تحدثنا في الجزء السابق عن القصد المباشر وغير المباشر وتفرعاته، وتناولنا النظريات الإسلامية التي تتطابق إلى درجة كبيرة مع شرّاح القانون المصري والفرنسي والمكسيكي والنظرية الألمانية والقانون الانكليزي، خاصة في بالقصد الاحتمالي في دائرة الجرائم التي تصيب النفس وما دون النفس، اليوم سنبيّن أثر الجهل والخطأ والنسيان على المسؤولية الجنائية.
إن أثر الجهل على المسؤولية الجنائية من المبادئ الأولية في الشريعة الإسلامية أن الجاني لا يؤاخذ على الفعل المحرم إلا إذا كان عالماً علماً تاماً بتحريمه، فإذا جهل التحريم ارتفعت عنه المسؤولية، فمتى بلغ الإنسان وعرف تكليفه، يعرف المحرمات عنه إما برجوعه للنصوص الموجبة للتحريم، وإما بسؤال أهل الذكر من المختصين، وإذا كان الفقهاء يرون قبول الاحتجاج بجهل الأحكام ممن عاش في بادية لا يختلط بمسلمين، أو ممن أسلم حديثاً ولم يكن مقيماً بين المسلمين، فإن هذا ليس استثناء في الواقع وإنما هو تطبيق للقاعدة الأصلية التي تمنع مؤاخذة من يجهل التحريم حتى يصبح العلم ميسراً له، فمثل هؤلاء، لم يكن العلم ميسراً لهم، ولا يعتبرون عالمين بأحكام الشريعة. أما إذا كان مدعي الجهل ناشئاً بين المسلمين أو أهل العلم فلا يقبل منه الادعاء بالجهل.
ويلحق الجهل بمعنى النصوص الحقيقي بالجهل بذات النصوص، فحكمهما واحد، فلو ادعى الجاني أن النص لا يدل على التحريم أو أن نصاً آخر أباح الفعل المحرم، فإن جهله بالمعنى الحقيقي للنصوص لا يرفع عنه المسؤولية الجنائية. وهذا هو الخطأ في التفسير كما نسميه اليوم في لغتنا القانونية.
وتتفق القوانين الوضعية تمام الاتفاق مع الشريعة فيما يختص بأثر الجهل بالقانون على المسؤولية الجنائية، فالقاعدة في القوانين الوضعية أن الإنسان لا يعذر بجهل القانون، وأن عبارة الجهل بالقانون تشمل العلم به والخطأ في فهمه وتفسيره، ولكن إذا كان الإنسان في ظروف يستحيل معها العلم بصدور قانون فله أن يحتج بالجهل، ويضربون لذلك مثلاً حالة المحاصرين في قلعة إذا خرجوا منها وخالفوا قوانين صدرت أثناء ضرب الحصار عليهم، وأساس الخروج على القاعدة أن هؤلاء لم يتيسر لهم العلم بالقانون.
أما أثر الخطأ على المسؤولية الجنائية فيمكن اعتباره أن الخطأ هو وقوع الشيء على غير إرادة فاعله. فالفاعل في جرائم الخطأ لا يأتي الفعل عن قصد ولا يريده، وإنما يقع الفعل منه على غير إرادته وبخلاف قصده، وفي بعض الأحيان يقصد الجاني فعلاً معيناً ليس جريمة ليس ذاته، فيتولد من هذا الفعل المباح ما يعتبر جريمة دون أن يقصد الجاني ما تولد عن فعله. وتعتبر الجريمة المتولدة عن الفعل المباح جريمة غير عمدية ولو أن الجاني قصد الفعل المباح؛ لأنه قصد بفعله محلاً غير المحل المحرم أي غير محل الجريمة. ومثال ذلك أن يتمضمض صائم فيسري الماء إلى حلقه، فالصائم قصد إدخال الماء إلى فمه ليتمضمض ولم يقصد إدخاله إلى حلقه ليفطر، فهو قد قصد فعلاً مباحاً، ولكن تولد عن الفعل المباح الذي قصده فعل آخر غير مباح لم يقصده وإنما وقع على غير إرادته، والمخطئ كالعامد مسؤول جنائياً كلما وقع منه فعل يحرمه الشارع، ولكن سبب مسؤوليتهما مختلف، فمسؤولية العامد سببها أنه قصد عصيان أمر الشارع وتعمد إتيان ما حرمه أو ترك ما أوجبه، ومسؤولية المخطئ سببها أنه عصى الشارع لا عن قصد ولكن عن تقصير وعدم تثبت واحتياط.
وفي المسؤولية عن الخطأ استثناء، والأصل في الشريعة أن المسؤولية الجنائية لا تكون إلا عن فعل متعمد حرمه الشارع ولا تكون عن الخطأ، لقوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم)، ولما كان الأصل هو العقاب على العمد، والاستثناء هو العقاب على الخطأ، فإنه يترتب على ذلك أن كل جريمة عمدية يعاقب عليها فاعلها إذا أتاها عامداً، ولا يعاقب عليها إذا أتاها مخطئاً، ما لم يكن الشارع قد قرر عقوبة لمن أتاها مخطئاً؛ لأن الجريمة بهذا تصبح من جرائم العمد وجرائم الخطأ في أن واحد، وهكذا كل جريمة عمدية أتاها الجاني عامداً فعليه عقوبتها فإذا أتاها مخطئاً فلا عقاب عليه. ويمكن تعليل عدم العقاب بأن الخطأ يعدم ركناً من أركان الجريمة العمدية فلا تتكون الجريمة، على أن انتفاء المسؤولية الجنائية لانعدام ركن من أركان الجريمة لا يمنع من مسؤولية الفاعل مسؤولية مدنية، إذ القاعدة في الشريعة أن الدماء والأموال معصومة، وأن الاعذار الشريعة لا تنافي عصمة المحل.
أما إذا كانت الجريمة مما يحرم إثباته عمداً أو خطأ، كالقتل والجرح، فإن العامد يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة للعمد، بينما يعاقب المخطئ بالعقوبة المقررة للخطأ، ويلاحظ أن الصالح العام هو الذي اقتضى العقاب على الخطأ، فهناك من جرائم الخطأ ما له خطورته ويكثر وقوعه، كالقتل والجرح خطأ، ولما كان أساس الخطأ هو التقصير وعدم الاحتياط فقد عاقب الشارع على الجرائم الخطأ التي يكثر وقوعها ولا يخفى خطرها؛ لأن العقاب عليها يحقق مصلحة عامة إذ يحمل الأفراد على التثبت والاحتياط فيقل هذا النوع من الجرائم، ولقد نصت الشريعة الإسلامية على جرائم معينة واعتبرت أغلب هذه الجرائم عمدية وأقلها من جرائم الخطأ، ولما كان الأصل هو العقاب على الجرائم العمدية والاستثناء هو العقاب على الخطأ فإنه لا يجوز لولي الأمر أن يعاقب من ارتكب خطأ جريمة عمدية إلا إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة عامة، وهذا يصدق على الجرائم متى حرمتها الشريعة، أما الجرائم التي حرمها أولو الأمر فلهم فيها أن يعاقبوا على العمد والخطأ مع مراعاة الشريعة الأصلية، وهي أن العقاب على العمد هو الأصل، وأن العقاب على الخطأ هو الاستثناء، وأن العقاب على الخطأ لا محل له ما لم يحقق مصلحة عامة.
الخطأ في الشريعة على نوعين: خطأ ناتج وخطأ غير ناتج. الخطأ الناتج هو ما نتج عن فعل مباح أو فعل أتاه الفاعل وهو يعتقد أنه مباح. والخطأ الناتج أو المتولد إما أن يكون مباشراً، كمن يرمي طائراً فيصيب شخصاً، أما الخطأ غير الناتج أو المتولد فهو كل ما عدا الخطأ الناتج وهو إما أن يكون خطأ مباشراً فيقع من المخطئ مباشرة دون واسطة، كما لو انقلب نائم على صغير بجواره فقتله، وإنما أن يكون خطأ بالتسبب، وهو ما يتسبب فيه المخطئ دون أن يقع منه مباشرة، كما لو حفر شخصاً بئراً في الطريق العام فوقع فيه أحد المارة، ويطلق بعض الفقهاء على الخطأ المتولد المباشر لفظ الخطأ مطلقاً من كل قيد، ويسميه بعضهم: الخطأ المحض، أما الخطأ المباشر غير المتولد، والخطأ بالتسبب متولداً وغير متولد، فيسمونه اصطلاحاً: ما جرى مجرى الخطأ، ومن الفقهاء من لا ينوع الخطأ ولا يفرق بين صوره المختلفة ويسميها جميعاً خطأ.
أساس الخطأ في الشريعة هو في الأصل عدم التثبت والاحتياط، ولكن لا يشترط مع هذا لمسؤولية المخطئ أن يقع منه تقصير في كل الأحوال، وإنما يشترط وقوع التقصير في الخطأ المتولد، أما فيما عداه فالتقصير مفترض في الجاني ولا يعفي من المسؤولية.
ويسير الفقهاء على قاعدتين عامتين يحكمان الخطأ، وبتطبيقهما نستطيع أن نقول إن شخصاً ما أخطأ أو لم يخطئ: القاعدة الأولى، إذا أتى الجاني فعلاً مباحاً أو يعتقد أنه مباح فتولد عنه ما ليس مباحاً فهو مسؤول عنه جنائياً، سواء مباشره أو تسبب فيه، إذا ثبت أنه كان يمكنه التحرز منه، فإذا كان لا يمكنه التحرز منه إطلاقاً فلا مسؤولية.
وأما القاعدة الثانية، إذا كان الفعل غير مباح فأتاه الجاني أو تسبب فيه دون ضرورة ملجئة، فهو تعد من غير ضرورة، وما نتج عنه يسأل الجاني عنه جنائياً، سواء كان مما يمكن التحرز عنه أو مما لا يمكن التحرز عنه.
أما فيما يتعلق بحكم النسيان، فقد اختلف الفقهاء حول هذا الأمر فرأى البعض أن النسيان عذر عام في العبادات والعقوبات، وأن القاعدة العامة في الشريعة أن من فعل محظوراً ناسياً فلا إثم عليه ولا عقاب، لكن الناسي إذا أعفي من المسؤولية الجنائية فإنه لا يعفى من المسؤولية المدنية؛ لأن الأموال والدماء معصومة والأعذار الشريعة لا تتنافى مع عصمة المحل، وطبقاً لهذا الرأي لا يعاقب الناسي إذا ارتكب فعلاً محرماً ما دام قد أتى الفعل وهو لا يذكر أنه محرم، ولكن النسيان لا يسقط الواجبات بل على الناسي إتيانها حين يذكرها أو يذكر بها، وإلا وجبت عليه العقوبة المقررة، ويرى البعض أن النسيان عذر بالنسبة للمؤاخذة في الآخرة؛ لأن العقوبة الأخروية تنقضي على القصد ولا قصد للناسي. أما بالنسبة لأحكام الدنيا فلا يعتبر النسيان عذراً معفياً من العقوبة الدنيوية إلا فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، فإنه يعتبر عذر فيها بشرط أن يكون هناك داع طبيعي للفعل، وأن لا يكون هناك ما يذكر الناسي بما نساه.
وسواء أخذ بهذا الرأي أو بالرأي السابق فإن ادعاء النسيان وحده لا يعفي من العقاب، وإنما يبقى قبل كل شيء أن يثبت الجاني أنه ارتكب الجريمة ناسياً، وهذا عمل من الصعوبة بمكان، ومن ثم كان مبحث النسيان في الجرائم مبحثاً قليل الأهمية، إذ يندر أن يستطيع شخص أن يثبت بدليل مقنع أنه ارتكب الجريمة ناسياً.
هذه الجرائم تتجه باتجاه تبيان حكمها الشرعي لجهة الحلال والحرام أكثر من مسألة تطبيق القانون، فمن شرب الماء في رمضان متعمداً في الشريعة يعتبر إثماً لكن القانون لا يحاسب عليه، كما مسألة النسيان والخطأ وغير ذلك، لكن ولأن الشريعة الإسلامية متكاملة لا يمكن إغفال أي مسألة مهما كانت في نظر البعض بسيطة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
- التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – مكتبة فكر.