شكَّلت صورة الاعتدال الفكري للشخصية العُمانية في قراءة الأحداث الإنسانية وفق منهج الحوار والتأمل والبحث والأصالة والمرونة والثقافة الواعية والاستفادة من المشترك الإنساني في العلوم والآداب، ومنع مصادرة الفكر، وتعددية الرأي؛ نقطة تحوُّل في مَسِيرة الوعي الفكري للمواطن في سلطنة عُمان، باعتماده موجهات واضحة، ومرتكزات أصيلة، ومسارات مقننة، تراعي الخصوصية والهُوية، والحكمة والمهنية، مستمدة من مبادئ الإسلام الصحيحة وقِيَم المجتمع العُماني الأصيلة، والإرث الحضاري العُماني في كل مراحله التاريخية، وهي في ثبات مرتكزاتها وعمق مبادئها وارتفاعها فوق مساحات الاجتهاد والمزاجية، ممكنات حفظت تجدد النهضة العُمانية واستمراريتها وجاهزيتها في التعامل مع مختلف المعطيات الكونية المعاصرة، والمتغيرات الحاصلة في حياة الإنسان والمجتمع، والموجهات الفكرية التي باتت تفرض نفسها على الواقع الاجتماعي، خصوصا في ظل شيوع ظواهر اجتماعية وفكري كالإشاعة والسلبية والأفكار الأحادية التي باتت تروجها منصَّات التواصل الاجتماعي.
والحديث عن الوعي الفكري للمواطن يأتي في ظل ما يُمثِّله التحدِّي الفكري من تأثيرات في أمن الدول واستقرار المجتمعات وصحة وسلامة الإنسان النفسية والفكرية وقدرته على توظيف ملكاته الفكرية وقدراته المعرفية والمهارية في صناعة الفارق وخلق روح التغيير، الأمر الذي سيكون له انعكاساته على مفاهيم المواطنة والولاء والانتماء لديه، ويصبح الوعي قوة فكرية ومنهجية وتحليلية يستطيع من خلالها الفرد أن يحدد أدواره ويقف على مسؤولياته ويمتلك الثقافة الرصينة التي تؤهله نحو إعادة إنتاج واقعه ورسم خريطة مستقبله، ذلك أن تعزيز الوعي والثقافة الفكرية المعتدلة والناضجة سوف يعمل على خلق مجتمع قوي ومتين يعرف حقوقه وواجباته ويحترم أفراده التزاماتهم تجاه بعضهم البعض، لذلك تسعى المجتمعات المتحضرة ومن خلال التشريعات والقوانين والأنظمة والتعليم والبرامج والاستراتيجيات والنماذج والقدوات إلى خلق وعي عام لدى أفرادها من خلال نشر الثقافات المتعلقة بالجوانب الصحية والبيئية والقانونية والأمنية.
ولمَّا كان الوعي الفكري يُمثِّل ركيزة أساسية للوعي العام بمختلف أشكاله وأنواعه نظرا لكونه يمدُّ الإنسان بطاقة إيجابية تبصره بأولوياته وغاياته وواجباته ومسؤولياته وقواعد السلوك والمبادرات التي تصنع منه قوة في مواجهة التحدِّيات، للقناعة بأن المجتمع الواعي يمتلك حصانة ذاتية للتصدِّي لكلِّ الهجمات التي تستهدف كينونته وأُسسه التي نشأ عليها، ويصبح الوعي الفكري بذلك حالة ذاتية تبدأ من قناعات الفرد والتزامه في الوصول إلى درجة التوازن في التعاطي مع متطلبات الواقع وتجاوز تحدِّياته وسبر أعماقه في استفادته من تراكمية الخبرات والتجارب والمواقف، في التعامل مع الأزمات التي يتعرض لها الفرد فتصبح دروسا متعلمة تخلق الوعي وتصنع حس التغيير الذي ينطبع على حياة كلِّ فرد، ويحصن المجتمع تجاه خروقات أفراده لنواميسه الناشئة عن تجاربه التي مرَّ بها، وإذا ما أريد للوعي الفكري أن يتحقق وأن ينتشر يجب أن يبدأ من الفرد نفسه، فنمو الوعي في المجتمع يعني قدرته على الانطلاقة نحو الاستدامة في التنمية والتنافسية والابتكارية في الإنجاز، لذلك كانت الدعوة إلى الثقافة المهنية الواعية والتحلِّي بروح المسؤولية وبناء الذات الوطنية والثقة في الكادر الوطني وتعزيز روح الإخلاص في الإنجاز وأداء الواجب، مرتكزات أكدت عليها نهضة عُمان المتجددة وكان لها حضورها في الخطب والتوجيهات والأوامر السَّامية لجلالة السُّلطان، انعكست في إنسانية النهضة العُمانية وانسجام الغايات والأهداف التنموية للخطط الخمسية مع طبيعة الاحتياجات المواطن من المشروعات والبرامج التنموية في مختلف الولايات والمحافظات، لذلك امتزج هذا الترابط في مَسِيرة التنمية ومساراتها بزيادة مستوى الوعي وتعميق روح المسؤولية وتطور طبيعة المهام والأدوار، وأوجدت مناخات جديدة نمَتْ فيها قِيَم الشراكة والشورى وإبداء الرأي والتمكين وأوجدت خلالها البنى المؤسسية والتشريعية الداعمة لذلك.
لقد أوجد الوعي الفكري والاتزان المعرفي تحوُّلات إيجابية في حياة الإنسان العُماني كان لها أثرها في انطلاقته للعالم واستعداده للتعامل مع الظروف والمتغيرات المحيطة به وبعالمه بكلِّ مهنية ودبلوماسية عالية وحكمة في المعالجة، جعل من السياسة العُمانية الخارجية محلَّ تقدير واهتمام واحترام دولي، وداخليا أثمر عن تحقيق نتائج على مستوى المجتمع في اللحمة الاجتماعية بين طوائفه وفئاته ومذاهبه وتعزيز التكافل والتقارب وتأصيل مفاهيم راقية ونماذج عملية في التعايش والتسامح والوئام والتي عكست روح الولاء والانتماء للوطن والقائد المفدَّى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ وأصلت مستوى الترابط والتكامل بين عناصر التنمية وأهدافها في بناء الشخصية العُمانية القادرة على التعايش مع متطلبات الواقع والعيش في عالم متغير، وأدركت أن نهضة الوعي لا يمكن أن تتحقق إلا في ظلِّ مرتكزات العِلم والعمل والإنتاجية وبناء القدرات والتدريب، وتعزيز مناخات التطوير في العمل المؤسسي، وتعزيز الحريات وبناء منظومة تشريعية وقضائية عادلة، وتعزيز دور التعليم في بناء الفرد في مختلف مجالات حياته. لذلك حرصت على نشره وانتشاره، بل أكدت على جودته وقدرته على تحقيق التنمية والتنافسية والعالمية مع ما ارتبط بذلك من توجيهات سامية باستمرارية المراجعة والتقييم لمسيرة التعليم وسياساتها وخططها وبرامجها. إنها الدعوة إلى بناء مرحلة التحوُّل في منظومة العمل الوطني التي تأتي تأكيدا لمنحى ترسيخ منظومة الوعي في الفكر والسلوك والممارسة والقناعات، فقدرة الإنسان العُماني على التعامل مع مفردات الحياة ومتغيراتها بمهنية إنما يعكس نجاحه في إدارة التحوُّلات المرتبطة بحياته ووجود منظومة مؤسسية قادرة على احتوائه ودعمه والدفع به نحو التغيير الذاتي في السلوك.
وتبقى الإشارة إلى أن التحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية والظواهر الفكرية التي بات يعيشها المجتمع العُماني كغيره من المجتمعات المعاصرة، الناتجة عن ارتفاع سقف استخدام التقنية واتساعها وعمق تأثيرها في حياة المواطن، وزيادة تأثير المتغيرات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية على حياة المواطن، تصنع اليوم أهمية كبرى للوعي الفكري في تجاوز الظواهر الفكرية السلبية والحركات التحريضية والإشاعة، وقضايا الشباب والعمل والتوظيف أو التعامل الواعي مع المتغيرات الاقتصادية وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، كلُّ ذلك وغيره يؤسس اليوم إلى مرحلة متقدمة من الوعي بحيث يدرك المواطن فيها مسؤولياته ويقف عند حدوده ويلتزم معاييره، ومن خلال هذا الوعي الفكري الذي يتولد لديه يستطيع أن يكيِّف نفسه مع المستجدَّات الحاصلة في الجانب الاقتصادي في ما يمتلكه من ثقافة الادخار والاستثمار في الموارد الذاتية وامتلاك ثقافة شرائية متوازنة يستطيع من خلالها أن يحقق معادلة القوة في ترتيب الأولويات والشراء وفق الاحتياجات وبين المحافظة على استدامة الملاءة المالية والسيولة النقدية المتوافرة لديه، ليصنع من وعيه الاقتصادي خيوط اتصال مستمرة مع الوعي الاجتماعي والثقافي والنفسي والذوق العام في استخدام المنصَّات الاجتماعية وغيرها.
أخيرا، فإن سلطنة عُمان وهي تحتفل بيومها الوطني الثامن عشر من نوفمبر وعيد نهضتها المتجددة الثاني والخمسين المَجيد، وهي تستشرف مرحلة جديدة من البناء الوطني، في ظلِّ تحدِّيات كونية وعالمية معقدة، لتقرأ في توجيهات حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ حول بناء الرأسمال البشري الاجتماعي وتمكين الشباب واحتوائه ودور التعليم بوابة دخول للمستقبل، وتأصيل القِيَم والأخلاق العُمانية، والتوجُّه نحو صناعة اقتصاد مستدام مَرِن يحقق أهداف سلطنة عُمان الطموحة، وحكمة جلالة السُّلطان المُعظَّم في إدارة القضايا العالمية والتعامل مع المستجدَّات الكونية، محطة تحوُّل كبرى في البناء الفكري المتوازن للإنسان العُماني، وغرس صورة ناضجة للوعي تمكِّنه من العيش في ظلِّ معطيات كونية متسارعة، امتدادا للنهج الذي أسَّسه باني نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ بما يضع الشباب العُماني اليوم أمام مسؤولية الانطلاقة من الثوابت العُمانية لرسم مسارات الوعي والحكمة في التكيُّف مع المتغيرات والظروف والأحداث التي يعيشها العالم، ورفع مستوى استحقاقات الدور القادم للمواطن العُماني في استيعاب متطلبات عُمان المستقبل ومستهدفات رؤية “عُمان 2040” ليُسهم بوعيه وإدراكه ورصانة فكره ونجاعة تفكيره وامتلاكه ثقافة الحوار ومبدأ توظيف المشتركات القيمية والمؤتلفات الإنسانية في صناعة الفارق.
د.رجب بن علي العويسي