سهام سالم
ما زال صوت عصا البلاستيك الأسود يحوم حول رأسي، أهشه كلما خُنت صدقي، وما تزال قطعته تطير في الهواء، أسمعها تطير فوق وجوهنا المرتعبة، فوق رأسي الذي قرر منذ تلك اللحظة أن يمنح الكذب -الذي لطالما حذرتني منه أمي- عباءة بيضاء نقية. أي عاقل يرى ما رأيت ويستمر بقول الحقيقة؟ رأيته ولم أنس يومًا أنني رأيت. رأيت العصا وهو يهوي ككلب مسعور على كفّ دلال، زميلتنا الإماراتية التي نسيت كتابة الواجب، رأيته حين تواطأ بدناءة مع غضب الأستاذة المصرية.
كنت أراقب ما يحدث من مقعدي، تجمد وجه دلال خوفا وألما ولم تنبس ببنت شفة، احتقن وجهي، تكوّر شبح صرخة بداخلي، كيف حُشِرت صرخة دلال في جوفي؟ خرجت كنصف شهقة من فمي فأغلقته بكلتا يداي، أيها الفم الأحمق ليس الآن، المعلمة المصرية ستُلقِنُك أصول أن تُطلق شهقة في غير موضعها. هرولت عيناي خلف قطعة البلاستيك التي هشّمتها قوة الضربة، فتمزقت في يد المسكينة وطارت فوق رؤوسنا الصغيرة، سمعتها خلفي وهي تصطدم بحافة الجدار، صرخ الجدار شاهدا على جريمة من وطن لطالما تغنيت بلهجته “مصر يا أم الدنيا.. يا حبيبتي”، وشعرت حينها بأول خيبة أمل.
جُرِحت يد دلال، كما مُسِخَ أمامنا الصدق. بكت يدها وأصيبت عيناها بكبرياء النخلة، لم تبكِ دلال أمام عيوننا العمانية الذاهلة حدّ السكوت. ساكتون كنّا. كلّنا. كما تسكت الشعوب الخائفة. الرعب يرتجف عند الجدار، وعينا مصر تنتفض أمامنا. والصدق كان الضحية.
لم يمضِ يومان حتى نسيت كتابة الواجب، ولكنني أذكى من أن أقترف جريمة الصدق مثل دلال، وكمثل وطن شفّاف وديموقراطي، ودون اكتراث لصوت أمي والضمير، سردتُ ميلودراما كافية لأن يرّق لأجلها قلب العالم كله، وليس قلب مصر وحدها. ويا للعجب! رقّت القلوب، وابتسم لي الجدار، وعدتُ للبيتِ بخيبةٍ ونجوت، وطفلةٌ بداخلي تتساءل: كيف تخون اللغة؟ وما لون الصدق؟
ولكنني أُخالها حتى الآن لم تصل. قطعة العصا تلك، ما زالت فوق رأسي تطير ولا تصل، بدأت أشك في صدق ذاكرتي الطفولية الآن؛ فكم قطعة ألمٍ تطير فوق رأسي؟ وكم جدارٍ خائف الآن؟ وكم وطنٍ يشويه الخوف بصمت الظهيرة؟ وكيف حال جرح دلال؟
*لوحة الصرخة للفنان النرويجي إدفارت مونك، 1893 م*