ذات يوم استقبل الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو (وهو صحفي سابق قبل أن يصبح على رأس السلطة في لبنان خلفًا للرئيس فؤاد شهاب الذي انتهت فترته الرئاسية منتصف الستينيات من القرن الماضي)، إستقبل وفد نقابة الصحافة اللبنانية الذي يمثل بأكثريته أصحاب الصحف ومالكي الامتيازات، وقف الرئيس شارل حلو على باب قصره الخارجي يستقبل زملاءه القدامى، وكان كلما صافح واحداً منهم سأله: كيف حال الأمير الفلاني؟ أو كيف حال الرئيس العربي الفلاني؟ أو كيف حال رئيس حكومة أو وزير خارجية أو رئيس جهاز مخابرات تلك الدولة الأجنبية؟ بحيث شمل السؤال الأعضاء الـ 12 لنقابة الصحافة نتيجة معرفته بارتباطهم السياسي، وبعد أن انتهى وجلس الجميع، التفت إليهم وقال بمنتهى الجدية: أهلاً وسهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان. هذه الحالة تنطبق تمامًا على النخب اليمنية ساسة ومثقفين، مدنيين وعسكريين الذين تواجدوا في المشهد اليمني طوال خمسة عقود من الزمن، المعضلة الأخطر التي لازمت اليمن منذ عقود هي الولاءات الخارجية لتلك النُخَب وجاءت الأزمة الأخيرة، والمشهد شبه خالي من الرموز الوطنية و القيادات التاريخية ورجال السياسة المخضرمين المتصفين بالحكمة، هو من أوصل اليمن إلى ما هي عليه الآن و فتح الباب على مصراعيه لوجود متسلقي السياسة وأصحاب المشاريع الصغيرة وأعني بذلك قيادات الأحزاب شيوخ القبائل الناشطين والناشطات المثقفيين الخ الخ. في اليمن غاب الوطن ومشروعه وحضرت الأحزاب العقيمة بمصالحها الذاتية وقياداتها الانتهازية التي أنتجت لنا فئة “المتزاحمين ” على أبواب السفارات الأجنبية أوروبية وعربية هي من صنعت تراجيديا العنف والدم في اليمن وهي من صنعت المشهد العبثي الدامي وفتحت أبواب الجحيم في يمن الإيمان والحكمة. كمواطن يمني وكغيري من السواد الأعظم من الناس بتنا على وعي ودراية أن الذين تصدروا المشهد لم يكونوا سوى أحجاراً على رقعة الشطرنج حد وصف الكندي وليّم جاي كار، ومن ورائهم المتلاعبون بالعقول حسب وصف الفرنسي تيري ميتان، هم من أوصلونا إلى نظام “التفاهة ” حد وصف الكندي “آلان دونو” النظام الذي جرى تعميمه في معظم دول العالم الثالث . خلال سنوات الحرب الثمان التي لا تزال مستمرة التقيت بعدد كبير من قيادات ومثقفين وساسة يمنيين في الداخل والخارج، منهم رؤساء سابقون ورؤساء حكومات ووزراء في وزارات سيادية سابقة وحالية، كُتَّاب وإعلاميين، أعضاء برلمان، محافظين، رجال أمن، ضباط مخابرات، ناشطين وإصحاب مشاريع، حاورت الجميع حوارات مطولة استمرت لأيام وأسابيع وأشهر، كنت دائمًا أحاول أن أفهم ما يدور في عقولهم.. رؤيتهم للصراع في اليمن وعلى اليمن، دور الإقليم مشاريعه أجنداته.. والمستقبل في ضوء كل السيناريوهات التي تُنفّذ على الأرض، ودائمًا كان السؤال الأهم اليمن إلى أين؟ بعد كل تلك الحوارات يؤسفني القول إنهم حسب المثل الدارج: “أطرش في الزفة”، كانوا ولازالوا خارج التاريخ وجميع مشاريعهم أشبه بالكلام الساكت حد وصف إخواننا السوادانيين الذي لا يقول شيئًا ، اتضحت لي الأسباب الحقيقية للأزمة اليمنية في نخبها، حسب المقولة المعروفة، أخبرني عن رؤساء تحرير الصحف لدّيكم أقل لك ما هي بلدك؟ وهذا التوصيف ينسحب على كل المنظومة اليمنية بتفرعاتها، نعم لقد كانوا ولا زالوا بعيدين بسنوات ضوئية عما يُحاك ضد اليمن وما يستهدفه من مؤامرات، فالنُخَب اليمنية إذا صحت التسمية التي يكتنفها الشك لا تزال بالرغم من كل الكوارث التي عاشتها اليمن تزال تدور في حلقه مفرغة، أصغر بكثير من قضيتهم الوطنية. وإذا ما خرجت علينا بمبادرات ورؤى فهي حلول ترقيعية تلفيقية ليس لها أي علاقة بالحل في الحاضر ولا بمستقبل اليمن ولا بالمشروع الوطني، لم تتعلم من أخطائها الكوارثية ولا أعتقد بأنها تفعل، انعدام الرؤية وغياب الوعي بالمؤامرة شكّل جزءًا مهمًا في أزمة اليمن، تلك الظروف والمعطيات فرضت نفسها على واقعنا العبثي بحيث لم يعد الذين يتصدرون المشهد قادرين أن يضيفوا إلى قاموس السياسة اليمنية عبارة إعادة التموضع في ظل المشهد الطاغي بمأساويته وقتامته الذي نتمكّن من خلاله من وقف مشروع من يمكن توصيفهم بالمتلاعبون بالعقول وهم هنا الألة الجهنمية الاستخباراتية للولايات المتحدة ووكلاؤهم في المنطقة. تم الإيعاز لدول عربية أن تكون أداةً طيعة منفذّة لخططهم ومشاريعهم ضمن حربهم ضد الآخر في حروب الممرات والمضائق الأستراتيجية، وهو ما حدث بالفعل عندما شجعت السعودية والإمارات والنظام السابق بوجهيه صالح وهادي بدعم الحركة الحوثية بالمال والسلاح على دخول العاصمة وطرد حزب الإصلاح “الإخوان المسلمين” منها، أوجدت ما يسمى بالجيش الوطني بديلاً للجيش العائلي الذي ذاب كالملح ، كان من الطبيعي في سياق تاريخي محكوم بصراع مناطقي جرى تغليفه بالإيدولوجيا أن يكون عموده الفقري الإخوان المسلمين ، وأوجدت ما يُسمى بالمجلس الانتقالي (الانفصالي) حالة لا تختلف كثيراً عن جيش لبنان الجنوبي الموالي لإسرائيل بقيادة سعد حداد وانطوان لحد من حيث المهام والدور، فصل جنوب لبنان عن باقي الوطن اللبناني وضمها لإسرائيل على غرار مرتفعات الجولان حيث كان بن غوريون يردد دائمًا أن لبنان غلطة في الجغرافيا ويجب اصلاحها. نفس المفردات التي يستخدمها الانفصاليون في جنوب اليمن باعتبار أنهم يرون في الوحدة اليمنية غلطة ينبغي إصلاحها. خلق التحالف العربي حالة من الصدام المستمر بين المجلس الانتقالي وبين الجيش الوطني وقام التحالف العربي بتمكين “الانفصاليين” في جنوب اليمن من العاصمة الاقتصادية لليمن بعد أن تدخل طيران التحالف في يوليو 2019 وقتل أكثر من ثلاثمائة جندي يمني، حين كان الجيش يتهيئ لدخول عدن عندما قصفه طيران “التحالف العربي” في نقطة العلم . الاستحقاق الوطني الذي ينبغي أن يطغى على ما سواه في اليمن بعد ثمان سنوات من الحرب في اليمن وعلى اليمن هو إعادة النظر في كثير من المتغيرات التي في المشهد اليمني وذلك من خلال قراءة جديدة ومغايرة عما كان عليه الحال في 2015 كون المشهد تغيّر والأولويات تغيرت عما كانت عليه قبل ثمان سنوات وهذا لا يعني القبول بالواقع الذي نتج عن سيطرة الحوثيين على أجزاء واسعة من البلاد، هناك وضمن ما يمكن توصيفه استحقاقات تفرض نفسها على واقعنا اليمني الراهن في ظل المتغيرات على الأرض في الداخل وظهور لاعبين جدد في المشهد وعلى ضوء المتغيرات الإقليمية منها والدولية، وبعيداً عن خطابات التخوين والفانتازيا السياسية علينا أن نقف لمراجعة ونقد الذات. هنا لسنا بحاجة لتكرار السؤال التقليدي حول الحرب ومسبباتها الداخلية، لكننا بحاجة ماسة إلى التفكير خارج الصندوق.. خارج اللعبة.. خارج المحددات التي وضعها أعداء اليمن، وطرح السؤال الأهم كعنوان عريض: من نحن؟ وماذا نريد؟ هذا السؤال هو الأهم، في المقابل ماذا يريد منا الآخرون أشقاء وأشقياء وأعدقاء وأصدقاء؟ ما جرى في اليمن لم يكن نتاج العقل الخليجي السعودي البعيد في كل الأحوال عن التفكير الاستراتيجي والعبقرية السياسية ولا يمكن لنا أن نتعامل معه سوى أنه عملية استنساخ “كربونية” لما جرى في لبنان طوال سنوات الحرب الأهلية التي استمرت نيرانها عقد ونصف من الزمان، عملية مستنسخة في أدق تفاصيلها. أقول ذلك قبل أن يتم تمرير طائف آخر في اليمن كحل تلفيقي للأزمة بدأت مقدماته بعد تشكيل ما يُسمى بمجلس القيادة الرئاسي من أدوات القوى الأجنبية (التحالف العربي) وإزاحة حزب الإصلاح من المنظومة للوصول في النهاية إلى حالة هزيلة فسيفسائية غير قادرة على العمل تنطبق عليها صفة الدولة واللا دولة وتكريسها في اتفاقية طائف عربي آخر يستنسخ الحالة اللبنانية بكل علاتها. في ضوء المشهد القاني القاتم الذي تعيشه اليمن لا أعتقد أن هناك محلل سياسي أو حتى خبير استراتيجي لدّيه القدرة على التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في اليمن بجوانبها الإيجابية المشرقة.. وجود محددات آسرة للعقل اليمني التقليدي بعبثيه فوضويته وارتزاقيته المطلقة مكنت حتى اللحظة للمشاريع المعادية حتى أننا ومع اتساع جغرافية الإرتزاق والتخاذل والتخادم بين النُخَب اليمنية والقوى المعادية غير قادرين على إيجاد إي نوع من المقارنة بينها وبين مثيلاتها في المشهد اللبناني كأن نقول أن هناك تيار انعزالي على غرار كميل شمعون مدعوم أمريكيًا وفرنسيًا وأن أدوات التحالف هي من تماثله في اليمن، بذلك نرتكب خطئًا استراتيجيًا في التحليل لكون القوى الدائرة في فلك التحالف لم تصل لمستوى التيار الانعزالي الجبهة اللبنانية فيما بعد ، فارق الوعي على مشروعها المعادي للعرب كفكر وهوية ورؤية على قبحه أكثر نضجًا ونظافة من أدوات التحالف في اليمن سواءً العفافيش أو الانفصاليين أو جماعات التكفير على تعدد مسمياتها، كما أننا وبشئ من الموضوعية والإنصاف والواقعية لا يمكن لنا أن نكرر الخطيئة بالتعاطي مع بعض الحالات والتي لم ترتق لتصبح ظواهراعتراضية باعتبارها نماذج لحركة وطنية مستقلة (بن دغر والميسري و الجبواني وعبدالعزيز جباري) و نواة لجبهة وطنية عريضة شبيهة بتلك التي كان يقودها كمال جنبلاط في أفضل الأحوال لا يمكن توصيفهم وتصنيفهم بأكثر من “ظاهرة صوتية” خجولة مرتعشة لا تمتلك أي مشروع حقيقي فاعل قضيتهم مع التحالف الذي استبدلهم بآخرين وركنهم خارج المشهد بهدف إيجاد أدوات طيعة تنفذ مشاريعه وأجنداته دون تحفظ أو مناقشة وهذه الحالات تظهر وتختفي كملهاة للرأي العام في نظام التفاهة للكاتب “آلان دونو” كونها ظواهر يتم صناعتها لكبح الظواهر الاعتراضية الحقيقية التي تتوقع أنظمة الاستبداد والاستعمار خروجها، يبقى الثابت واللاعب الرئيسي في المشهد هو السفير السعودي والقائد الإماراتي، الوضع يشبه إلى حد بعيد دور السفير السعودي في لبنان زمن الحرب الأهلية الجنرال علي الشاعر ولا يختلف عن دور اللواء غازي كنعان الحاكم الفعلي للبنان من قِبل القيادة السورية في دمشق طوال سنوات الحرب. أما هرم السلطة فالرئيس عبد ربه منصور هادي لم يكن أفضل حالاً من الرئيس إلياس سركيس والمجلس الرئاسي البديل لهادي بأعضائه الثمانية إذا ما استثنينا منه سلطان العرادة وعليمي شبوة والمجلي لا يمكن النظر إليه إلا كمجلس تقسيم وتفتيت لليمن وفي الحد الأدنى خلق دولة ضعيفة هزيلة فاشلة تدور في فلك الجوار والإقليم وتحافظ على مصالح الجوار والإقليم في وضع اليد على المقدرات والثروات، استنساخ للطائف اللبناني الذي كرس وقنن للطائفية، والنتيجة صراع سعودي إيراني أوصل لبنان إلى دولة مُدمّرة فاشلة بلا سيادة بلا اقتصاد، ضعيفة فاقدة للحد الأدنى من مقومات العيش الكريم. ولإيقاف السيناريو المُرعِب علينا كيمنيين أن ندرك حقيقة المؤامرة ونبدأ بإعادة التموضع وهو الأمر الذي يدفعنا للاعتراف بالخطأ الأستراتيجي القاتل للتموضع الراهن فما الذي يمنع بعد انكشاف المؤامرات والأجندات الخطرة للقوى الخارجية الأجنبية (ما يُسمى بالتحالف) التي تستهدف الهوية الثقافية والوجود اليمني برمته، ماالذي يمنعنا كقوى وطنية أن نقوم بتغيير قواعد الصراع عبر إيجاد تحالف وطني وجبهة وطنية عريضة تتكون من الإصلاح والحوثيين والمؤتمر الشعبي العام في الداخل مدفوعة بكل القوى الوطنية المناهضة للتحالف، تحالف يقوم على ميثاق شرف وطني، وهنا أدعو السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي لإرسال وفد إلى مأرب للتفاهم مع الشيخ سلطان العرادة وقيادات الاصلاح، هذا الكلام يصدر من كاتب يساري أبعد ما يكون فكريًا وسياسيًا عن الحركات الدينية كحزب الإصلاح أو الحركة الحوثية ، لكن من منطلق الإنحياز للوطن الذي سيصاب بكارثة ونكبة أخرى أخطر من باقي النكبات التي تتوالى عليه منذ العام 2011 فيما لو تمكن الأجنبي (التحالف العربي) من كسر شوكة الإصلاح وإنهاء قوته الضاربة لصالح قوى أخرى معادية لكل ما هو يمني، تحالف آخر يتماهى مع المرحلة ويُسقِط المؤامرات التي تُحاك ضد اليمن، كفيل بخلق واقع سياسي جديد. المسألة ليست بتلك المعُضلة التي يتصورها البعض فليس المطروح تحالف استراتيجي بعيد المدى، المطلوب تحالف آني عسكري محكومًا بالمتغيرات الراهنة لإفشال المخطط المعادي للقوى الأجنبية (التحالف العربي) يحفظ ويحافظ على وحدة التراب الوطني، ربما يقول البعض إن ما بين الإصلاح والحوثيين ما صنع الحداد.. نعم.. لكن هناك حقيقة لا يمكن إغفالها وهي أن التحالف والجوار والإقليم الذي استخدم الإصلاح وقبلهم الحوثيين بل والجميع لتنفيذ مخططاته في اليمن استغل الجميع، وهو الآن يتحاور مع إيران والعلاقات فيما بينهم نشطة وهناك لقاءات دائمة ومنتظمة في العواصم العربية والأوروبية والعلاقات التجارية فيما بينهم قائمة على أكمل وجه، ظهور جبهة وطنية من الإصلاح والحوثيين والمؤتمر الشعبي العام في الداخل يجعل من اليمن في موقف قوي قادرة على التفاوض مع القوى الأجنبية (التحالف العربي) في العديد من القضايا الأستراتيجية، التعويضات وإعادة الإعمار والنفط والموانئ والسيادة والوحدة وغيرها. هذه دعوة قبل فوات الأوان لالتقاط اللحظة التاريخية قبل ضياع كل شيء وقبل أن يتحول اليمنيون على يد الجوار والإقليم إلى هنود حمر، دعوة من مواطن يمني يعاني مثله مثل 35 مليون مواطن، هدفه كان ولا يزال دولة الحكم الرشيد دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالآت وآبعاد .
عبدالرحمن الرياني – رئيس المركز الدولي للإعلام والعلاقات العامة