مما لا شك فيه، أن العقوبة شكلت عاملاً رادعاً حدّ من الجرائم أو على الأقل خفّف من ارتكابها، جرّاء فرض عقوبات رادعة، لكن وبنفس الوقت، هناك عقوبات جائرة لا تتناسب ونوع الجرم، كما أن هناك عقوبات تأتي أقل من المتوقع للمجرم، وهنا تلعب عوامل كثيرة من الممكن تسميتها (التحايل على القانون، أو ثغرات القانون).
في هذا المبحث سنرى آراء بعض الدول في ماهية العقاب من خلال القوانين الوضعية التي تتبعها في بلادها، ومن المعروف أن القوانين الوضعية كانت حتى أواخر القرن الثامن عشر تنظر إلى المجرم نظرة تفيض عنفاً وقسوة، وكان أساس العقوبات المبالغة في الإرهاب والانتقام والتشهير، وكان من العقوبات المقررة المعترف بها قانوناً: الحرق، والصلب، وتقطيع الأوصال، وصلم الآذان، وقطع الشفاه واللسان، والوشم بأداة محماة في النار، ولبس أطواق من الحديد، والنفي، والجلد، والحبس، ولم تكن العقوبات غالباً تناسب مع أهمية الجرائم التي قررت لها، فبالرغم من قسوة بعض العقوبات التي ذكرناها وفظاعة بعضها كانت عقوبة الإعدام جزاء لكثير من الجرائم البسيطة، فمثلاً كان القانون الإنكليزي حتى آخر القرن الثامن عشر يعاقب على مائتي جريمة بعقوبة الإعدام، ومن هذه الجرائم سرقة أكثر من شلن من شخص ما، وكان القانون الفرنسي يعاقب بالإعدام على مئتين وخمس عشرة جريمة معظمها جرائم بسيطة.
وفي القرن الثامن عشر بدأ الفلاسفة وعلماء الاجتماع يعملون على هدم الأساس الذي تقوم عليه العقوبة ويحاولون إقامتها على أساس آخر، فأخذ “روسو” يبرز العقوبة بالعقد الاجتماعي ويرى أن الغرض منها هو حماية الجماعة من المجرم ومنعه من إيذاء غيره، وبرر “بكاريا” العقوبة بأنها حق الدفاع يتنازل عنه الأفراد للجماعة وأن الغرض منها تأديب المجرم وزجر غيره، وقد تأثر رجال الثورة الفرنسية بهذه الآراء فطبقوها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1791. ثم جاء “بنتام” فبرر العقوبة بمنفعتها للجماعة حيث تقوم بحمايتها واستوجب في العقوبة أن تكون كافية لتأديب الجاني وزجر غيره، ثم ظهر رأي “كانت” وهو يبرر العقوبة بالعدالة، ورأى البعض التوفيق بين مذهب المنفعة ومذهب العدالة فرأى أن لا تكون العقوبة أكثر مما تستدعيه الضرورة ولا أكثر مما تسمح به العدالة.
اللافت أن هذه النظريات تمتاز بأنها تهمل شخصية المجرم وتنظر إلى الجريمة ومقدار كبرها وأثرها على المجتمع، ولذلك لم تؤد إلى حل مشكلة العقاب حلاً يحسن السكوت عليه.
وظهرت بعد ذلك النظرية العلمية أو النظرية الإيطالية، وهي تقوم على إهمال الجريمة إهمالاً تاماً والنظر إلى شخصية المجرم، فيرى أصحاب النظرية أن تكون العقوبة متناسبة مع عقلية المجرم وتكوينه وتاريخه ودرجة خطورته، فالمجرم المعتاد على الإجرام يبعد إبعاداً مؤبداً عن المجتمع أو يحكم عليه بالإعدام، ولو كانت جريمته بسيطة، والمجرم الذي اعتاد الإجرام يأخذ حكم المطبوع على الإجرام إذا تمكنت منه العادة، والمجرم الذي تجعل منه المصادفات والظروف مجرماً يعاقب عقاباً هيناً ليّناً ولو كانت جريمته خطيرة، والمجرم الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير العاطفة لا ضرورة لعقابه، ولم تفلح النظرية العلمية في حل مشكلة العقوبة أيضاً؛ لأنها تنظر إلى المجرم وتهمل الجريمة، ولأنها تفرق بين المجرمين دون فارق ملحوظ أو محدود، ولأنها تترك بعض المجرمين دون عقاب بينما تأخذ غيرهم ممن ارتكبوا نفس الفعل بأشد العقاب.
وقد وجد بعض علماء القانون أن النظريات القديمة أخفقت؛ لأنها تحتفل بالجريمة وتهمل شأن المجرم، وأن النظرية العلمية أخفقت لأنها تحتفل بالمجرم وتهمل الجريمة، فرأوا أن يدمجوا الفكرتين اللتين تقوم عليهما هذه النظريات ويقيموا عليهما نظرية جديدة بحيث يتمثل في العقوبة على كل جريمة فكرتان: فكرة التأديب والزجر، وفكرة شخصية المجرم، ولكن هذه النظرية المختلطة فشلت أكثر مما فشلت النظريات السابقة؛ لأنها تقوم على فكرتين تناقض إحداهما الأخرى في أكثر الأحوال، فالنظر في كل عقوبة إلى شخصية المجرم لا يحقق دائماً فكرة التأديب والزجر؛ أي حماية المجتمع وعلى الأخص في الجرائم الخطيرة التي تتمس الأمن والنظام والأخلاق، والأخذ بفكرة حماية المجتمع في كل عقوبة يمنع من الالتفات لشخصية المجرم في الجرائم الخطيرة والبسيطة على السواء، وبالتالي، يمكن القول إن الاتجاه السائد اليوم لدى شراح القوانين الوضعية هو أن الغرض من العقوبة تأديب المجرم واستصلاحه ومعاونته على استعادة مكانته السابقة في الهيئة الاجتماعية، ومع أن هذا هو الاتجاه الأساسي فهناك اتجاه ثانٍ يرى أصحابه أن تكون العقوبة أداة استئصال كلما كان المجرم غير قابل للإصلاح، وهناك اتجاه ثالث يرى أصحابه أن تكون العقوبة وسيلة لحماية المجتمع وإرهاب من تحدثه نفسه بارتكاب الجرائم، وقد أيد الاتحاد الدولي لقانون العقوبات هذا الاتجاه وأخذت به بعض البلاد الأوروبية ومنها ألمانيا.
هذه الاتجاهات جميعاً تقوم إما على النظر إلى الجريمة دون المجرم، وإما على النظر إلى المجرم دون الجريمة، وإما أنها تقوم على الجمع بين هاتين الفكرتين، وهذه هي النظريات المختلفة عن العقوبة في عالم القوانين الوضعية، وظاهر من استعراضها أن شراح القوانين الوضعية يتجهون اتجاهات يناقض بعضها بعضاً، وقد منع تعدد النظريات من وضع أساس واحد ثابت للعقوبة في كل القوانين الوضعية؛ فاتخذت كل دولة لنفسها اتجاهاً خاصاً بحسب ما تراه متفقاً مع مصلحتها الخاصة أو بحسب الفكرة السائدة فيه، لعل تعدد النظريات والاتجاهات هو الذي دعا اتحاد القانون الدولي لقانون العقوبات – الذي حلت محله الجمعية الدولية لقانون العقوبات – لأن يقرر وجوب الاسترشاد بما تظهره التجارب، وأن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة.
وقد حاول واضعو القوانين أن يجمعوا بين هذه النظريات والاتجاهات المختلفة بقدر الإمكان، وأن يتغلبوا على ما وجه إليها من انتقادات بحلول عملية بحتة، مثل القانون المصري.
أولاً: أخذ القانون الجنائي المصري بالمبدأ القائل بأن الغرض من العقوبة حماية الجماعة، وجعل هذا المبدأ أصلاً وضعت على أساسه العقوبات لكل الجرائم بحيث تكفي العقوبة لتأديب المجرم على فعلته وزجر غيره عن التفكير في مثلها.
ثانياً: أخذ القانون الجنائي المصري بالنظرية العلمية إلى حد ما، فلم ينسَ شخصية المجرم في كل الجرائم تقريباً، فجعل لكل جريمة عقوبتين إحداهما أخف من الأخرى، وجعل لكل عقوبة حدين تختار العقوبة من بينهما، وأباح للقضاة في جرائم الجنايات أن يستبدلوا بالعقوبة أخرى، كما أباح لهم أن يوقفوا تنفيذ العقوبة إذا لم تزد العقوبة المحكوم بها عن حد معين هو الحبس لمدة سنة، ومعنى كل ذلك أن القانون اعترف بشخصية المجرم عند وضع العقوبة لكنه لم يلزم القضاة إلزاماً بمراعاة شخصية المجرم عند اختيار العقوبة وتقديرها، بل ترك لهم الحرية ينظرون إلى شخصية المجرم إذا رأوا ظروفه تدعو لذلك ويهملون شخصيته إذا كان هناك ما يدعو لإهمالها.
ثالثاً: بعد أن أخذ المشرع المصري بالمبدأين السابقين رأى أخيراً أن من الخطر النظر إلى شخصية المجرم في كل الجرائم وعلى الأخص في الجرائم الهامة، فحرم على القضاة أن ينزلوا بالعقوبة عن حد معين في بعض الجرائم كان حرم عليهم إيقاف تنفيذ العقوبة، وقد أخذ بهذا المبدأ في قانون المخدرات الصادر في سنة 1928، وقانون الغش الصادر في سنة 1941، وقانون السلاح الصادر في سنة 1949.
بالتالي، إن القانون الوضعي نظراً وعملاً فيما يتصل بالعقوبة، يرى أن تتمثل في العقوبة فكرة التأديب والزجر حماية للجماعة من الإجرام، ويرى أن لا تهمل في تقدير العقوبة شخصية المجرم، ويرى في بعض التشريعات الحديثة إهمال شخصية المجرم في بعض الجرائم، والقانون واضح ومنطقي فيما يتعلق بالمبدأ الأول ولكنه بعيد عن الوضوح فيما يتعلق بالمبدأين الأخيرين حيث لم يصل بعد إلى تحديد المدى الذي يعمل فيه كل من المبدأين.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
المصادر:
- التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي – مكتبة فكر.