الطلاق إحدى الظواهر الاجتماعية التي باتت تدقُّ ناقوس الخطر في مجتمع سلطنة عُمان، نظرا لارتفاع مؤشِّراتها، وما باتت تشير إليه من هشاشة العلاقات الزوجية والروابط الأسرية وانعدام فقه التعايش والتكامل الأسري، وحالة الفردانية والسلطوية والأنانية التي باتت تسلب من الزوجين رغبة احترام قدسية الحياة الزوجية واستمرار رابطة الزواج، حيث تشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن اجمالي شهادات الطلاق المسجَّلة في سلطنة عُمان في عام 2021 بلغت 3 آلاف و837 بمعدل 10.5 حالة طلاق في اليوم الواحد، حيث ارتفت حالات الطلاق في عام 2021 بمقدار 411 حالة طلاق مقارنة بعام 2020، وبالتالي ما تطرحه هذه المؤشِّرات من موجّهات تبدأ بتتبع واستقراء واستقصاء أسباب الطلاق والعوامل التي تقف خلفه، والظروف التي باتت تهيجه، والمتغيرات التي ترصد ارتفاع مؤشِّراته، والفراغات التي تعمل على استثارته، في حياة الأسرة العُمانية من واقع القضايا المدنية والجزائية والشرعية وغيرها المتداولة في أروقة المحاكم أو كذلك من واقع التقارير الدورية التي ترصدها شرطة عُمان السُّلطانية والادعاء العام ووزارة التنمية الاجتماعية وغيرها من المؤسَّسات ذات الصلة، في تدارك النتائج السلبية المترتبة عليها، وفهم الأبعاد الناتجة عنها، وتحليل مسار العلاقات الأسرية والزواجية والثغرات التي باتت تطرأ على عش الزوجية في المجتمع العُماني.
وعلى الرغم من أن الطلاق ليس حالة خاصة بالمجتمع العُماني وحده أو ظاهرة جديدة في حياة المجتمع كنتاج للمدنية المعاصرة، بل هو سنة حياتية وقواميس كونية أطرها التشريع الإسلامي الحنيف في منهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فقد ولدت مع الإنسان تحقيقا لمسار التكريم وتثبيتا لمبادئ المسؤولية وترسيخا لحس الشعور، وتيسيرا على الزوجين عندما تضيق بهما الحياة وتعتم أمامها استمرارية العيش معا، إلا أنه بات اليوم يأخذ مسارات أخرى وأسبابا قد تكون غير واقعية في أكثر الأحيان ـ مع التأكيد على واقعية بعض حالات الطلاق وضرورتها ـ، أو تحمل في ذاتها مساحة الانسحاب من تكاليف الحياة اليومية أو المسؤولية الاجتماعية، كما أن طريقة التعامل معها واستخدام هذا الحق بات يفصح عن تجاوزات غير أخلاقية وممارسات تشوه صورة الطلاق والحكمة الربانية منه، لتبرز فيها صفة التعنت وعدم المبالاة وعدم الاهتمام وكسر لقواعد وأسس الحياة الزوجية القائمة على التكافؤ والمودة والرحمة والتعايش والمعاشرة بالمعروف، والتي ضمن الزواج تحقيقها، وما يعيشه بعض الأزواج من غوغائية التفكير وسرعة الأحكام وعدم تقبل الآخر وضعف بنية الاحتواء، والسقوط في وحل الخلاف، وسلطة التعنت والأخذ والرد المعبّر عن السخط وعدم الاعتراف بحقوق الآخر، في ظل غياب وازع المبدأ وضمير المسؤولية، وإذا كان لنا من تشخيص فعلي للواقع، فمع الإيمان بأن مسبباته كثيرة وأسبابه متعددة، إلا أنه يجب أن لا يكون الحل الأوحد، والطريق الأصوب، أو القرار النهائي؛ لما يتسبب فيه من إنهاء للحياة الزوجية، وتضييع للألفة، وإرهاق للنَّفْس، وتغييب للثقة، وغرس لسلوك عدم المبالاة وضعف المسؤولية، وتربية النَّفْس على نكران الجميل، لذلك كانت أغلب حالات الطلاق تتم في ظل أوضاع غير سارة وظروف صعبة ومزاجيات متغايرة ومواقف متباينة وسوء للفهم وبعض الاحباطات الذي أخذت تسيطر على حياة بعض الأزواج، أو التكهنات التي يحملها بعضهم بوردية الحياة وبرزخيتها ومثالية الحب فيها وانعدام المنغصات، ليصطدم بواقع آخر وعندها يكتشف أن الحياة الزواجية لها من التبعات والالتزامات والمسؤوليات ما يتطلب إفراغ الوسع ومزيد الحرص وقوة الاهتمام وحس الضمير وصدق الذات وتحمل المسؤوليات، وهي أمور باتت غير حاضرة في حياة الكثير من الأزواج الشباب خصوصا، لذلك تجد بعض الطلاق يتم بعد الخطبة وعقد القران بَيْنَ الزوجين بوقت قصير، وبعضها يتم بعد بدء لقائهما في عش الحياة الزوجية، وبعضهم لشهر وبعض لسنوات بسيطة وبعضهم لمجرد إنجاب طفل أو طفلين، وهكذا بدأت المسألة أكبر من كونه حقا مشروعا، إلى حالة تراكمية مرتبطة بمزاجيات الأشخاص وظروفهم ورغبتهم في التحرر من المسؤوليات أو الخروج من جلباب الحياة الزوجية، لتدخل المنصات الاجتماعية والأفكار التغريرية التي باتت تروجها حول الإلحاد والنسوية وغيرها في خضم هذه الأحداث، وتجد في هذا المسار فرصتها للنمو والاتساع ـ ومع عدم إثبات ذلك في الواقع ـ إلا أن ما يظهر من تصرفات البعض في فهم الطلاق بات يؤسس لحالات ومناخات أخرى أقرب ما تكون في البحث عن مساحة الحرية “لا سائلا ولا مسؤولا” والخروج من جلباب الحياة الزوجية، وتكاليفها ومصاعبها، وحتى لا يساء الظن ـ تلك الرغبة في الحصول على الامتيازات والاستحقاقات الممنوحة للمرأة المطلقة من منزل وقرض ودعم حكومي ونفقة وراتب ضمان اجتماعي وغيرها ـ مع تأكيدنا أيضا أن دوافع الطلاق في بعض الحالات واقعية ومما يؤكد الشرع عليه ويأمر به، أو ما يمكن إثارته من اختزال هاجس الخصوصية في ظل حب الظهور والشهرة في منصات التواصل الاجتماعي والتي باتت تلقي بثقلها في هذا الجانب في مقابل تخليه عن الالتزام الأسري.
لذلك وحسما لما يثار حول الموضوع من تباينات واختلاف في وجهات النظر وتعدد في التفسيرات، نعتقد بأن الفيصل في ذلك وقطعية الحكم، يكون فيما تبرزه جهود المؤسَّسات المعنية في التعامل مع قضايا الطلاق لما تمتلكه من بيانات وتفاصيل ومواقف تحدد البوصلة والمبررات التي بات يتجه إليها مؤشِّر الطلاق في سلطنة عُمان باختلاف المتغيرات الديمغرافية والاقتصادية والإسكانية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها كثير، وما يعنيه ذلك من أهمية التعمق في قراءة ظاهرة الطلاق وأسبابها ومسبباتها والحلول المقترحة والقرارات المتخذة والتوجُّه العام لهذه الظاهرة، وهو أمر يأخذ في الحسبان أهمية تكاتف الجهود الوطنية بدون استثناء في تشخيص هذه الظاهرة والوقوف على أسبابها واقتراح الآليات والأدوات التي تحد منها في مختلف مراحل التهيئة المجتمعية والتشخيص والتوعية والتثقيف ورصد الحالات وتنفيذ البرامج التعليمية والتدريبية والأسرية والدينية والإعلامية في سبيل بناء صحوة مجتمعية لمخاطر اتساع ظاهرة الطلاق وتهديدها للنسيج الاجتماعي والأسري، وتصحيح ما علق من سوء فهم للحياة الزوجية، لتتجه إلى بناء مشتركات إنسانية وأخلاقية، وإعادة إنتاج الحياة في صورة جديدة تقوم على المسؤولية والشراكة والمشاركة والوعي وصدق المشاعر والرحمة والعطف والحنان والايجابية، والتفاعل والتفاؤل والمواجهة بالحسنى والاستماع للآخر وقبوله ومساعدته، بما يؤكد الحاجة إلى إعادة التأصيل الديني والتربوي لمفردة الزواج وتبسيطها والتعمق في فهمها في حياة النشء في سن مبكرة لينشأ عليها مدركا لمتطلباتها، مستعدا لتحمل تبعاتها، مخلصا في الوفاء لها، معظّما لشعيرتها، محافظا على أصولها، واقفا عند حدود الله فيها، متجاوزا كل السطحيات والشكليات التي باتت تسيء إلى الزواج، وتقرأ في الطلاق خلاصا من الالتزام أو شعورا بالحرية أو مساحة أمان يعيشها أحد الزوجين خارج حدود الالتزام أو ما قد يصوّره البعض بأن الزواج إغلاق لإشراقة الحياة وحبس للزوجين في قفص يتحكم به أحدهما على الآخر، وكأن الطلاق هو الحل السحري لأحدهما ليعش الحرية والاستقلالية بكل تفاصيلها. فإن ما يحصل من احتفال أحدهما أمام الملأ بطلاقه واستلامه وثيقة الطلاق إليه، ويغرد في المنصَّات التواصلية مفتخرا بطلاقه، متباهيا به، إنما يعبر عن قصور في فهم الغاية من الطلاق.
عليه، فكما تطرح مؤشِّرات الطلاق في سلطنة عُمان توجيه الجهد الوطني بمختلف قِطاعاته ومنظوماته إلى خلق المزيد من الفرص والمحفزات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والإسكانية وخدمات الرعاية التي تساعد الزوجين على الاستقرار وتحدُّ من أي فرصة للاختلاف بَيْنَهما في رسم حياتهما المستقبلية في ظل الظروف الاقتصادية التي تعيشها الأسرة، وما إذا كانت مسألة تسريح العُمانيين من أعمالهم، وطبيعة الالتزامات والمطالبات المالية عليهم من الأفراد والشركات أو البنوك والصناديق التمويلية وغيرها، مرورا ببرامج مستدامة ومبتكرة تراعي مختلف الأزواج، سواء من حديثي العهد بالزواج أو الراغبَيْنَ في الزواج، أو الزوجين بعد مرحلة إنجاب الأبناء إلى غير ذلك من الممكنات والمقويات والموجِّهات التي تعيد الثقة في الحياة الزوجية، فإنها تطرح في المقابل مراجعات تطول قانون الأسرة والأحوال المدنية، كما تتطلب مراجعة للأنظمة واللوائح والتعميمات والإجراءات والصلاحيات في اللوائح التنفيذية لهذه القوانين التي بات يستغلها أحد الزوجين لإيقاع الطلاق أو سرعة الالتجاء إليه كأقصر الحلول في ظل ما يمنحه له التشريع من فرص بعد الطلاق، ومنها ـ على سبيل المثال ـ قانون الضمان الاجتماعي والفئات الداخلة ضمن قانون الضمان، وهكذا أيضا استحقاقات الأراضي والمساكن الاجتماعية والقروض وضمانات توفير منزل ومسكن حكومي أو دفع حق الرعاية والحضانة للأبناء وغيرها، خصوصا في ظل استغلال البعض لهذا الاستحقاق لطلب الطلاق، وبالتالي إعادة مراجعة المواد في القوانين ذات الصلة، بما يضمن وضع حد للهواجس الشخصية المبيّتة التي باتت تقرأ في الطلاق مساحة لتفكيك المنغصات والعقد للعيش باستقلالية خارج جلباب الحياة الزوجية أو الحصول على مزيد من الحرية والاستقرار الذاتي وعلاقات العمل أو غيرها مما يظن بعض الأزواج أنه لا يستقيم مع وجود زوج أو زوجة، لتدخل المسألة إلى تقنين العمل والوظائف التي تعمل فيها المرأة بالشكل الذي يضمن الحفاظ على استمرارية الحياة الزوجية من أن تعترض مسارها بعض النيات السيئة والممارسات المشبوهة.
أخيرا، يبقى وجود حراك مجتمعي ومؤسسي واسع، تقوم عليه مؤسَّسات التعليم والتشريع والقانون والاقتصاد والإعلام والعمل والحقوق والقضاء، للوصول إلى معالجات نوعية تتجاوز الحلول الوقتية والشكلية محددة بأطر واضحة واستراتيجيات دقيقة، وتكامل في العمل الوطني الموجّه لبناء الأسرة العُمانية والمحافظة على النسيج الاجتماعي، وتوفير السياسات الوطنية المعززة للبناء الأسري الرصين والتشريعات والممكنات المحافظة على قوة تماسكها؛ الطريق لإعادة توجيه بوصلة العمل الوطني في مواجهة ارتفاع ظاهرة الطلاق، وإنتاج سيناريوهات جديدة تقرأ واقع الأسرة بكل تفاصيله، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية، ومفهوم سلطة القرار وحرية التعبير والدعم المقدم للأسرة العُمانية في تجاوز مسببات الطلاق، مراجعة تصنع القوة لتثبيت الحياة الزوجية وتوجيه الأنظار إليها وحفز الممكنات فيها وخلق صورة نموذجية فيها في مواجهة التزاحم على أبواب الطلاق، فهل ستتجه رؤية العمل الوطني إلى تعزيز المحافظة على الأسرة العُمانية وتطويع القوانين والأنظمة واللوائح في سبيل استدامتها والحد من الممارسات العرفية والسلطوية التي باتت تقرأ في الحياة الزوجية نوعا من الوصاية والتصرف والطاعة المطلقة لآخر وسلب مفهوم الحرية منه في التصرف والمشاركة في القرار؟ وهل ستتجه المؤسَّسات الضبطية إلى تتبع هذه التفاصيل والمعاناة التي يواجهها بعض الأزواج ضربا وتأنيبا وتعسفا؟ مواقف كثيرة ما زالت حاضرة في محيط الكثير من الأسر بحاجة إلى سد الفراغ التشريعي وإيجاد مساحة أخرى للطرف الآخر في المحافظة على حقه في الحياة والعيش بأمان وسلام.
د. رجب بن علي العويسي