ذكرنا في المقال السابق أن أكثر التشريعات الوضعية الحديثة قد جمعت بين طريقة التعدد والجب مع تقييدهما، ومن بين من يأخذ بذلك قانون العقوبات المصري، بحسب نص المادة /33/.
أخذ قانون العقوبات المصري بقاعدة تعدد العقوبات، حيث نصت المادة /33/ منه على أن العقوبات المقيدة للحرية تتعدد إلا ما استثنى بنص المادتين /35، 36/، والأولى منهما تنص على أن عقوبة الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة المذكورة. والثانية منهما تنص على أنه إذا ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه من أجل واحدة منها وجب ألا تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة على عشرين سنة ولو في حالة تعدد العقوبات، وأن لا تزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس على عشرين سنة، وأن لا تزيد مدة الحبس وحده على ست سنوات، فالقانون المصري يأخذ بنظرية التعدد ولكنه يقيدها من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: عقوبة الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة، فمن كان محكوماً عليه بالسجن عشر سنوات ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات نفذت عليه عقوبة الأشغال الشاقة ونفذ عليه من عقوبة السجن خمس سنوات فقط، ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجب ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها.
الوجه الثاني: أن لا يزيد الحد الأعلى مهما تعددت العقوبات على عشرين سنة إذا كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة، وأن لا يزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس معاً على عشرين سنة، وأن لا تزيد مدة الحبس على ست سنوات، ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجمع بين العقوبات ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها.
الوجه الثالث: في حالة التعدد الصوري تطبق عقوبة الصورة القانونية الأشد، وفي حالة التعدد الحقيقي تطبق العقوبة الأشد أيضاً بشرط أن تكون الجرائم ارتكبت لغرض واحد، وأن تكون مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة كما تنص على ذلك المادة 32 عقوبات، وهذا قيد على طريقة الجمع.
بالتالي، ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تقيد نظرية تعدد العقوبات على الوجه السابق إلا في القرن الماضي، أما قبل ذلك فكانت العقوبات تتعدد بصفة مطلقة دون أي قيد.
الشريعة والتعدد: عرفت الشريعة من يوم وجودها نظرية تعدد العقوبات ولكنها لم تأخذ بها على إطلاقها، وإنما قيدتها بنظريتين أخريين، الأولى: هي نظرية التداخل، والثانية: هي نظرية الجب.
نظرية التداخل
معنى التداخل هو أن الجرائم في حالة التعدد تتداخل عقوبتها بعضها في بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة، ولا ينفذ على الجاني إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة. وتقوم نظرية التداخل على مبدأين:
المبدأ الأول: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من نوع واحد كسرقات متعددة أو زناً متعدد أو قذف متعدد فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عنها جميعاً عقوبة واحدة، فإذا ارتكب الجاني جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت عليه عقوبة أخرى، والعبرة بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها. فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها بعد، وتعتبر الجرائم على الرأي الراجح من نوع واحد ما دام موضوعها واحداً ولو اختلفت أركانها وعقوبتها. كالسرقة العادية والحرابة فكلتاهما سرقة وإن اختلفت أركانهما وعقوباتهما، وكالزنا من محصن والزنا من غير محصن فكلاهما زناً، وفي مثل هذه الحالات تكون العقوبة الأشد هي الواجبة، تعليل هذا المبدأ وأساسه أن العقوبة شرعت بقصد التأديب والزجر، وأن عقوبة واحدة تكفي لتحقيق هذين المعنيين فلا حاجة إذن لتعدد العقوبات ما دام المفروض أن عقوبة واحدة تكفي لإحداث أثرها وتمنع المجرم من ارتكاب الجريمة مرة أخرى، وإذا كان من المحتمل عقلاً أن يعود المجرم من ارتكاب الجريمة فإن هذا الاحتمال وحده لا يكفي ما دام لم يثبت قطعاً أن العقوبة لم تردعه، فإذا ثبت هذا بأن ارتكب جريمة فعوقب عليها ثم عادلها بعد ذلك فقد وجب أن يعاقب على جريمته الأخيرة؛ لأنه قد تبين وجه اليقين أن العقوبة الأولى لم تكن زاجرة ولا رادعة للجاني.
المبدأ الثاني: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعاً عقوبة واحدة، بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة؛ أي لتحقيق غرض واحد، فمن أهان موظفاً وقاومه وتعدى عليه عوقب بعقوبة واحدة على هذه الجرائم الثلاث التي وضعت عقوباتها لغرض واحد هو حماية الموظف والوظيفة، والعبرة في التداخل بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها، فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها.
بالتالي، إن أساس القيود الموضوعة لنظرية التعدد في الشريعة هو نفس الأساس الذي تقوم عليه هذه القيود في القوانين الوضعية، فكلاهما يرى أن الجاني كان معذوراً عندما ارتكب جريمته الثانية لأنه لم يكن عوقب على الأولى، وكلاهما يرى أن تعدد العقوبات دون قيد يؤدي إلى النتائج يأباها العقل ومنطق التشريع، وبالرغم من هذا الاتفاق بين الشريعة والقانون فإن الشريعة جاءت أدق منطقاً من القوانين الوضعية في تطبيق نظرية التعدد وتقييد هذه النظرية، ونجد هذه الدقة متمثلة في تطبيق نظرية التداخل حيث لم تطبقها الشريعة على إطلاقها بل طبقتها فقط في حالة الجريمة الواحدة إذا تكرر وقوعها، وفي الجرائم المختلفة التي يجمع بين عقوباتها غرض واحد، ولم تطبقها فيما عدا ذلك من الجرائم، وعلة هذا أن لكل جريمة عقوبتها فإذا ارتكب الجاني جريمة وتكرر منه ارتكاب نفس الجريمة قبل أن يعاقب على ما ارتكبه سابقاً فمن المعقول أن يعتذر للجاني بأنه لم يعاقب على جريمته الأولى فلا معنى لتعدد العقوبة، أما إذا ارتكب الجاني جرائم مختلفة فإن عدم عقابه على إحداها لا يقوم له عذراً في ارتكاب الجريمة الثانية؛ كل جريمة محرمة لذاتها ولها عقوبة خاصة، وعقوبة الجريمة الواحدة لم توضع لمنع الجاني عن كل الجرائم وإنما وضعت لمنعه عن ارتكاب جريمة بالذات، وقد روعي في وضع كل عقوبة اعتبارات خاصة لا تتوفر في غيرها، فروعي مثلاً في تقرير عقوبة السرقة اعتبارات خاصة لمنع الجاني من السرقة، وروعي في عقوبتي الجلد والرجم اعتبارات خاصة لمنع الجاني من مقارفة الزنا، وهكذا. ومن ثم كانت عقوبة القذف لا تصلح عقوبة للسرقة ولا تجدي في الردع عنها، وكانت عقوبة السرقة لا تصلح عقوبة للقتل ولا تفيد في منع هذه الجريمة، وكان الواجب نتيجة لهذا المنطق أن تتعدد العقوبة في الجرائم المختلفة وأن يعاقب الجاني على كل نوع منها بعقوبته الخاصة.
أما القوانين الوضعية فتخالف الشريعة في هذه النقطة وتجعل عدم العقاب في جريمة ما عذراً للجاني في ارتكاب أية جريمة أخرى سواء كانت الجريمتان من نوع واحد أو من نوعين مختلفين.
ومن أوجه الخلاف بين الشريعة والقوانين الوضعية في هذا الجانب أن القوانين جعلت حداً أعلى للعقوبات لا يصح أن تتعداه بحال مهما تعددت، ولم تضع الشريعة مثل هذه القاعدة، والضرورة وحدها هي التي أوجدت هذه القيد في القوانين الوضعية؛ لأن العقوبة الأساسية في القوانين هي الحبس بأنواعه المختلفة؛ من حبس بسيط إلى حبس مع الشغل إلى سجن إلى أشغال شاقة مؤقتة ومؤبدة، فلو لم يوضع حد أعلى لمدة العقوبة في حالة التعدد لاستحالت العقوبات المؤقتة عند التعدد إلى عقوبات مؤبدة وانتهى عمر المحكوم عليه قبل أن تنتهي العقوبة، أما في الشريعة الإسلامية فالعقوبات الأساسية هي القطع والجلد وهي عقوبات مؤقتة بطبيعتها ومهما تعددت فلن تستحيل إلى عقوبات أبدية، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو لوضع حد أعلى للعقوبات عند التعدد.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان