ذات ليلة شتوية والمكان يسوده الصمت وهدوء الليل يلقي بظلاله على زقاق الحارة بأكملها .. استيقضت من نومها متوجهة إلى إحدى دورات المياه لقضاء الحاجة ، لم توقظ أحدًا لحرصها بعدم إزعاج من ناموا بجانبها ، حنونة في تعاملها مع أبنائها ، لا تحب أن تراهم في كدر .. وهي عائدة إلى فراشها سقطت على الأرض لتطلق صرخت ألم عانقة عنان السماء، نهض الجميع من نومهم مذعورين وهرعوا باتجاه الصوت فوجدوها تتألم ، ساعدوها في النهوض بنية توصيلها للمشفى، ردت بصوت مبحوح لا داعي للقلق دعوني أنام ( فالصباح رباح ) بزغت الشمس فالمشفى هو الحل للإطمئنان على صحتها فهي لاتزال تحس بالآلام .. وتبين بعد الأشعة والفحوصات بوجود كسر على مستوى منطقة الحوض ويتطلب راحة لفترة من الزمن .. تمر الأيام وبدأت تتماثل للشفاء ، فأصبحت بمقدورها المشي لمسافات قصيرة وبخطوات متثاقلة ، أستمرت المراجعات وتلقي العلاج .. كان أرتفاع ضغط الدم وانخفاظ نسبة السكر السبب الرئيسي في السقوط المفاجيء بتلك الليلة الرمادية بالنسبة لها .. وبعد مدة من العلاج يحذر الطيب أبنائها بمؤشرات ضعف في وظائف الكلى ولابد من أخذ قدر كافي من الماء حتى لا يصل الأمر للفشل الكلوي .. الخبر أربك أهلها فأخبروها بضرورة شرب الماء الكافي ، ولكن لم تمضي مدة طويلة لتظهر بعد الفحوصات حالة الفشل وتتطلب للغسيل .. خبر حزين ومؤلم في نفس الوقت .. وبدأت رحلة المعاناة في وحدة غسيل الكلى بمستشفى ( صحار ) ثلاثة أيام في الأسبوع ، تعاون الأبناء في نقلها لعلهم ينالوا برها، ساعات متعبة ، مسافة الطريق عند الذهاب إلى المستشفى بصحار والعودة إلى المنزل بالخابورة ، وساعات أكثر تعبًا عندما تكون تحت الجهاز حيث كان الغسيل عن طريق الرقبة ولفترة أربع ساعات .. استمر هذا الوضع بما يقارب السنتين في مشهد لا يتحمله القلب .. دار النقاش لتسفيرها لزرع ولو لكلية واحدة ، ولكن تطلب العلاج مبلغًا لم يكن بمقدور أبنائها توفيره بسبب الديون المتراكمة على عاتقهم آنذاك ، ليبقى العلاج تحت أجهزت الغسيل هو الوسيلة الوحيدة أمامهم ، واضعين أمرهم بين يدي الله عز وجل .. ساءت حالتها الصحية مع مرور الأيام ويتعرض جسدها النحيل لعدت جلطات أدخلتها في غيوبة لأكثر من شهرين .. تم تحويلها من العناية الفائقة إلى جناح الباطنية ( نساء ) ليرقد جسدها المنهك على ذلك السرير المحاط بأجهزت التنفس الإصطناعي وتنظيم دقات القلب وقياس الضغط اسبوعًا واحدًا تتخلل أوقاته انحدار دموع الفراق على وجنتيها الباهية كنور القمر ، ثم رفعت الراية البيضاء لتصعد روحها الطاهرة إلى خالقها .
متابعيني الكرام هذه ليست قصة من نسج الخيال ، بل هي قصة واقعية لأمي الغالية ورحلتها مع المرض حتى فارقتنا من الحياة في شهر مارس ٢٠١٣ ، لكنها لم تفارق أرواحنا ووجداننا وقلوبنا وتفكيرنا حتى يومنا هذا .. كانت أمًا عظيمة وصبورة ، تحملت وعانت الكثير في تربيتنا حتى أصبحنا رجالًا نستطيع الاعتماد على أنفسنا .. رحيلها ليس بأيدينا ، هي رحلت لأن الله أراد لها حياة أجمل من الدنيا ، لكن الحنين مؤلم ، ربِ إرحم من باتت في القبر وحيدة .. اللهم أستودعك من طال فراقها وصعب غيابها .. اللهم ارحمها بقدر شوقي لها .. اللهم ارحم ” أمي ” واغفر لها .. اللهم نقها من ذنوبها كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس .. اللهم نجّها من عذاب القبر وعذاب النار، واحشرها مع الصالحين الأتقياء .. اللهم إن أذنبت فهي أمتك وطامعة في رضاك ، وإن أحسنت فاكتب لها بكل حسنة عشرة أمثالها .. اللهم أرحم تلك النفس الطيبة التي فارقت الدنيا وأنتقلت إلى جوارك .. الله اجعلها في الفردوس الأعلى من الجنة ..اللهم انظر إليها نظرة رضا، فإنَّ من تنظر إليه نظرة رضا لاتعذبه أبداً ..اللهم أسكنها فسيح الجنان ، واغفر لها يا رحمن .. اللهم شفِّع فيها نبينا ومصطفاك صلى الله عليه وسلَّم، واحشرها تحت لوائِه، واسقِهِا من يده الشريفة شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبداً .. اللهم آمين .( إنا لله وإنا إليه راجعون ).
خليفة البلوشي