فجر الاثنين الثاني من أغسطس 2021، رحل عن دنيانا الشيخ بلحاج محمد بن بابا، عضو المجلس الإسلامي الأعلى سابقًا في الجزائر، والشهير بالشيخ بن الشيخ عن عمرٍ ناهز التسعين عامًا، وهو أحد كبار علماء الجزائر المعاصرين، ممثلا لمدرسة الإباضية في الفقه وأصوله والعقيدة وأصول الدين، وأحد مجددي الفكر الديني؛ وواكب ملتقيات الفكر الإسلامي والندوات العلمية المحلية والدولية، وتميّز بالتحقيقات العلمية والمناظرات الكلامية الدقيقة، محاورًا كبار الدعاة في العالم الإسلامي، أمثال المشايخ محمد الغزالي ووهبة الزحيلي ومحمد رمضان البوطي ويوسف القرضاوي وغيرهم، شارحًا ومبينًا منهج الإباضية في فهم النصوص الدينية وتأويلها.
كان الشيخ قبلة للباحثين من مختلف الجامعات الجزائرية والدولية، يستنيرون بآرائه، ويستوضحون منه ما أشكل عليهم في بحوثهم، وظلّ مرابطًا في ثغر من ثغور العلم، فكان بعمله الدؤوب بمثابة الرجل المؤسسة، أو ممن يُسمّون أمة في رجل.
الشيخ الراحل من مواليد 1931 في القرارة بولاية غرداية في الجنوب الجزائري، درس المرحلة الابتدائية في مسقط رأسه بين المدرسة القرآنية والمدرسة العامة، وحفظ القرآن الكريم عام 1946، قبل أن يلتحق بمعهد الحياة بعدها بعام، وتخرّج منه عام 1953، وقد عرَف في مراحل تعليمه هذه التفوُّق والذكاء على أقرانه، ثم أكمل دراساته لعلوم الفقه في جامع الزيتونة بتونس، وأجيز بشهادة الليسانس في الشريعة والقانون من جامعة تونس، فأهّله ذلك أن يصل إلى مكانة العلماء الأجلاء، مدرسًا بمعهد الحياة بالقرارة، فكان على خطى مُعلمه العلامة الشيخ إبراهيم بن عمر بيّوض رحمه الله. كما أهّلته تلك المكانة أن يكون من ذوي الرأي والمشورة في مجلس «عمي سعيد» وهو الهيئة الدينية العليا لقرى ميزاب، وكذلك في «حلقة العزّابة»، وعضوًا «يُستأنس بما يفيض به زاده من دراية عميقة، بأصول الدين في المجلس الإسلامي الأعلى»، كما وصفه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في تعزيته لأهل ميزاب.
كعادة الأحرار، لم يكتف الشيخ بلحاج بالدراسة في مقاعد الزيتونة فقط، بل انخرط في حزب جبهة التحرير الوطني بالعاصمة التونسية، مناضلا ضد الاستعمار الفرنسي، فكان يتفقّد سير خلايا المناضلين ويحث الشباب على النضال والجهاد ضد الاستعمار، ومكث في تونس تسع سنوات، تولى فيها رئاسة البعثة الدراسية لطلبة وادي ميزاب بتونس لعدَّة سنوات حتى عودته إلى الجزائر؛ وكان لدروسه من الوعظ والإرشاد آثارها البليغة في نفوس الشباب، ونفع عام في حسن سلوكهم.
عُيِّن الشيخ عضوًا في حلقة العزابة بالقرارة عام 1971، كما كان عضوًا بارزًا في مجلس عمي سعيد؛ ورشح عام 1998عضوًا في المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر إلى عام 2016، فكان عضوًا فعّالا بإسهاماته العلمية ونشاطه المعرفي.
عمل الشيخ محمد بن بابا أستاذًا للعلوم الشرعية والفلسفة والتاريخ الإسلامي في معهد الحياة، وتولى فيه بعض المهام الإدارية، وأصدر سلسلة مؤلفات تحت عنوان «وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة»، عالج فيها مواضيع تشغل الرأي العام الوطني الجزائري والإسلامي، في فترة نهاية التوجه الاشتراكي، وبروز الإسلام السياسي، وما صاحبهما من تدافع وتجاذب واختلالات.
عاش الشيخ من أجل العلم، فأسّس «ندوة السبت الفقهية» التي كان يقيمها في بيته كلّ يوم سبت بعد العِشاء منذ الثمانينيات، خاصة بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن بكلي البكري، فكان بعض الحضور يأتونها من كلّ قرى وادي ميزاب. ومارس الوعظ والإرشاد بعد وفاة الشيخ بيّوض، حيث بدأ دروسًا في تفسير القرآن الكريم كعادة سلفه وأستاذه، لربط الناس بالقرآن الكريم، ورغبته في عدم انقطاع القرآن عن المدينة، لكن نظرًا لانشغالاته وارتباطاته الكثيرة لم يستمر في ذلك، وكانت له سلسلة من الدروس في مختلف المجالات الشرعية.
يصفه المقربون منه أنه كان يصل الليل بالنهار من غير كلل وﻻ ملل؛ فلا تراه إلا قارئًا أو كاتبًا، أو في موعد اجتماعي في سفر أو حضر، حتى أقعده المرض عام 2006، فتوقَّف نشاطه كُلِّيًا لمدة خمس عشر سنة إلى أن وافته المنية.
ترك الشيخ آثارًا علمية متنوعة، تمثلت في مؤلفات منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، إضافة إلى العديد من البحوث المتنوعة والمحاضرات والفتاوى، كان إنسانًا كتوبًا، لا يمل من الكتابة، يكتب كلّ ما هو مفيد، فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وفي مسيرته العلمية كوَّن آلاف الطلبة الذين انخرطوا في دورة الحياة فكانوا نجومًا؛ كما أنه ترك مكتبة تُعدّ من أغنى المكتبات في القرارة، كانت مفتوحة للطلبة على الدوام، ولا تزال كذلك حتى بعد رحيله.
قال عنه العالم الجزائري الراحل الشيخ أبو اليقظان: «إنه عالم ورع.. تقيّ زاهد.. ذو خلق كريم.. متواضع.. رصين النفس.. وديع.. ليّن العريكة.. من الشبّان الأدباء بالقرارة».
مع كثرة الفتن في هذه الحياة، فإنّ البشرية تحتاج إلى من يضيء لها الطريق حتى لا تهلك. وبغياب مثل هذه الشموس المضيئة التي تهدي النفوس الحائرة يُخشى على الناس من الهلاك، وقد سئل سعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: «إذا هلك علماؤهم»؛ وهذا الجواب هو تصديقٌ لحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
من واجبنا – نحن من أتيحت لنا مساحة أسبوعية نلتقي فيها بالقراء – أن نكتب عن مثل هؤلاء الأعلام، الذين أضاؤوا للناس بأفكارهم وجهودهم، وتركوا بصمات واضحة في حياة الآخرين.
وهكذا إذن.. برحيل الشيخ بلحاج محمد بن بابا، تكون الجزائر قد فقدت واحدًا من أبرز علمائها في العصر الحديث، الذين تركوا أثرًا طيبًا كعادة العلماء الكبار عبر العصور.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 30 أغسطس 2021م