إن التغنّي بالأخلاق الحميدة كان من شيم الأكارم، عرباً كانوا أم عجماً، ومن يفقد الأخلاق، سقطت معه كل القيم الإنسانية، فلا تدين حقيقي دون أخلاق ولا تربية أصيلة دون أخلاق، ومجتمعات صحية دون أخلاق، فإن تهدمت المنظومة الأخلاقية، تجردت الإنسانية من كل معانيها الراقية السامية، فالأخلاق مفتاح كل شيء لتحقيق كل شيء.
ومع تقدم الحياة المعاصرة وتطور الأدوات، يجب أن نستغلها بشكل صحيح، أن تؤثر علينا إيجاباً لا سلباً، التطور يجب أن يكون ذي منفعة لا ضاراً لنا، وكل شيء في الوجود له نقاط ضعف ونقاط قوة. التكنولوجيا كذلك دائماً رغم ما تتوفر عليه من مميزات ونقاط قوة، فالجميع يعلم أن كبرى الدول لديها تقنياتها في التجسس على خصومها، لكن لسبب ألا وهو اكتشاف مواطن القوة لديهم، ومحاولة معرفة نقاط ضعفهم، وكنا قد كتبنا بحثاً مطولاً عن مخاطر هذا الأمر على المستوى السياسي، لكن على المستوى الاجتماعي تحيط بنا مصائب أكثر خطورة من حروب كونية، ليس لضررٍ مادي، بقدر ما هو ضرر في بنية الأخلاق التي يتبعها المتجسس ودوره السلبي بحق من يتجسس عليه، وبرأي هذا الأمر لا أستطيع تسميته إلا بالسلوك المنحرف لأن فيه قلة احترام للذات وللإنسان وحتى للدين.
ما دفعني لكتابة هذا الموضوع على أهميته، ملاحظات مبنية على تراكمات قديمة جديدة، اليوم هناك نوع جديد من أشكال التجسس اللاأخلاقية تهتك في النفس البشرية، إذ أن تطور التكنولوجيا وضع لسبب وهو الاستفادة بما يخدم الإنسان، لا بما يضر الإنسان، فترى الكثير من الناس اليوم، يتناقلون محادثات دون علم صاحبها عبر اتباع خاصية التسجيل، أو تصوير المحادثات المكتوبة، او حتى تصوير الشخص دون علمه، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتم تداول المقطع أو الصور أو الصوت والتشهير بصاحب العلاقة، دون علمه، لننظر إلى تردي الأخلاق في هذه الناحية، كيف يأمن الإنسان الجلوس مع الآخرين وسط انتشار هذه الظاهرة بكثرة بين جميع الناس صغاراً وكباراً، بالتالي، أين المنظومة الأخلاقية لمن يقولون إنهم مسلمين؟ أين القيم الإنسانية والتربية وأين تعاليم القرآن الكريم والدين الإسلامي؟ قال تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً)، تأملوا هذه الآية الجميلة والمعبّرة والحكمة الكبيرة من ورائها، لا تجسسوا، إذاً هو أمر نهانا الله سبحانه وتعالى عنه، فلماذا نفعله؟ هو أمر شائن دون أدنى شك فلماذا نغضب الخالق بارتكابنا هذه المعصية؟
فالتجسس هو الطريقة التي يحاول فيها الإنسان أن يكتشف المنطقة المخفية الَّتي يخفيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم، بما يتصل بحياتهم أو بحياة من يتعلق بهم، فلا يريدون لها أن تبرز إلا في دائرة ضيقة، أو الطريقة التي يحاول فيها الإنسان أن يتابع الناس في ما يهمسون به، أو في ما يتحدثون به علناً، ولكن في مناطق آمنة، فيحاول أن يرصد ذلك كله لينقله إلى الجهة التي يعمل معها، أو ليستفيد منها في التنفيس عن عقده الذاتية، فالإسلام جعل في حياة كل إنسان منا منطقة محرمة لا يجوز للناس أن يقتحموها، وهي منطقة حياته الخاصة، لأن للإنسان الحق في حياة خاصة يحتفظ بها لنفسه، لا أن تكون منتشرة بين العامة، ألم يسمع الناس بأن للمنازل حرمتها وللناس حرمتها، بالتالي، لقد حرّم الإسلام التجسّس بكل الوسائل، سواء كان التجسس بواسطة البصر، بأن يتلصص ليطّلع على ما يخفيه الإنسان في بيته أو في أوراقه أو في اجتماعاته السرية، أو ما يتحرك به في حياته، أو في ما يتنصت إليه، سواء كان التنصّت بشكل مباشر بالأذن، أو بواسطة الأجهزة المعروفة، فنحن نعرف أن التنصت الآلي أصبح من خصوصيات العصر، فالله تبارك وتعالى طلب منا احترام حياة الناس الخاصة، فيجب قياس المسألة من منطلق العدل، فالعدل ينطلق من أن نساوي الإنسان بأنفسنا، فمن الإيمان أن لا تخترق حياة الناس، ولا تتجسَّس عليهم، كما لا تحب للناس أن يتجسَّسوا عليك، وقد جاءت الأحاديث المتنوعة التي تسند هذا الخط القرآني، وهذا كلّه في الجانب السلبي، بالتالي مسألة التجسّس في مواقع الشرّ تعمل على حماية مصالح الشر، أو تعمل على أساس إسقاط مواقع الخير في مصالحها وقضاياها كلّها، فإن للخير مصالحه التي يريد حمايتها.
قال تبارك وتعالى: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) فلكل شيء حرمة وخصوصية في هذه الحياة، ونحن ننطلق من تعاليم شريعتنا الإسلامية، بالتالي حتى على الصعيد السياسي وكثرة الجواسيس حول العالم، فأجهزة المخابرات العالمية تستقطبهم من نقاط ضعفهم، وبالدرجة الأولى (الفقر)، أو توريط الشباب بقضايا مخدرات أو بعمليات مخالفة للقانون، حتى إذا وقع أحدهم في الشبكة، فإنهم يخاطبونه بالعمل معهم بالتجسس على معارفه، وإلا فإنهم يهدّدونه بالسجن، ولذلك، علينا أن نعرف حقيقة مهمة، وهي أنّ كل المشاكل التي حدثت للعالم الإسلامي، إنما كانت من خلال الأجهزة المخابراتية التي تتحرك فيه على أساس رصد نقاط ضعفه، وإيجاد الوسائل المؤثرة في ضرب بعضه بعضاً، وذلك بإثارة الفتن المذهبية والطائفية والقومية والإقليمية وما إلى ذلك، حتى ينشغل العالم بخلافاته ونزاعاته الصغيرة التي يستفيد منها العالم المستكبر للسيطرة على العالم وعلى مقدراته، فالجامعة العبرية اليوم تخصص قسماً كبيراً للدراسات الأمنية لتدرس أوضاع العالم العربي والإسلامي. ولذلك، فنحن مكشوفون أمامهم، وبإمكان موظفيهم إثارة الفتن الطائفية، كما أثيرت في لبنان ومصر بين المسلمين والمسيحيين، أو الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، أو بين الشيعة أنفسهم وبين السنة أنفسهم.
بالتالي، التجسس لغةً، هو مأخوذ من الجَسِّ: وهو جَسُّ الخبر، ومعناه: بحث عنه وفحص، وتَجَسَّسْتُ فلاناً ومن فلان: بحثت عنه، والتَّجَسُّسُ بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأما بالمعنى الاصطلاحي، التجسس: البحث عن العورات والمعايب، وكشف ما ستره الناس، والجذر اللغوي لها (جسس)، والتجسس بطبيعة الحال حورب من الكثير حول العالم، لأن أبشع ما يمكن أن يتعرض له الإنسان هو اختراق خصوصيته، ففي تفسير الطبري، (لا تجسسوا)، أي لا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، لا على ما لا تعلمونه من سرائره، في حين أن تفسير ابن كثير، أي لا تتجسسوا على بعضكم بعضاً والتجسس غالباً يطلق في السر، والقرطبي يفسر أن خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين.
إذاً، التجسس من الناحية الدينية هو فعل محرم، ومن الناحية الاجتماعية هو كذلك، أيضاً من الناحية القانونية حيث سنبحث في هذا الشأن بموضوع خاص، لأن أدوات التجسس الحالية باتت تدخل في بعض النزاعات خاصة بين المتزوجين، جراء ارتكابها من قبل الزوج أو الزوجة، دون تفعيل التغافل عن هذا الأمر، بالتالي، التجسس لا شك بأنه آفة إن تم دون علم الآخر، فإن تم استئذان الشخص بالتصوير أو التسجيل وقبل ذلك، فذلك قمة الرقي، أما بدون علمه فهذا درك أسفل، وانحطاط وتفسخ إنساني ومجتمعي، لذا قيمة الحق هي بمقدار ما يخدم الحق، فإن لم نركز على تنشئة أبنائنا وتحصين مجتمعاتنا فكل يوم يمضي ستتدهور الأمة أكثر وأكثر، وهذا أمر يقع على عاتق المثقفين وذوي الاختصاص انطلاقاً من الأسرة إلى المدرسة، فالعمل، رجال الدين أيضاً، كلنا يجب أن نحارب هذه الظاهرة الآفة إن أردنا إيصال رسالتنا في الدنيا، عملاً للآخرة.
وليس أجمل بأن نختم بما قاله الإمام محمد بن ادريس الشافعي: احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنّك إنه ثعبان.. كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان