ما الذي يفعله شاعر وحيد في غرفة وحيدة، في ليل ألمانيا، سوى أن يتعهد أحزان العالم، “فهي نخبه الأول والأخير، وقد ذهب العالم ليحتفل”، وقد مات الأصدقاء القدامى في ظروف موت مصدرها الرصاص، في الأغلب، وهنا يحمل الشاعر جراح الوطن في صدره، حيث تحصد الحرب خيرة الشباب في اليمن.
قصيدة أعياها البؤس والغياب، وابتسامة “ضائعة” حجبتها الجبال والمسافات، تزيدها يوميات وباء كورونا عزلة مضاعفة، ولا يلوح في الأفق خلاصا قريبا، هذا ما تؤثثه قصائد المجموعة الشعرية الثانية للشاعر اليمني المقيم في ألمانيا، حسين مقبل، وقد اختار “شيخوخة الريح” عنوانا لها، بعد أن كان أصدر قبلها “أصافح ظلي” عام 2019.
في 140 صفحة، صدرت حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن “شيخوخة الريح”، وبدا لافتا اهتمام الشاعر بقصيدته، التي جاءت مختلفة عن سابقتها في الرؤية الشعرية واجتراح فضاءات سمتها التماهي في الوحدة وترميم عوالم ضاجة بالسائرين الحزانى، الذين -ببحة أصواتهم المكلومة- يسحقون نشوة الليل ويدفعون بمزيد من ارتباك اليوميات وشتات الصدور.
تحتوي المجموعة على 41 نصا بدءا بنص “روح سيئة الطالع” وانتهاء بـ”شتات”، وثمة اقتضاب في عنونة النصوص إذ يتصدر عنوان من كلمتين معظم النصوص بما فيها “شيخوخة الريح”، النص الذي حمل العنوان الرئيس للمجموعة.
متناقضات
نجح مقبل في “شيخوخة الريح” في تقديم نص مغاير، منكسر، وشريد، يقبض على عصا الشعر، في زمن الاغتراب الكوني، خلف جدران الأسمنت والرقميات، في حين تتسع دائرة الوجوم معبأة بدهشة اللغة وكتابة المتناقضات، لتأثيث نص سماؤه إحدى مدن ألمانيا، ووتره النازف نشرة أخبار الحرب الآتية من الوطن البعيد (اليمن).
ثمة روح تسبح في ملكوت الجمال الإنساني، قدرها أن تفر إلى الشعر في ليل السواد، وقد غطت أنباء كوفيد-19 على ما سواها من أحداث الانشطار على الجغرافيا في زمن اليوم، لكن قصائد “شيخوخة الريح” عينها على سراب عند نقطة النهاية… النهاية المؤجلة، وقد تكون نصف نهاية.
تتسع الفجوة بين الأنا المعزولة والأنا الشاعرة، فتطلع قصيدة من كهوف للروح مخفورة بالخوف في ظلام الليلة المتشحة بمحمولات انتحاب هنا وجوع هناك، ومسافة طويلة بين ثلج أوروبا وصيحة ديك الفجر في قرية الشاعر بين أودية وجبال سحيقة في ريف تعز (مسقط رأسه ومنبع حنينه الأول والأخير) تكوي أنامل شاعر وحيد، بجمر الحيرة، والغيوم تحتشد في مفكرة للمستقبل.
زهرة بلا عطر
ففي ليل السواد، تتجلى الرغبات في محبرة، تتشبث بـ”الحياة أملا أو شعرا”، بينما تمني زهرة نفسها بمعانقة عطرها المحجور في ورطة حياة أخرى، المسافات تنفلت وتضيع، وليس ثمة إلا حب يبتكر منافذ هروب من كوابيس تداعت من كل حدب وصوب.
تنزع قصيدة حسين مقبل لقسط من الإناسة، برغم سوداوية الأمس واليوم والغد، فتوهم قارئها بشغف تهيئه وصلة موسيقى، في سياق هنا، أو في طريق مقفر هناك، ليبقى الشغف رهن اشتباك يومي بكتلة “تفاهات” تراكمت منذ فجر الطفولة، إلى أمسية في المهجر، فلا حضن أم يعيد للروح دفئها القديم، ولا ابتسامة تنعش صباح الفتى السائر في منتبذه القصي، هاربا من تجاعيد ليلة متشظية أحزانها لا حصر لها.
في أتون عزلة تدمغ الأنا بالتوحد، ينجز الشاعر كتابة تقاوم، قصيدة تتشبث بخيط أمل، إمعانا في قلق يتكاثر، في حين يتم استدعاء فكرة خلاص “بالحب”، في أقاصي الغياب “كقبيلة (برازيلية) في أقاصي القارة الأميركية معزولة عن العالم”، إنما هي -في حيرتها- حارسة ليل.
وما الذي يفعله شاعر وحيد في غرفة وحيدة في ليل ألمانيا، سوى أن يتعهد أحزان العالم، “فهي نخبه الأول والأخير، وقد ذهب العالم ليحتفل”، وقد مات الأصدقاء القدامى في ظروف موت مصدرها الرصاص، في الأغلب، وهنا يحمل الشاعر جراح الوطن في صدره، حيث تحصد الحرب خيرة الشباب في اليمن.
من يروي عطش القصائد؟ الليل موحش وحالك رغم الأضواء، عذابات جمة، كوابيس، أمنيات وضباب، ووطن- وريد ينزف بلا ضمادة.. فأي مبرر للهروب من كل هذا، هو مبرر للنجاة، إذن، بعد أن “شاخت الريح” وتهشمت أجنحتها، في مواسم الموت، وبعد أن أمسى كل شعب هنا أو هناك مقبرة، والسماء عارية والزهر يتيم، والشتات في ذروته، و”ألف جنازة تشيع، الآن، كلها لي”.
سيرة
ولد الشاعر اليمني الشاب حسين مقبل عام 1988 في حصبان التابعة لمديرية المسراخ في ريف تعز، التي قضى فيها فترة الطفولة والشباب والدراسة، قبل أن ينتقل إلى مدينة تعز في عام 2008 لمواصلة الدراسة الجامعية في كلية العلوم (مختبرات طبية).
في عام 2012 انتقل حسين إلى العاصمة صنعاء، ولكنه لم يبق فيها أكثر من سنة، ليتنقل بعدها بين دول أفريقية عدة، مثل ليبيا والصومال وتشاد وكينيا وتونس… عمل خلالها في مجال حقوق الإنسان.
انتقل في عام 2016 إلى ألمانيا، ومن هناك أصدر أول مجموعة شعرية له بعنوان “أصافح ظلي” (2019)، التي قدمها الشاعر والناقد عبد العزيز المقالح بقوله “بعد قراءتي لمجموعة “أصافح ظلي” للشاعر الشاب حسين مقبل، ورحلتي المتأنية مع قصائده البديعة، وجدتنى أقول لنفسي هذا شاعر يعرف طريقه نحو الشعر في أحدث تجلياته اللغوية والأسلوبية، كما أن هذا الديوان، وهو الأول للشاعر، يعطي صاحبه شهادة ميلاد وانتماء إلى العالم الشعري بكل أشكاله القديم منها والحديث”.
المزيد من ثقافة