كانت الحروب الصليبية إحدى حلقات الصراع الطويل بين الشرق والغرب طوال قرنين كاملين منذ أواخر القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي إلى أواخر القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، وقد أعدَّ الأوروبيون كل ما في استطاعتهم من قوة وعتاد وبشر، مُتسلِّحين بصكوك الغفران ورعاية الكنيسة لكل المخطئين، مؤمِّلين إقامة الفردوس الأرضي في بلاد الشام حيث منطلق المسيح والمسيحية.
وقد تمكَّنوا مُذ خرجت صيحة البابا “أوربان الثاني” في مجمع “كليرمونت” بالجنوب الفرنسي عام 1095م/488هـ من الزحف في حملات تلو أخرى حتى تمكَّنوا في فترة مبكرة من الانتصار على المسلمين الذين عانوا آنذاك تشتُّتا واحترابا داخليا في البيت السلجوقي فضلا عن الحرب السلجوقية الفاطمية، واستطاعوا تأسيس أربعة كيانات سياسية تَمثَّلت في إمارة الرُّها في الجزيرة الفراتية جنوب تركيا وشمال سوريا اليوم، وأنطاكيا على ساحل البحر المتوسط، وطرابلس الشام، ثم أخيرا مملكة بيت المقدس في فلسطين كاملة التي أصبحت تلك الكيانات كلها تابعة لها من الناحية السياسية.
وقد ظلَّت هذه المستعمرات تنمو بمرور الزمن، وتأتي الحشود الصليبية من الغرب والوسط الأوروبي جماعات تلو أخرى حتى احتلّوا الساحل الشامي كاملا من غزة جنوبا وحتى أنطاكيا شمالا، فضلا عن تهديدهم الدائم والمستمر للشمال السوري وجنوب الأناضول من خلال إمارة الرُّها. وطوال مئتي عام 491-690هـ/1091-1293م، لم تكن العلاقة بين الجانبين علاقة حربية مستمرة أو علاقة قتال ودماء وأشلاء على طول الطريق، بل كانت تتخلَّلها معاهدات وهدنات وعلاقات اقتصادية وتجارية أملتها ضرورة الأمر الواقع.
ورغم ذلك، فإن عددا قليلا من المؤرخين المسلمين اهتموا بتناول عادات البيت الفرنجي وتقاليده في المشرق، لكن على قِلَّتهم فقد كان رصدهم لها طريفا ودقيقا في آنٍ واحد، وكان موضوع المرأة الصليبية وكيف عاشت وماذا انتعلت وتزيَّنت ولبست من جملة ما أثار انتباه هؤلاء المؤرخين والرحالة المسلمين، حتى دُهشوا من بعض أوجه الشبه بين نساء الصليبيين ونساء المسلمين. فكيف كان دور المرأة الصليبية طوال هذين القرنين في عالم المشرق؟ ومَن أبرز المؤرخين والأدباء الذين تناولوا بعض عادات الصليبيات؟ وكيف تشبَّهت المرأة الصليبية بنظيرتها المسلمة؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
صليبيات في حلبة القتال
شاركت المرأة الفرنجية رجلها في الحرب والسلام، بل وشارك بعضهن في السلطة السياسية كملكات بيت المقدس وغيرهن، لكن أغلبهن كُنَّ مثل سلع سياسية يُزوَّجن في إطار مصلحة الإمارة الصليبية أو المملكة، وتُشكِّل الأميرة “إيزابيلا” ابنة ملك بيت المقدس “عموري الأول” نموذجا للمرأة الضعيفة عديمة الحيلة مسلوبة الإرادة، حيث تركت نفسها تنتقل من زوج إلى آخر لكونها الوريثة الشرعية لتاج مملكة بيت المقدس الصليبية.
فبعد أسر الملك “جاي” في معركة حطين سنة 583هـ/1187م آلَ العرش إلى إيزابيلا ابنة عموري التي كانت متزوجة من الأمير “همفري” صاحب تورون “تبنين”، فانتُزعت من زوجها وزُوِّجت إلى صاحب مدينة صور الماركيز “كونراد” أمير مونتفرات فأصبح ملكا، وعندما اغتيل على يد الحشاشين الباطنية سنة 1192م/588هـ زُوِّجت إيزابيلا لعموري الثاني ملك قبرص[1].
غير أن نساء الطبقة الدنيا من الصليبيين كُنَّ على كتف المساوة مع الرجال في المشاركة في الأعمال الحربية وساحات القتال، ففي معركة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي على عكا سنة 585هـ/1189م “كان في جملة الأسرى ثلاث نسوة فرنجيات كُنَّ يُقاتِلنَ على الخيل، فلما أُسِرنَ وأُلقي عنهنّ السلاح عُرفن أنَّهن نساء”، كما يروي المؤرخ عز الدين بن الأثير في تاريخه “الكامل”[2].
ويبدو أن اشتراك المرأة الصليبية في المعارك ظلَّ مستمرا ومتعارَفا عليه، فعندما هاجم الصليبيون معسكر الملك العادل أخي السلطان صلاح الدين بالقُرب من عكا سنة 586هـ/1190م فدخلوه بعد إخلائه، قبل أن يُهاجمهم العادل وينتصر عليهم فيما بعد، كان من جملة المهاجمين بعض الفارسات الصليبيات. يقول كاتب السلطان صلاح الدين والمؤرخ “عماد الدين الأصفهاني” في تاريخه: “وركبتُ أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد (المؤرخ والقاضي المُقرَّب من صلاح الدين) لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد، ورأينا امرأة مقتولة لكونها مقاتلة”[3].
وقد روى بعض المؤرخين مشاهد من إقدام النساء الصليبيات على القتال في شذرات تاريخية أُخرى، لعل أهمها ما ذكره المؤرخ “الأمير أسامة بن منقذ” (ت 584هـ) في سيرته الذاتية “الاعتبار” التي تُعتبر بحق واحدة من أهم المذكرات الشخصية في التاريخ الإسلامي وأولاها، ونقلت لنا كثيرا من الملامح الاجتماعية المهمة للصليبيين ونسائهم ومجتمعهم وعاداتهم وتقاليدهم التي اعتبرها الأمير أسامة غريبة ومُستهجنة في كثير من الأحيان.
يُخبرنا أنه التقى بأحد أمراء مصر، واسمه “ندى الصُّليحي”، وكان في وجهه ضربتان بارزتان من أثر قتال وتلاحم سابق، فسأله عنهما فأجاب: “كنتُ أنهضُ وأنا شاب مِن عسقلان، فنهضتُ يوما في طريق بيت المقدس أريد حُجاج الإفرنج (للقتال)، فصادفنا قوما منهم، فلقيتُ رجلا معه قنطارية (حربة) وخلفه امرأته معها كوز خشب فيه ماء، فطعنني الرجل هذه الطعنة الواحدة وضربتُه قتلتُه، فمَشت إليَّ امرأتُه وضربتني بالكوز الخشب في وجهي، جرحتني هذا الجرح الآخر فوسما وجهي”[4].
لم تتوقَّف مشاركة المرأة الصليبية على معارك الشام فقط، بل شاركت أيضا في الحملة الصليبية الخامسة على مصر في معركة دمياط الشهيرة سنة 615هـ/1217م حين تمكَّن الصليبيون من احتلال دمياط في بادئ الأمر، واغتنموا الكثير من الذهب والفضة والمجوهرات التي قسَّموها ليس فقط على المقاتلين ورجال الدين من الصليبيين، بل أيضا على مَن حضر من نساء الصليبيات وأطفالهن[5].
الصليبية اللعوب
لكن مع كل هزيمة تعرَّض لها الصليبيون طوال بقائهم في بلاد الشام ومحاولاتهم على مصر، كانت أيدي الصليبيين وألسنتهم تتوجَّه إلى انتهاك النساء الصليبيات للحُرمات، وفسادهن وسوء أخلاقهن، ويمكن ملاحظة ذلك من الرسالة التي بعثها البطريرك “بلدوين شابلين” بطريرك كانتربري في إنجلترا إلى كنيسته، وكان مشاركا للملك ريتشارد قلب الأسد في حملته بعد هزيمة الصليبين في حطين، والمؤرَّخة في يوم الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول 1191م/587هـ حيث يقول:
“ولما تمهَّلنا بعض الوقت في انتظار الملك ريتشارد وصحبه ولم يأتوا، سِرنا نحو جيشنا في عكّا، فوجدنا جنودنا هناك، وأقولها بكل ألم وحزن، قد أسلموا أنفسهم لأفعال مخزية، واستسلموا للراحة والشهوة، وكان المخيم خلوا من العفة والاتزان والإيمان والإحسان”[6].
ويؤكِّد المؤرخ المسلم العماد الأصفهاني في “الفتح القسي” على حقيقة انحراف طائفة من النساء الصليبيات اللاواتي عملن في البغاء وكان لهنّ مواضع مُخصَّصة لهذه الأمور في بعض شوارع عكّا الصليبية وحاراتها، ففي حملة عسكرية أرسلها السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 585هـ/1189م على مدينة عكّا نجد فيها هذا الأمر، حيث يقول الأصفهاني: “ونقل إليها (السلطان) الرجال والذخائر والعُدد، فنقل إليها في المراكب جماعة من الأمراء، وأخذوا يطرقون الفرنج على سبيل التلصص والتصيد والقنص، وكبسوا ليلة سوق الخمّارات والعواهر، وسبوا عدة من المستحسنات الفواجر”[7].
وقد وجدنا في ديوان الشاعر شرف الدين بن القيسراني (ت 548هـ/1153م) كثيرا من إشاراته إلى الصليبيات وزيّهن وصورتهن، فقد زار إمارة أنطاكية الصليبية في حدود عام 540هـ/1145م، وحرص في ديوانه على نقل صفة الصليبيات وعاداتهن؛ شريفاتهن ممن حرصن على زيارة الكنائس للصلوات في أيام الأحد، فضلا عن الغواني اللائي كُنَّ يخرجن كاشفات حاسرات في الطرقات وشُرفات المنازل، وقد أُعجب ابن القيسراني بجمالهن في كثير من أشعاره، حتى إن إحداهن سحرته فقال فيها[8]:
لقد فَتنتني فِرنجيةٌ ** نسيمُ العبيرِ بها يعبقُ
ففي ثوبها غصنٌ ناعمٌ ** وفي تاجها قمرٌ مُشرقُ
وإن تكُ في عينها زُرقة ** فإن سِنان القنا أزرقُ
التشبُّه بالمسلمات
فيما يتعلَّق بتقاليد الزواج والمراسم التي كانت تحكمهم؛ اتّبع الصليبيون في بلاد الشام الأعراف التي سادت بلادهم، واعتبرت الزواج سِرًّا مقدَّسا ومنحة إلهية، فحرَّمت فصم عُرى هذا الرباط إلا في حالة ارتكاب الفاحشة، وقد قبلوا القاعدة القانونية الرومانية التي حدَّدت سن الثانية عشرة حدا أدنى لزواج الفتاة وسن الثالثة عشرة حدا أدنى لزواج الفتى[9].
شاهد الرحالة “ابن جبير الأندلسي” عام 581هـ/1185م حفل زواج صليبي في مدينة صور المحتلة آنذاك، ووصف مظاهر الحفل وشكل العروس والمدعوين كافة وملابسهم المزخرفة قائلا: “ومن مشاهد زخارف الدنيا المحدث بها زفاف عروس شاهدناه بصور في أحد الأيام عند مينائها، وقد احتفل لذلك جميع النصارى رجالا ونساء، واصطفوا سِماطين (صفّين) عند باب العروس المهداة، والبوقات تضرب والمزامير وجميع الآلات اللهوية، حتى خرجت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال، كأنهما من ذوي أرحامها، وهي في أبهى زيّ، وأفخر لباس، تسحب أذيال الحرير المذهب سحبا على الهيئة المعهودة من لِباسهم، وعلى رأسها عصابة ذهب قد حُفَّت بشبكة ذهب منسوجة، وهي رافلة في حليها وحللها، تمشي فترا في فتر مشي الحمامة أو سير الغمامة”[10].
وكذلك وصف لنا ابن جبير صفة المدعوين من الرجال والنساء الصليبيين في ذلك العُرس قائلا: “وأمامها جِلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم البهية، تسحب أذيالها خلفهم، ووراءها أكفاؤها ونظراؤها من النصرانيات يتهادين في أنفَسِ الملابس، ويرفُلن في أرفل الحلى، والآلات اللهْوية قد تقدمتهم، والمسلمون وسائر النصارى من النُّظار قد عادوا في طريقهم سِماطين (صفّين) يتطلعون فيهم ولا يُنكرون عليهم ذلك، فساروا بها حتى أدخلوها دار بعلها، وأقاموا يومهم ذلك في وليمة”[11].
يعترف الأمير الفارس والمؤرخ “أسامة بن منقذ” في سيرته “الاعتبار” بشجاعة الصليبيين وصبرهم في ميادين الحرب والقتال، لكنه في الوقت ذاته يعيب عليهم قلة غيرتهم على نسائهم، وتجرُّؤ هؤلاء النساء على الحديث مع غير ذوي محارمهم من الغرباء، فيقول: “وليس عندهم شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقفٌ ناحية ينتظرُ فراغها من الحديث، فإذا طوّلت عليه خلّاها مع المتحدث ومضى”[12].
بيد أن ابن جبير كان ممن التفت إلى ولع فريق من النساء الصليبيات والفرنجيات بتقليد النساء المسلمات في التزيِّي والتنقُّب والتحلِّي والتخضُّب والتعطُّر، وهو ما يجب أن يُضاف إلى جملة ما كان الغربيون وقتئذ يحرصون على استعارته من مذاهب الحضارة الإسلامية التي رأوها وعاينوها في بلاد الشام والأندلس، فحين مرَّ على مدينة “بالِرمو” الصقلية، وكانت موطنا للمسلمين والنصارى تحت سيادة النورمان آنذاك، عائدا من المشرق إلى الأندلس، لفت نظره زيّ نساء الإفرنج قائلا: “وزيُّ النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين: فصيحات الألسُن، ملتحفات، منتقبات، خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهَّب، والتحفن اللحف الرائقة، وانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، وبرزن لكنائسهن أو كُنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلِّي والتخضُّب والتعطُّر”[13].
تلك أبرز العادات والتقاليد التي كشفتها مصادر التاريخ الإسلامي عن المرأة الصليبية، وحجم التشابه والاختلاف بين النساء الصليبيات والنساء المسلمات. ولا شك أن العلاقات بين الشرق والغرب لعبت فيها القيم الأخلاقية واختلاف الثقافات دورها كما اتضح في مشاهدات كلٍّ من ابن جبير وابن منقذ والقيسراني وغيرهم، وذلك موضوع على طرافته فإن مصادره التاريخية لا تزال شحيحة.
————————————————————————–
المصادر
- تاريخ ابن العبري ص223.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/74.
- الأصفهاني: الفتح القسي في الفتح القدسي ص216.
- أسامة بن منقذ: الاعتبار ص128، 129.
- طه الطراونة: المرأة الصليبية ص81.
- السابق ص82.
- الأصفهاني: السابق ص186.
- ديوان ابن القيسراني ص204.
- طه الطراونة: السابق ص85.
- رحلة ابن جبير ص251.
- السابق.
- الاعتبار ص135.
- ابن جبير: السابق ص274.
المزيد من مقالة