التاريخ الإسلامي مليء بمنارات العلم في مختلف أنواعه، وأغلب العلماء برعوا في أكثر من جانب، فمنهم الفلكي والطبيب والفيزيائي والمحدّث والعالِم، الفقيه، واللغوي والرحالة والجغرافي، وإذا ما ركزنا على الجانب الفقهي نجد أيضاً أن الفقه تزاوج مع أذهان الفقهاء فكان استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة والمصادر يدور في ضوء مقاصد الشريعة، ولم يحدث مجافاة بين النص والواقع؛ وذلك لأن فهمهم للنصوص محكوم بالدليل وروحه، فكان فقههم يناسب الناس جميعا على اختلاف مشاربهم.
والمتابع لفقه الائمة الأعلام يجد أنهم أحاطوا بعلم الشريعة الإسلامية من جميع جوانبها، وكان لهم تميز ملموس في جانب التشريع الإسلامي، فكانت أحكامهم التي استنبطوها من النصوص الشرعية شاملة تغطي جميع جوانب الحياة، دينياً وقانونياً، في السلم والحرب وغير ذلك، ولعل شخصية اليوم تميزت بهذا الجانب لا بل برعت فيه وحققت نجاحاً كبيراً وتركت لنا موروثاً ضخماً قلّ نظيره.
هو أحد الأئمة المجتهدين في الفقه، الإمام محمد بن الحسن الشيباني، الذي تتلمذ على أبى حنيفة النعمان وتأثر بفقهه، ونبغ في مدرسته، حتى أصبح مرجع أهل الرأي في حياة أبي يوسف بعد وفاة أبي حنيفة، وهو الذي رحل إلى المدينة وأخذ عن الإمام مالك، وله رواية خاصة في الموطأ، وهى رواية مشهورة من أوثق الروايات وأجلها، يعقب أحاديثها بما عليه العمل عند أبي حنيفة، ويبين السبب الذي من أجله وقع الخلاف. قال الإمام محمد: “أقمت على باب مالك ثلاث سنين، وسمعت منه لفظاً سبعمائة حديث ونيفاً”. وقال الإمام الشافعي: “كان محمد بن الحسن إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثروا، حتى يضيق بهم الموضع”.
محمد بن الحسن الشيباني، قاضي القضاة وفقيه العصر، من أصول سورية، قدم أبوه من الشام إلى العراق، وأقام بواسط وتضاربت المعلومات حول ميلاد الإمام الشيباني، فمنهم من قال (135 هـ) ومنهم من قال (131 هـ ) أو (132 هـ)، طلب الحديث، ولقي جماعة من أعلام الأئمة، سمع أبا حنيفة وحضر مجلسه سنتين، وأخذ عنه بعض الفقه، ثم تفقه على أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة، وأتم على يديه علم الفقه، وكان من أذكياء العالم، كان من أهل الرأي، وغلب عليه، وعُرِفَ به، ونعته الخطيب البغدادي بإمام أهل الرأي، قال عن نفسه: “خلَّف أبي ثلاثين ألف درهم، فأنفقت نصفها على النحو بالري، وأنفقت الباقي على الفقه”، وكان الخليفة العباسي هارون الرشيد قد ولاه قضاء الرقة، ثم عزله عنها، وقدم بغداد، وله مصنفات وكتب كثيرة منها، الجامع الكبير، الجامع الصغير، السير الكبير، السير الصغير، المبسوط: في فروع الفقه، الزيادات، وله في مصنفاته المسائل المشكلة خصوصاً المتعلقة بالعربية.
بالتالي، إن الإمام الشيباني هو أحد الأئمة الذين امتازوا باتقاد الذكاء وتفرغوا لخدمة الفقه الإسلامي، رغم تتلمذه على يد أساتذة كبار في حقله مثل أبي حنيفة لكنه كان له أسلوبه المستقل، وهو رائد من رواد القانون الدولي العام ومن بُناة النظام الاقتصادي في الإسلام، بشهادة كبار الباحثين والمتخصصين الإسلاميين، فهو أول من رسم خطوط القانون الدولي العام بكل دقة وإحكام تحت عنوان (السِّيَر) وأما الاقتصادي الإسلامي (الكسب)، وكان أول من أبرز علم الفروق الفقهية إلى عالم المعرفة، حيث ألحق الشبيه بالشبيه وتمييزه بين النظائر المتقاربة ظاهراً والمختلفة باطناً، فلقد حاول الإمام الشيباني أن يجعل الفقه حياً وواقعياً يساير واقع الحياة، ويلامس حاجات الناس، بالتالي هكذا شخصية لا يمكن المرور حولها مرور الكرام، فيجب ان تدرّس بقوة وتدبر للاستفادة من فكر هذا العبقري إلى يومنا هذا.
بدأ الشيباني دراسته في الكوفة كواحد من تلاميذ أبي حنيفة، وعندما بلغ الشيباني عامه الـ 18، وذلك في عام 767 ميلادي، توفي أبو حنيفة بعدما درّس الشيباني لسنتين فقط، شرع الشيباني بعدها يتدرب عند أبي يوسف، وكان أبو يوسف أكبر منه وأفضل تلميذٍ من تلامذة أبي حنيفة. كما درس الشيباني على يد عددٍ من الأساتذة البارزين، أمثال سفيان الثوري، والأوزاعي. زار الشيباني لاحقاً المدينة المنورة، ودرس هناك من سنتين لـ 3 سنوات مع مالك بن أنس، وهكذا، نتيجة لمتابعته العلم منذ صغره، أصبح الشيباني واحداً من العلماء في عمرٍ مبكر جداً. ووفقاً لما قاله إسماعيل حفيد أبي حنيفة، ثم انتقل الشيباني إلى بغداد، حيث أكمل دراسته وتعلمه هناك. وكان الرجل محترماً بشدة بين أقرانه، حتى أن الخليفة هارون الرشيد قلّده منصب قاضٍ لعاصمته الرقة، ثم أعفي من هذا المنصب كما أشرنا أعلاه، عاد بعدها إلى بغداد وأكمل نشاطاته التعليمية، وخلال تلك الفترة، كان للشيباني التأثير الأكبر على تاريخ العلم والعلماء المسلمين. حيث علّم محمد بن ادريس الشافعي، وهو واحدٌ من أهم تلاميذ الشيباني.
وبالغوص قليلاً في منهج هذا العالم الجليل وما تركه للبشرية، نجد أن المقدمة التي كتبها الشيباني عن قانون الأمم تحاكي عصرنا بدرجة كبيرة رغم أنها كانت في نهاية القرن الثامن ميلادي، حيث وفر كتاب مقدمة عن قانون الأمم، توجيهات مفصلة عن الجهاد ضد الكفار، وتعليمات أخرى عن قوانين معاملة الرعايا من غير المسلمين، كتب الشيباني أطروحة ثانية أكثر تطوراً وتقدماً عن سابقتها، وحذى القضاة الآخرون حذوه وكتبوا عدداً من الأطروحات، والمؤلفة من مجلدات متعددة. حيث ناقشت هذه الأطروحات القانون الدولي العام والخاص، ناقشت هذه الأطروحات الإسلامية المبكرة أيضاً مواضيعاً كتطبيق الأخلاق الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والفقه العسكري الإسلامي في القانون الدولي، كما طُرحت أيضاً مجموعة من المواضيع المتعلقة بالقانون الدولي الحديث، كالقوانين المتعلقة بالمعاهدات ومعاملة الدبلوماسيين والرهائن واللاجئين وأسرى الحرب، بالإضافة إلى القوانين المتعلقة بحق اللجوء وقانون الحرب وحماية النساء والأطفال والمدنيين، والعقود التي تُجرى خلال الحرب واستخدام الأسلحة السامة وتدمير أراضي العدو.
مما سبق نستنتج أن العصر الذي عاش فيه الإمام الشيباني، كان عز ازدهار الدولة العباسية التي اهتمت بحركة العلم وشجعت عليها الأمر الذي أثمر إيجابياً في حياة الإمام العلمية، فلقد نشأ في عصر فتحت فيه عيون الاجتهاد، وانتشرت حلقات الفقهاء ووجد في المجتمع فقهاء متخصصون يستنبطون أحكام الأحداث الواقعة والمتوقعة، بالتالي إن النهضة العلمية التي انتعشت في العصر العباسي تميزت بظاهرة تدوين العلوم الشرعية وما يتعلق بها بصفة عامة، وبظاهرة الاجتهاد في ميدان الفقه بصفة خاصة، ووصف الذهبي تلك المرحلة: “وفي هذا العصر شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج التصانيف بمكة، وصنف سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، وصنف الأوزاعي بالشام، وصنف مالك الموطأ في المدينة، وصنف ابن اسحاق المغازي، وصنف معمر باليمن وصنف أبو حنيفة وغيره الراي والفقه في الكوفة، ….”، أما الفقه الإسلامي فكان يمر بأخصب مرحلة من الناحية الاجتهادية الذي كان سمة العلماء الناضجين، وذلك بسبب النهضة العلمية التي أذكت روح الاجتهاد لا سيما عن طريق المناظرات بين الأئمة ما كان سبباً مباشراً في تطور الاجتهاد الفقهي، بالتالي، إن نشوء الإمام في الكوفة التي كانت مهد العلم ومهبط العلماء ساهم كثيراً في تهيئته العلمية، إلى جانب الموهبة والملكات التي حباه الله سبحانه وتعالى بها، من ذكاء واتقاد ذهن وسرعة بديهة وقوة ذاكرة وغير ذلك.
تتلمذ الإمام محمد بن الحسن على جملة كبيرة من الشيوخ، وقدر سرد العلامة الكوثري في كتابه “بلوغ الأماني” أسماء نحو سبعين شيخاً من شيوخ محمد بن الحسن منهم الكوفي، والبصري، والمدني والمكي، والواسطي، والشامي، واليماني، إلى أن قال: “وغير هؤلاء من أهل تلك البلاد وغيرها ولم يزهد في الرواية عن أقرانه وعمن هو دونه كما هو شأن الأكابر في روايتهم عن الأصاغر”.
وبما يتعلق بمؤلفات الإمام الشيباني فإنها تعد المصادر الأولى الأصيلة التي جمعت معظم أقوال فقهاء العراق، قال العلامة محمد أبو زهرة: “إن فقه أبي حنيفة خاصة، وفقه العراقيين عامة، مدين لمحمد بن الحسن بكتبه، فهي التي حفظته وأبقته للأخلاف مرجعاً يرجع إليه، ومنهلاً يستقى منه”، بالتالي، اتسمت كتب الإمام بمكانة عالية بين المصنفات الفقهية وذلك لقدمها وأصالتها ودقتها وغزارة مادتها العلمية، ومثلت كتبه جمهرة للفقه الإسلامي من حيث سعة المسائل وتنوع العلوم الفقهية، فمثلاً كتاب الكسب الذي لم ينهيه الإمام بل أدرج في آخر جزء من كتاب “المبسوط” للإمام السرخسي، فكان الكسب المعني بالاقتصاد الإسلامي مبيناً لما يحل وما يحرم، وحالياً يعتبر هذا الكتاب من الكتب المهمة في العصر الراهن وعلى الرغم من صغر حجمه إلى أنه يغطي جوانب مهمة لذلك انصب كثير من الاقتصاديين على دراسة الاقتصاد الإسلامي في ضوء كتاب “الكسب”.
بالتالي، مع الغوص في هذه المعارف كلها، يتبين لنا أن العلم المنتشر حول العالم خرج من العلماء المسلمين، وهذا دليل جديد على أهمية التعمق أكثر بمصنفاتنا وموروثنا الإسلامي، حتى العلاقات الدولية لم يغفل عنها الإسلام، إن القانون الدولي العام الجديد والمبتكر لدى الإمام الشيباني، تمثل في كتابيه “السير الصغير والسير الكبير”، فإنه لم يوجد فقيه من فقهاء الإسلام تطرق إلى هذا الموضوع قبل الإمام محمد بن الحسن، ففي هذين الكتابين كما اشرنا أعلاه، أحكام الجهاد وأحكام الموادعة ومتى يصح نقضها وأحكام الأمان، وممن يجوز، ثم أحكام الغنائم والفدية والاسترقاق، وغير ذلك مما يكون في الحروب ومخلفاتها، ونجد بعد أن توغل الباحثون المعاصرون، شهد أهل الشرق والغرب ببراعته وعبقريته، من هنا، إن الإمام محمد بن الحسن الشيباني الذي يعد الرائد الأول للقانون الدولي العام باعتراف الغرب وأصحاب القانون أنفسهم، إذا كان الأوروبيون يعدون جروتيوس الهولندي مؤسس القانون الدولي فإن هذا خطأ علمي تاريخي؛ لأن الإمام محمد بن الحسن الشيباني وقد سبق جروتيوس بأكثر من ثمانمائة عام قد كتب في القانون الدولي الإسلامي في تفصيل وشمول لم يسبق به، ومن ثم يعد هذا الإمام مؤسساً للقانون الدولي في العالم كله، وليس فضل الشيباني في أنه أول من كتب في العلاقات الدولية فحسب وإنما يظهر فضله أيضاً في مجال الفكر القانوني، حيث إن القانون الدولي المعاصر لم يأتِ بجديد بالنسبة لما كتبه الإمام محمد الشيباني، وقد تنبه إلى هذه الحقيقة العلمية والتاريخية فقهاء فرنسا، فأنشأوا في سنة 1932، جمعية الشيباني للقانون الدولي، ثم حذا حذوهم فقهاء ألمانيا، فأسست في غوتنجن جمعية شيباني للقانون الدولي، وضمت هذه الجمعية علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف أنحاء العالم وانتخب رئيساً لها الفقيه المصري، أحد أعلام القانون الدولي المعاصرين الأستاذ عبد الحميد بدوي.
قد نال الإمام الشيباني هذه المكانة الرائدة بين رواد القانون الدولي؛ لأنه فهم الشريعة الإسلامية فهماً صحيحاً، واستطاع أن يستخرج منها الأحكام التي تتناسب مع العصر، ولم يحصرها في نطاق الشعائر فقط، بل اهتم بجانب المعاملات بالمفهوم الشامل وحدد علاقة الأفراد مع بعضهم البعض وعلاقة الدول بعضها ببعض في حالة السلم والحرب حيث بيّن أن معاملة غير المسلمين لها ضوابطها الشرعية والانسانية من خلال آيات القران الكريم والسنة النبوية وقد ظهر ذلك جلياً من خلال إبراز منهج الإسلام في تعاملاته مع أصحاب العقائد المخالفة، وتعرض كذلك في كتابه السير الكبير لأخلاق الإسلام مع الدول المحاربة له وكيف تعامل الإسلام بطريقة إنسانية أخلاقية نابعة من فقهٍ واعٍ ورؤية إيمانية لا تفرق بين الإنسان وغيره في الحقوق والواجبات، وبذلك استحق الإمام الشيباني رسم صورة حقيقية للشريعة الإسلامية التي تتسم بميزات جعلتها شريعة صالحة لكل زمان ومكان، شريعة تراعي في أحكامها الجانب الإنساني والأخلاقي.
كما استطاع الإمام تخليد اسمه في سجل عظماء القانونيين الدوليين، ولذا على فقهاء المسلمين اليوم بأن يهتموا بالأمور المتعلقة بعلاقات الأمة العربية والإسلامية بالآخرين في مباحثهم الفقهية ودراستهم الأكاديمية في رسائل الماجستير والدكتوراه، وذلك عبر إبراز دور الفقهاء المسلمين في المسيرة العلمية وأهم الجوانب التي تميز بها كل فقيه فهذه الأمور تنمي الملكة الفقهية، وتظهر لنا نماذج عملية نستضيئ بها في مسيرتنا العلمية ونثبت أيضاً أننا لا نستطيع قطع الصلة بتراثنا بل لابد أن ننطلق منه لمستقبلنا دون جمود وتعصب، هذا يؤكد لنا مرة جديدة أن علماء التراث الإسلامي كان لهم فضل على البشرية كلها، ونستطيع أن ننطلق من هذا التراث “الذي يرفضه البعض ويريد محوه تحت عناوين كثيرة منها الحداثة والعلمانية والاستشراق” إلى التجديد المنشود فقد وضعوا لنا الأسس والأصول التي نبني عليها أمجادنا برؤية تراثية عصرية، من خلال هؤلاء العلماء الجهابذة الذين خدموا الأمة من خلال استنباطاتهم من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فكان المذهب يعرفونه قديماً ليس أكثر من طريق على عكس اليوم، بالتالي، هذه العلوم وهؤلاء العلماء قيمة علمية وتاريخية ودينية عريقة وكبيرة لا يعرفها إلا من كان مؤمناً بحق ملمّاً بهذه الأحكام وهذه التعاليم ليعرف قيمة ما تركوه لنا.
توفي الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في العام 189هـ، بعد حياة حافلة بالعلم، دراسة وتدريساً وتأليفاً ورئاسة للقضاة، في عهد هارون الرشيد رحمه الله، فقد خرج والكسائي مع الرشيد إلى الريِّ في بلاد ما وراء النهر، وفي هذا العام أيضاً توفي الكسائي، بل في يوم واحد، فروي أن الرشيد جزع لموتهما، وقال: “دفنت الفقه والنحو بالري”، فسلامٌ على الإمام الرباني، محمد بن الحسن الشيباني، ورحمه الله، في الأولين والآخرين، كفاء ما قدم من خدمة جليلة للفقه الإسلامي العظيم.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان