مع الاعتراف بالتحوُّلات الإيجابية التي تحققت لمنظومة البحث العلمي، واكتمال البنية المؤسسية والتشريعية والتنظيمية لها بسلطنة عُمان في العقدين الماضيين، إلا أنها ليست كافية في تقديم منتج قادر على سبر الطموحات الوطنية، لذلك كان التأكيد على أهمية البحث في البنية الميدانية للبحث العلمي والقناعة المجتمعية حولة والإرادة المؤسسية نحوه لضمان تحقيق منحى الاستدامة في أدواته وبرامجه وخططه وسياساته ونقله من حالة الاستهلاكية وفلك الهدر الذي ما زال يلاحقه إلى إعادة إنتاج نفسه، وتمويل مشاريعه ورسم استحقاقات تقدمه، وإنتاج الفرص التي ستغذي قطاعات الإنتاج الوطنية وترفع سقف عملها بالمنتج البحثي النوعي في مجالات الطاقة والتقنيات الحديثة والسياحة والذكاء الاصطناعي والمواءمة التعليمية والابتكار، وغيرها من البرامج الاقتصادية والاجتماعية والاستثمارية والتسويقية للحاق بركب العالم في هذا المجال، وتخليص الثقافة المجتمعية من شوائب التراكمات السلبية التي ما زالت تقرأ في البحث العلمي عقد الاستهلاكية بالدرجة الأولى، الأمر الذي سيجعل من عملية تقدمه وتطوره ونجاحه، مرهونة بحجم ما يصرف عليه من مال، وما ينفذ له من موازنات، وهو أمر بات رغم التحسُّن الاقتصادي الناتج عن ارتفاع أسعار النفط والغاز لا يمكن التعويل عليه واعتماده مدخلا استراتيجيا لتمكين البحث العلمي بسلطنة عُمان من مواجهة الظروف، بل إن الطموحات الوطنية في أن يسهم البحث العلمي في تنفيذ أجندة رؤية عُمان 2040 في القطاعات ذات الصلة، يؤسس اليوم للتفكير خارج الصندوق، فقد حان الوقت بعد اكتمال البنية المؤسسية والتشريعية والتنظيمية أن يبدأ البحث العلمي بممارسة دوره، وإثبات حضوره وترك بصمة فعلية في مسارات التنمية ومجالات العمل الوطني، ورد الجميل الذي قدمته له موازنات الدولة السخيّة في العقدين الماضيين تقريبا.
ومع التأكيد على أهمية قراءة مسار الإنتاجية في البحث العلمي، يتأكد اليوم أهمية اتخاذ إجراءات عملية ثابتة في تقوية البنية الهيكلية للبحث العلمي وتبسيط الإجراءات وهندسة العمليات وضبط آليات العمل وتحفيز القدرات الوطنية والأخذ بيدها، والحدِّ من حالة الشخصنة والاتكالية للبحث العلمي بما يضمن توسيع خيارات أكبر للتمويل والأنشطة البحثية، وتشجيع القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتوظيف الشراكات العالمية وتوظيف نتائج الاستثمارات العملاقة في الدقم وصلالة وصحار في إيجاد كيانات عملية للبحث العلمي بالسلطنة بما يسهم في نقل البحث العلمي إلى الأرض وإلصاقه بالواقع وتوفير الممكّنات الناعمة له لدخوله في ميادين المنافسة، والاستفادة من الفرص المتحققة في الفترة الماضية التي تولَّدت عن المشاركات والمسابقات الوطنية ونتائج دعم البحوث الاستراتيجية، عبر تأكيد البحوث عالية الجودة والبحوث الحيوية الاستراتيجية بهدف الوصول إلى منتج بحثي حيوي يستقطب الشركات ومؤسسات القطاع الخاص للاستثمار فيه والعمل على تطبيق نتائجه في مشروعاتها الإنتاجية، بحيث تتخذ منظومة البحث العلمي خطوات جادة في البحث في بناء توجهات نوعية لتسويق البحث العلمي، سواء من خلال مستويات الدعم المقدمة أو بوضع نتائج البحوث أمام مسارات عمل وإنتاج قادمة، وضمان ربط البحث العلمي باحتياجات السوق وتعميق مسارات العمل معا في إطار توفير موارد مالية ودعم رصيد النمو في القطاعات الإنتاجية، كون فرص التسويق وبدائله المتنوعة، والميزة التنافسية التي تقدمها منطلقات مرتبطة بتطبيقات عملية وتبنى عليها قراراته الاستراتيجية، هذا الأمر يأخذ في الحسبان إنشاء وحدات لتسويق نتائج البحوث وإقامة ودعم الجمعيات العلمية وحاضنات الابتكار، والمعارض والفضاءات العلمية، وتفعيل إنشاء مؤسسات وسيطة بين الجامعات الوطنية ومراكزها البحثية والمؤسسات الإنتاجية والخدمية ومكاتب تسويقية بما يضيف لمسيرة البحث العلمي؛ استحقاقات تضع أنشطته ونتائجه في سير خط الإنتاج الوطني الأول وخيارا حيويا في تنويع مصادر الدخل.
وفي ظل عالم الفضاءات المفتوحة، والبُعد التسويقي الذي ارتبط بموضة الشهرة وما اكتسبه من يسمون بمشاهير المنصَّات الاجتماعية “السوشيال ميديا”، مروِّجي الإعلانات التجارية والدعاية الرقمية من البحث عن السطحية والشهرة والمعلومات المثيرة والتناقضات والاهتمام بالتعبيرات الكلامية والظواهر الصوتية التي أثرت على المنهج العلمي القائم على التشخيص والتحليل والاستقراء وتحليل البيانات ومقارنة النتائج، وأضرت بمسار المحتوى الهادف والفكر الرصين وحضوره في واقع حياة الناس، مستغلين مساحة الفجوة في الثقة التي ما زالت تعيشها المجتمعات حول البحث العلمي ومستوى ارتباطه بحياة الناس، خصوصا في ظل فجوة الاستفادة منها في القرارات المؤسسية والاعتماد عليها في السياسات الوطنية ووضعها موضع التنفيذ، الأمر الذي جعل اتجاه الناس إلى المنصَّات التواصلية التي بات توجه بوصلتها هذه الفئة لتحقيق أهدافها الخاصة وأرباحها ومكاسبها المادية في ظل إفلاس المحتوى وشيوع المعلبات الجاهزة والظواهر الكلامية التي تفتقر للعمق والمنهجية ووجود المحتوى، لتظل حالة من الصراخ والكلام المبعثر الذي يحاول مستخدم هذه المنصَّات أو المشاهير إقناع الناس بها وتهويلها أو إضافة نكهات الإثارة عليها، وفي المقابل التراجع الحاصل في مستوى التسويق للبحث العلمي وغياب المتخصصين والعلماء المحترفين من المشهد الإعلامي عامة والمنصَّات التواصلية الاجتماعية خاصة أو قلة ترددهم عليه، لحاجتهم للوقت وإفراغ النفس وإشغال التفكير بإنتاج المحتوى البحثي ورصد الظواهر البحثية وتفسير النتائج، ليتركوا المجال للغوغائيين والتافهين والسطحيين والأقزام ليمارسوا هذا الدور ويستحوذوا على هذا المساحة المفتوحة، مما أوجد فراغا لم يجد الشباب فيه من يقف معهم إلا بارتمائهم في حسابات هذه الفئات الفارغة المحتوى.
وعليه، كان من الأهمية بمكان أن يتجه مسار البحث العلمي في ظل هذه المعطيات إلى تبنِّي معالجات أخرى لا تقف في وجه استمراره، بل تمهد الطريق إلى بلوغه موقع الريادة، وفي الوقت نفسه تؤسس للبحث العلمي حضورا في فقه المجتمع وسلوكه اليومي بحيث تصبح نتائجه حديث الشارع وتداول الناس لها واعترافهم بما يحمله من أجل الإنسان والمجتمعات من فرص ضيقها الباحثون عن الشهرة واللاهثين خلف المكاسب، بما يعنيه ذلك من الحاجة إلى، إضافة موجهات ضبطية وتقنينية وتشريعية وعملية تساعد البحث العلمي والباحثين الأكاديميين وغيرهم على التفكير خارج الصندوق، والانطلاقة بالبحث العلمي إلى أرحب الآفاق وعبر توظيف التقنية في خدمة البحث العلمي واستثمارها في التسويق لنتائجه وإيصال رسالته للعالم وفق أساليب ترويجية وتسويقية وتشويقية بما تحمله من ذوق الأسلوب ورُقي المحتوى وحس الشعور ونبض الكلمة ومصداقية المعلومة وموثوقية النتيجة، وتوفير معلومات وأفكار صادمة أحيانا حتى يلتفت إليها الجمهور، ويضعها في أولوية الاهتمام ويبني عليها مدخلات التحوُّل القادمة في ظل ما تفصح عنه نتائج هذه الدراسات من حقائق ومؤشرات ومعلومات وأفكار غير متداولة.
على أن نجاح المعادلة التسويقية كما هي بحاجة إلى المحتوى، فهي بحاجة أيضا إلى صناعة المؤثرين من الباحثين والأكاديميين والعلماء ذوي الاختصاص، وقناعاتهم حول المنصَّات الاجتماعية وإدماجها في مسار عملهم بما لا يفقدهم ثقة المجتمع فيهم ونظرة الناس إليهم والاعتراف بحجم ما يحملونه من مسؤولية علمية، وبات على الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي تعريض هذه الكفاءات وطلبة الدراسات العليا الماجستير والدكتوراه وغيرهم لتطبيقات التسويق الإلكتروني ونشر المحتوى العلمي، وتعظيم قيمته في قناعات الناس عبر استخدام مختلف الوسائل الترويجية المتاحة لتصنع منهم مؤثرين في مجالهم، الأمر الذي يسهم في تعظيم دور البحث العلمي كمدخل لقراءة الواقع ورصد تجلياته والاعتراف بحجم ما أنجزه الفكري الإنساني، وعندما يقوى الاهتمام بهذا الجانب، ويظهر في الصورة الباحثون والعلماء ليقوموا بدورهم في نشر الحقائق، عندها سيقوى التفكير الجمعي في كشف زيف الشهرة والصورة الزائفة التي يتسلق عليها مشاهير الفلس ومروِّجو إعلانات التنحيف والتجميل والملابس، ويوجه أنظاره لمنتجي العلوم والمعارف والحاملين لسلم الأخلاق، لذلك باتت المسألة بحاجة إلى المواجهة، وهي مواجهة قائمة على المصداقية والموثوقية وترك بصمات في الواقع، والتي حتما سيكون المنتصر فيها أصحاب المبادئ الراقية والفكر الرصين والمعلومات الموثوقة والمنهج العلمي، من يأخذ دوره في توعية الناس وتثقيفهم وتعريفهم وإيضاح الصورة لهم حول الكثير مما أثبتته الدراسات أو أكدت عليه نتائجها أو أصلته في منهجياتها، وهو دور سمته التطوع وحس المسؤولية الاجتماعية الذي لا يقوم على استغلال الناس أو استهلاكهم أو التحايل عليهم أو غسل عقولهم أو تفريغ جيوبهم بقدر ما فيه من إصلاح للذات، وترقية للممارسة، وتبصير بالأولوية، وتصحيح للخطأ، وتمكين للقرارات واختبار للإرادة وصناعة للمواهب وتجريب للنتائج.
أخيرا، يبقى التأكيد على أهمية أن تعاد هيكلة منظومة إدارة البحث العلمي وتصحيح مدخلاته وتطوير أدواته وتوفير الممكنات والحوافز للباحثين وأصحاب الفكر الرصين والكتاب وغيرهم من منتجي المعرفة، في مواجهة حالة الانكسار والإفلاس المادي التي يعيشها أكثرهم في مقابل ذلك الثراء السريع الذي يجنيه مروِّجو الإعلانات التجارية ومشاهير الدعاية، وفي الوقت نفسه حماية البحث العلمي من موجه السلب والسرقة التي يواجهها من قبل مشاهير الإعلانات التجارية، في ظل فراغ الضوابط وما أدى به الأمر من ترويج بعضهم لوصفات صحية وطبية بطريقة باتت تمس شرف المهنة، وتوجه الناس إلى استخدامها دون وعي بأضرارها الصحية ومخاطرها النفسية والفكرية.
د.رجب بن علي العويسي