تسقط العقوبات في الشريعة بأسباب مختلفة، ولكن ليس في هذه الأسباب ما يعتبر سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة إنما تتفاوت الأسباب في أثرها على العقوبات، فبعضها يسقط معظم العقوبات، وبعضها مسقط لأقلها، وبعضها خاص بعقوبات دون الأخرى.
أسباب إسقاط العقوبات
من أسباب إسقاط العقوبات، موت الجاني، فوات محل القصاص، توبة الجاني، الصلح، العفو، إرث القصاص، التقادم.
موت الجاني: تسقط العقوبات بموت الجاني إذا كانت بدينة أو متعلقة بشخص الجاني؛ لأن محل العقوبة هو الجاني ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها، أما إذا كانت العقوبة مالية كالدية والغرامة والمصادرة فلا تسقط بموت الجاني؛ لأن محل العقوبة مال الجاني لا شخصه ومن الممكن تنفيذ العقوبة على مال الجاني بعد موته، وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط عقوبة القصاص بموت الجاني يوجب الدية في ماله أو لا يوجبها، فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص ولا يترتب عليه وجوب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص عندهما واجب والدية في رأيهما لا تجب بدلاً من القصاص إلا برضاء الجاني، فإذا مات الجاني سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية؛ لأن الجاني لم يوجبها على نفسه، ويستوي أن يكون الموت بآفة سماوية أو بيد شخص آخر ما دام الموت بحق، فإذا مات الجاني بمرض أو قتل في قصاص لشخص آخر، ففي كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب الدية بدلاً منها.
أما إذا قتل الجاني ظلماً فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول، فمن قتل رجلاً فعدا عليه أجنبي فقتله عمداً فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول الثاني: ارضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل أو العفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه، ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها، وإن قتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول، ويسوي أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطاً مطلقاً ولا يوجب الدية في مال الجاني ولا في مال غيره إذا جنى عليه. ويرى الشافعي وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص في كل الأحوال سواء كان الموت بحق أو بغير حق، ولكنه يؤدي إلى وجوب الدية في مال الجاني؛ لأن الواجب بالقتل عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية، فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر، ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر.
بالتالي، نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء كما في المثال: إذا قتل زيد علياً فإن لأولياء على حق القصاص على زيد، فإذا مرض زيد ومات سقط القصاص بموته ولا شيء لأوليائه طبقاً لرأي مالك وأبي حنيفة، ولأوليائه الدية في مال زيد طبقاً لرأي الشافعي وأحمد.
فوات محل القصاص: المقصود بالقصاص هنا القصاص فيما دون النفس. ومعنى فوات محل القصاص أن يذهب العضو المحل القصاص مع بقاء الجاني حياً، ففوات محل القصاص سبب مسقط لعقوبة القصاص دون النفس فقط، والأصل أن محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية، فإذا فات محل القصاص سقط القصاص؛ لأن محله انعدم ولا يتصور وجود الشيء مع انعدام محله، وإذا سقط القصاص بحق لم يجب للمجني عليه شيء عند مالك، لأن حق المجني عليه في القصاص عيني فإذا سقط القصاص فقد سقط حق المجني عليه، أما إذا فات محل القصاص بظلم فإن حق القصاص ينتقل إلى الظالم، على التفصيل الذي سبق بيانه في حالة موت القاتل، أبو حنيفة يقول بأن موجب العمد هو القصاص عيناً، ويفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلماً، وبين فواته بحق كتنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص. وفي الحالة الأولى يرى أن المجني عليه لا يجب له شيء بفوات محل القصاص، أما في الحالة الثانية فيرى أن المجني عليه تجب له الدية بدلاً من القصاص؛ لأن الجاني قضى بالطرف أو الجارحة التي فاتت حقاً مستحقاً عليه، ويرى الشافعي وأحمد أن للمجني عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أياً كان سبب ذهاب محل القصاص، لأن موجب العمد عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية، فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجباً.
توبة الجاني: من المتفق عليه في الشريعة أن التوبة تسقط عقوبة جريمة الحرابة المقررة جزاء على الأفعال التي تمس حقوق الجماعة، فالمحارب إذا تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبات المقرة على الأفعال الماسة بحقوق الجماعة، أما العقوبات المقررة على الأفعال الماسة بحقوق الأفراد فلا تسقطها التوبة، وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب فإنهم قد اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة، ولهم في ذلك ثلاث نظريات ذكرناها بمناسبة الكلام على العدول عن الجريمة.
الصلح: الصلح سبب من أسباب سقوط العقوبة، ولكنه لا يسقط إلا القصاص والدية أما ما عداهما فلا أثر للصلح عليها، ولا خلاف بين الفقهاء في أن القصاص يسقط بالصلح، ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها، والأصل في الصلح السنة والإجماع.
العفو: العفو سبب من أسباب سقوط العقوبة، وهو إما أن يكون من المجني عليه أو وليه، وإما أن يكون من ولي الأمر، ولكن العفو ليس على أي حال سبباً عاماً لإسقاط العقوبة، وإنما هو سبب خاص يسقط العقوبة في بعض الجرائم دون البعض الآخر، والقاعدة التي تحكم العفو أنه لا أثر له في جرائم الحدود، وأن له أثره فيما عدا ذلك.
إرث القصاص: قوبة القصاص إذا ورث القصاص من ليس له أن يقتص من الجاني، كما تسقط العقوبة إذا ورث الجاني نفسه كل القصاص أو بعضه، فمثلاً إذا كان في ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ، وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث إلا القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فيسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعض القصاص فإن القصاص يسقط، ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية.
التقادم: التقادم المقصود هو مضي فترة معينة من الزمن على الحكم بالعقوبة دون أن تنفذ فيمتنع بمضي هذه الفترة تنفيذ العقوبة، والتقادم المسقط للعقوبة مختلف عليه، فأكثر الفقهاء لا يسلمون به، ومن يرونه مسقطاً للعقوبة لا يجعلونه سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان