايدن الحكم في أمريكا فإنّ ترامب ما زال يعيش في أوهامه في العودة إلى الحكم، وأنا لا أدري كيف سيعود وبأي طريقة وقانون؟ فقد ذكرَتْ وسائل إعلام أمريكية، يوم الأربعاء الثاني من يونيو 2021، أنّ الرئيس ترامب، أبلغ مقربين منه أنه سيعود إلى منصب الرئاسة الأمريكية بعد شهرين من الآن. ووفقا لتغريدة نشرتها ماغي هابرمان مراسلة صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، فإنّ ترامب، رجّح عودته للبيت الأبيض بحلول شهر أغسطس المقبل. وأوضحت المراسلة أنّ ترامب أبلغ عددًا من الأشخاص الذين يتواصل معهم بأنه يرجح عودته لمنصبه بحلول ذلك الوقت، ورأت أنّ حديث ترامب يرتبط باحتمالية صدور حكم بشأن لائحة اتهام جنائية ضده في مانهاتن؛ أما شبيه ترامب الإسرائيلي فقد قال في كلمته في جلسة تصويت الكنيست الإسرائيلي على الحكومة الإسرائيلية الجديدة في الثالث عشر من يونيو 2021: «أقول لإيران وحزب الله، سنعود قريبًا».
هناك أوجه تشابه كبيرة بين الرجلين؛ حيث اعتقد كلٌ منهما أنه مبعوث العناية الإلهية، ودونه لن يستمر العالم. وعاش الاثنان بعقلية لويس الرابع عشر: «أنا الدولة، والدولة أنا» حسب تقرير صحيفة هآرتس التي ذكرت أنّ الرجلين يتشابهان بشكلٍ مذهل يُسلّط في إحساسهما العميق بالاستحقاق والعظمة الذاتية وإجلال الذات، إذ يمتلك كلاهما شخصيةً نرجسية، وسلوكيات سياسية يشوبها جنون العظمة، وكراهية حارقة للنخب السياسية، وخوف دائم من «الدولة العميقة» أو العصابة السياسية الضخمة التي تترصد لهما، مع السخرية الممزوجة بالخوف من منافسيهما السياسيين، كما يتشاركان خطابًا شعبويًا متطابقًا في بعض الأحيان، إلى جانب إحساسٍ دائم بعيش دور الضحية، وشكاوى لا تنتهي، ونزعة فطرية للكذب، ومضاعفة للأكاذيب، وإسقاط الاتهامات الموجهة لهما على الآخرين، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة.
ومثلما تعامل الرئيس ترامب بتعالٍ مع الحكام العرب، وأهان كلَّ من التقى به علنًا وأمام الشاشات، فإنّ نتانياهو فعل الشيء ذاته، وتعامل بغطرسة مع كلّ من التقاهم، وردّد في تصريحاته أنه استطاع أن يخترق العرب في عقر دارهم، «بسبب القوة الإسرائيلية المتنامية، وبسبب التكنولوجيا الإسرائيلية المتطورة».
ومن غريب الصدف أن تكون إيران هي محور اهتمام الرجلين؛ فمثلما ألغى ترامب الاتفاقية النووية مع إيران، ورأى أنّ بايدن سيقوي من إيران ويجعل منها دولة نووية، فإنّ نتانياهو عزف على الوتر نفسه، وفي سلسلةٍ من التصريحات، تعهّد بمنع إيران من الحصول على قوةٍ نووية عسكرية، وقال: إنّ مواجهة الولايات المتحدة بسبب هذه المشكلة هي أمرٌ محتمل، كما قدّم خيارين مفترضين أمام إسرائيل: إما إيقاف إيران أو مواجهة مع إدارة بايدن. واعتبر نتانياهو أنّ خليفته في الحكم «ليس لديه المكانة الدولية والنزاهة والمعرفة بالقدرات، وليس لديه حكومة تسمح له بمعارضة الاتفاق النووي». و»يحتاج رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أن يكون قادراً على قول «لا» لزعيم القوة العظمى في العالم» على حد تعبيره. ورأى أنهم في إيران «يحتفلون اليوم، لأنهم يدركون أنه ستكون هناك حكومة ضعيفة في إسرائيل». وحتى بعد تركه رئاسة الوزارة في الكيان، واصل نتانياهو هجومه على إيران، وانتقد خلفه نفتالي بينيت ووزير الخارجية يائير لابيد على خلفية تصريحاتهما بخصوص الملف الإيراني، وقال خلال جلسة «المعسكر الوطني» يوم الأحد الحادي والعشرين من يونيو 2021، تعليقًا على إعلان لابيد أنه سيناقش مع وزير الخارجية الأمريكية الشأن الإيراني: إنّ «هذه رسالة ضعيفة وهشّة، وهي هدية إلى الجلاّد الإيراني الذي يستطيع النوم بسلام».
وإذا كان ترامب ظلّ يرى أنّ فوز بايدن يفتقر إلى الشرعية، فإنّ نتانياهو يرى أنّ الحكومة الإسرائيلية الجديدة، هي بدورها حكومةٌ تفتقر إلى الشرعية، كما قال إنّها تُعارض إرادة «مليوني شخص» صوّتوا له. ويصر نتانياهو على أنّ الحكومة الجديدة «غير ملائمة لقيادة إسرائيل، حتى ليوم واحد، واستبدالُها هو مهمة وطنية. سنبذل أقصى جهودنا حتى يتحقق هذا في أسرع وقت».
أظهر ترامب ونتانياهو أنهما لا يختلفان عن أيِّ حاكم من حكام العالم الثالث في عشقهما للكرسي، وتشبثهما به حتى آخر رمق. وقد جعل ترامب أمريكا مثل أيّ دولة من دول العالم المتخلفة، فما شاهدناه من اقتحام مثيري الشغب المؤيدين له مبنى الكونجرس الأمريكي يوم السادس من يناير 2021، لم نشاهده في أيٍّ من الدول المتخلفة، بعد مزاعم ترامب المستمرة والكاذبة بأنّ انتخابات 2020 قد «سُرقت» منه.
لم يكن حكام العالم الثالث يحتاجون – أصلا – إلى تشجيع أكثر للتشبث بالكرسي، ولكن التشجيع جاءهم الآن من الدولة العظمى، ومن كيان يدعي لنفسه أنه ديمقراطي. ونحن أمام هذا التشبث بالكرسي من قبل الاثنين، نتساءل هل يمكن فعلا أن نرى عودتهما إلى سدة الحكم؟! نقول لا يمكن الجزم بذلك، ولكن أمام هذا التكالب على الحكم، وأمام تراجع الديمقراطيات لا يُستبعد أيُّ شيء.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 28 يونيو 2021م