استكمالاً للأجزاء السابقة من تبسيط كتاب التشريع الجنائي الإسلامي لمؤلفه الشهيد، عبد القادر عودة، وإبداء الرأي حول ما تغير من قوانين وما تعدّل منها، وما أصبح تعديلها واجباً، أو الإضافة عليها، دون المساس بروح الشريعة الإسلامية الثابتة والدائمة على مر العصور.
ورأينا كيف أن القوانين في زمن الشهيد عودة ربما كانت رهن الحالة السياسية التي كانت تعيش البلاد في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، من احتلال إلى ثورات إلى تغير الأنظمة من ملكية إلى جمهورية، عوامل كلها أثّرت على كتّاب تلك الحقبة ليس فقط في القانون بل في كل مفاصل الحياة، وكنا قد وصلنا في بحثنا هذا عند القصد الجنائي المباشر، والقصد غير المباشر.
يعتبر القصد مباشراً سواء كان معيناً أو غير معين كلما ارتكب الجاني الفعل وهو يعلم نتائجه ويقصدها، بغض النظر عما إذا كان يقصد شخصاً معيناً أو لا يقصد شخصاً معيناً، ويعتبر القصد غير مباشر إذا قصد الجاني فعلاً معيناً فترتب على فعله نتائج لم يقصدها أصلاً أو لم يقدر وقوعها، ويسمى القصد غير المباشر بالقصد المحتمل أو القصد الاحتمالي، ولم يتعرض الفقهاء للقصد المباشر أو غير المباشر كما أنهم لم يعرفوا تعبير القصد الاحتمالي، ولكن ليس معنى هذا أن الشريعة الإسلامية لم تعرف القصد الاحتمالي، وأنها لا تفرق بينهما، فقد عرفت الشريعة القصد الاحتمالي، وفرقت بين القصد المباشر وغير المباشر من يوم نزولها، فمثلاً، الشريعة تحمل الجاني في جرائم الضرب والجرح نتائج فعله ولو لم يقصدها أو يتوقعها، وتحمل الجاني هذه النتائج معناه أن الجاني يؤخذ بقصده غير المباشر أو بقصده غير المحتمل.
ومع تتبع أقوال الفقهاء في جرائم القتل والضرب والجرح نتبين بسهولة رأي كل منهم فيما نسميه اليوم بالقصد الاحتمالي وحكم هذا القصد، بالإضافة إلى آراء الفقهاء في هذه المسألة التي هي ثلاثة آراء يختلف كل منها عن الآخر.
الرأي الأول: رأي مالك، وهو يفرق عندما يتعرض لجرائم القتل والجرح والضرب بين الجرائم المتعمدة والجرائم غير المتعمدة، ويجعل الجاني في الحالين مسؤولاً عن النتيجة التي انتهى إليها فعله، فمن أدى فعله إلى الموت فهو مسؤول عن القتل، ومن أدى فعله إلى قطع عضو أو فقد منفعته فهو مسؤول عن ذلك، ومن شفى جرحه دون عاهة أو لم يترك ضربه أثراً كانت مسئوليته بقدر ما انتهى إليه فعله. والفرق بين الجرائم المتعمدة وغير المتعمدة ليس في ذات الفعل المادي الذي أتاه الجاني وإنما في قصد الجاني وقت إتيان الفعل، فمن أتى الفعل بقصد العصيان كان متعمداً، ومن أتاه دون أن يقصد العصيان كان غير متعمد، ويكتفي مالك في جرائم القتل والجرح والضرب المتعمد بالقصد العام وهو قصد العدوان، ولا يشترط في القتل العمد أن يقصد الجاني إزهاق روح المجني عليه، وقد كان مالك في رأيه هذا منطقياً مع نفسه؛ لأنه لا يعترف بالقتل شبه العمد، ولأنه جعل القتل نوعين لا ثالث لهما ولا وسط بينهما: هما القتل العمد والقتل الخطأ، فلم يكن لديه بعد هذا ما يدعوه لاشتراط نية خاصة في القتل العمد ليميزه عن غيره.
الرأي الثاني: هو رأي فقهاء مذهب أبي حنيفة والرأي المرجوح في مذهب أحمد. ويفرق أصحاب هذا الرأي أيضاً بين جرائم القتل والجرح والضرب المتعمدة وبين الجرائم غير المتعمدة، ويجعلون الجاني في الحالين مسؤولاً عن النتيجة التي انتهى إليها فعله، وأساس الفرق بين الجرائم المتعمدة وغير المتعمدة هو قصد الجاني، فإن أتى الفعل بقصد العصيان فهو متعمد، وإن لم يصطحب الفعل بقصد العصيان فهو غير متعمد، ويفرق هؤلاء الفقهاء بين القصد في القتل العمد والقصد فيما عداه من جرائم الاعتداء على النفس أو ما دون النفس، فيشترطون في القتل العمد أن يقصد الجاني الفعل القاتل ويقصد معه إزهاق روح المجني عليه، فإن توفر هذان القصدان فالجاني قاتل متعمد، وإن توفر الأول دون الثاني فالفعل قتل شبه عمد، وفيما عدا القتل العمد لا يشترطون إلا القصد العام أو قصد العصيان؛ أي تعمد إتيان الفعل مع العلم بأنه محظور، فإذا توفر هذا القصد فالجاني مسؤول عن نتائج فعله سواء قصدها كلها أو لم يقصدها، توقعها أو لم يتوقعها، وسواء كانت هذه النتائج قريبة يكثر حدوثها، أو بعيدة يندر وقوعها، فمن ضرب شخصاً بقصد ضربه فقط فأدى الضرب لموته كان مسؤولاً عن جريمة القتل شبه العمد لا الضرب.
وأصحاب هذا الرأي يتفقون مع مالك ويخالفونه، فيتفقون معه تمام الاتفاق فيما دون القتل حيث يأخذون الجاني بقصده المحتمل، ويجعلونه مسؤولاً عن نتائج فعله المتعمد، ولو لم يقصد هذه النتائج أو لم يتوقعها. ويخالفون مالكاً في القتل العمد، حيث لا يرون أخذ الجاني بقصده المحتمل في القتل العمد، ويشترطون لاعتباره قاتلاً عمداً أن يقصد إزهاق روح القتيل، بينما يؤخذ الجاني عند مالك بقصده المحتمل في القتل العمد وغيره. وعلة هذا الاختلاف أن من عدا مالك من الفقهاء يجعلون القتل ثلاثة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ. وقد اقتضى هذا التقسيم منهم أن يجعلوا لكل نوع من هذه الأنواع حداً يميزه عن غيره، فاشترطوا في القتل العمد أن يقصد الجاني إزهاق روح القتيل، ليميزوا بين القتل العمد وبين القتل شبه العمد الذي يكفي فيه أن يقصد الجاني الفعل القاتل، فإذا قصد الجاني الفعل القاتل وقصد إزهاق روح القتيل فهو قاتل متعمد، وإذا قصد الفعل القاتل فقط فهو قاتل شبه متعمد، بينما هو في الحالين قاتل متعمد في رأي مالك.
الرأي الثالث: وهو رأي الشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد. ويفرق أصحاب هذا الرأي أيضاً بين الجرائم المتعمدة وغير المتعمدة، ويجعلون الجاني مسؤولاً في الحالين عن نتائج فعله، كما يجعلون أساس التفرقة قصد الجاني، فإن أتى الفعل بقصد العصيان فهو متعمد، وإن لم يقصد العصيان فهو غير متعمد، ويفرقون في جرائم الاعتداء على النفس بين القتل العمد والقتل شبه العمد، ويجعلون القاتل مسؤولاً عن القتل العمد كلما قصد الفعل وقصد إزهاق روح المجني عليه، ويجعلونه مسؤولاً عن القتل شبه العمد إذا قصد الفعل ولم يقصد إزهاق روح المجني عليه، ولو كان لا يؤدي غالباً للموت. فلا مجال للقصد المحتمل في دائرة القتل العمد، وفي هذا يتفق أصحاب هذا الرأي مع أصحاب الرأي السابق.
أما في جرائم الاعتداء على ما دون النفس فيرى أصحاب هذا الرأي مسؤولية الجاني باعتباره متعمداً عن كل نتائج فعله التي قصدها، ومسؤوليته عن كل النتائج التي يؤدي إليها فعله غالباً ولو لم يقصدها أو يتوقعها؛ لأن تأدية الفعل غالباً لهذه النتائج يجعلها في حكم النتائج المقصودة، فإذا أدى الفعل إلى نتائج لم يقصدها، الجاني، ولا يؤدي إليها فعله غالباً، فلا يسأل الجاني عن هذه النتائج باعتباره متعمداً لها؛ لأنه لم يقصد هذه النتائج ولا يؤدي فعله غالباً إليها، كذلك لا يسأل الجاني عن هذه النتائج باعتباره مخطئاً؛ لأنه قصد الفعل وإن لم يقصد نتائجه، وإنما يسأل الجاني عن نتائج الفعل باعتباره شبه عامد، وشبه العمد درجة بين العمد والخطأ، والأصل أن شبه العمد مزيج من العمد والخطأ؛ لأن الجاني يتعمد الفعل ولا يقصد نتائجه، ولأن نتائج الفعل في شبه العمد ليست مما يؤدي لها الفعل غالباً، فالجاني يتعمد الفعل ويخطئ في نتائجه، فوجب أن يعاقب بعقوبة العمد وعقوبة الخطأ.
وبالمقارنة بين الآراء الثلاثة نجد أن القصد الاحتمالي لا وجود له في جريمة القتل العمد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، بينما يسلم مالك بوجود المحتمل في القتل العمد ويؤخذ الجاني في كل الأحوال بقصده المحتمل، والأصل في هذا الخلاف أن مالكاً يقسم القتل إلى عمد وخطأ فقط، فكل ما ليس خطأ فهو عمد عند مالك، وكل عمد يكفي فيه قصد العدوان، ذلك القصد الذي يميز العمد عن الخطأ. أما بقية الأئمة فيقسمون القتل إلى عمد وشبه عمد وخطأ، ويشترطون في العمد قصد الفعل وقصد إزهاق روح المجني عليه فإذا قصد الجاني الفعل ولم يقصد القتل فهو شبه عامد لا متعمد، وعليه عقوبة تقل عن عقوبة العمد وتزيد عن عقوبة الخطأ. وهكذا كان اشتراط قصد إزهاق روح المجني عليه عند من يشترطون هذا الشرط سبباً في امتناع القصد الاحتمالي في دائرة القتل العمد، ويسلم الفقهاء جميعاً بوجود القصد الاحتمالي فيما دون النفس؛ أي في الجرح والضرب وما أشبه، ويتفق مالك وأبو حنيفة في أخذ الجاني بقصده المحتمل في كل الأحوال ما دام قد تعمد الفعل، ويظاهرهما على ذلك الرأي المرجوح في مذهب أحمد. ويتفق الشافعي مع الرأي الراجح في مذهب أحمد على أن الجاني مسؤول عن النتائج التي قصدها باعتباره عامداً، وأنه يؤخذ بقصده الاحتمالي فيسأل باعتباره عامداً كلما كانت النتائج في حكم المقصودة، وتعتبر النتائج كذلك إذا كانت غالبة الوقوع، فإذا لم تكن نتائج الفعل مقصودة ولا غالبة الوقوع فهي نتائج غير مقصودة أو في حكم النتائج غير المقصودة، ولكن لا يسأل عنها الجاني باعتباره مخطئاً؛ لأنه تعمد الفعل، وإنما يسأل عنها باعتباره شبه عامد، ويعاقب عليها بعقوبة بين عقوبة العمد وعقوبة الخطأ.
من هنا، إن الأساس الذي قامت عليه نظرية القصد الاحتمالي هو جرائم القتل والجرح والضرب، والأحكام التي وضعت لهذه الجرائم هي التي بعثت فكرة القصد الاحتمالي إلى الوجود وجعلت منها نظرية خاصة.
وأكثر القوانين الوضعية لا تضع قواعد عامة للقصد الاحتمالي وتكتفي بالنص عليه في جرائم خاصة هي جرائم الضرب والجرح والجرائم الأخرى التي تؤدي إلى قتل أو جرح، فقانون العقوبات المصري مثلاً يأخذ الجاني بقصده المحتمل في جرائم الجرح والضرب (المواد من 240 إلى 243 عقوبات)، ولم يضع القانون المصري قواعد عامة للقصد الاحتمالي إلا عندما تعرض لعقوبة الشركاء، حيث نصت المادة 43 عقوبات على أن: “من اشترك في جريمة فعليه عقوبتها، ولو كانت غير التي تعمد ارتكابها، متى كانت الجريمة التي وقعت بالفعل نتيجة محتملة للتحريض أو الاتفاق أو المساعدة التي حصلت”، ونظرية القصد الاحتمالي لن تعرف في القوانين الوضعية إلا أخيراً، وهي من النظريات المسلم بها علمياً المختلف في شأنها عملياً، فالقوانين تختلف في مدى تطبيقها، والشراح يختلفون في تصويرها وتحديدها، ولكن ما أخذت به القوانين وما يراه الشراح على اختلافهم لا يخرج في مجموعه عن النظريات الثلاث التي عرفها الفقه الإسلامي، فالقانون المصري يأخذ في جرائم القتل والضرب والجرح بنظرية أبي حنيفة، والقانون الفرنسي يأخذ في جرائم القتل والضرب والجرح بمثل ما أخذ به القانون المصري، كما يأخذان معاً (الفرنسي والمصري)، بنظرية مالك في الضرب والجرح فقط، ويأخذان بنظرية الشافعي فيما يتعلق بالقتل فقط.
وتتفق النظرية الألمانية والقانون الإنكليزي والقانون السوداني مع مذهب مالك في مؤاخذة الجاني بقصده الاحتمالي في القتل العمد وقد حاولت التشريعات الوضعية الحديثة أن تضع نصوصاً عامة للقصد الاحتمالي، ولكن هذه النصوص على اختلافها لا تخرج عما قال به الفقهاء الإسلاميون، فالقانون المكسيكي الصادر في سنة 1931 يجعل الجاني مسؤولاً باعتباره عامداً عن كل النتائج التي لم يقصدها، إذا كانت من نتائج الفعل الضرورية أو العادية، أو كان الجاني قد توقع حدوثها، أو عزم على مخالفة القانون مهما كانت النتيجة، وهذا الذي أخذ به القانون المكسيكي إنما هو مزيج من النظريات الإسلامية. والقانون الإيطالي الصادر في سنة 1930 يجعل الجاني مسؤولاً عن النتائج التي لم يقصدها ويعاقبه بعقوبة أقل من عقوبة العامد، وأكثر من عقوبة المخطئ، ونظرية القانون الإيطالي تقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها نظرية الشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
- التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – مكتبة فكر.