تناقلت وسائل الإعلام، قبل أيام، رسالةً للرئيس الصيني شي جين بينغ وجهها إلى الاجتماع الـ29 لمنتدى “إيبك” APEC الملتئم فيبانكوك، تايلند، قال فيها: “القرن الـ21 هو قرن منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وتمثل هذه المنطقة ثلث سكان العالم، وأكثر من 60% منالاقتصاد العالمي، وما يقرب من نصف التجارة. هذه هي منطقة النمو الأكثر ديناميكية للاقتصاد العالمي”، مضيفاً أن دول المنطقة حققتبالفعل نتائج اقتصادية بارزة، وستتمكن في المستقبل من كتابة “فصل أكثر روعة”.
تمثل “إيبك” الأحرف الأولى، بالإنكليزية، لمنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ. وهي تضم 21 بلداً على ضفاف المحيط بين 3 قارات، من بينها كندا والولايات المتحدة والمكسيك وتشيلي وبيرو في القارة الأمريكية (التي يعدها الأمريكيون قارتين: شمالية وجنوبية)،وأستراليا ونيوزيلندا وباباو غينيا الجديدة في قارة أوقيانيا، إضافةً إلى بلدان الساحل الشرقي لقارة آسيا، من روسيا شمالاً، مروراً باليابانوالصين وتايوان وكوريا الجنوبية، وصولاً إلى أندونيسيا وماليزيا والفليبين وفيتنام وتايلند وبروناي وسنغافورة.
تنتسب هونغ كونغ التابعة للصين بصفة مستقلة إلى منظمة “إيبك”، لأن عضويتها فيها سبقت عودتها إلى السيادة الصينية. أما تايوان،فتنتسب إلى “إيبك” تحت عنوان “تايبيه الصينية”، أي بصفتها الصينية، لا بصفتها التايوانية، فالعضوية في “إيبك” تسجل باسمالاقتصادات، لا باسم البلدان، وبناءً عليه، قدمت “ماكاو” الصينية، التي كانت مستعمرة برتغالية سابقاً، لكنها تتبع نظاماً اقتصادياً مستقلاًفي ظل السيادة الصينية، أسوةً بهونغ كونغ، طلباً مستقلاً للانضمام إلى “إيبك”.
حاولت جزيرة “غوام” في قارة أوقيانيا أن تنضم إلى “إيبك” قياساً على سابقة هونغ كونغ، لكن الولايات المتحدة الأمريكية التي ضمتالجزيرة عام 1898 من دون أن تعلنها ولاية أمريكية، لم تسمح بذلك كما سمحت به الصين (المستبدة والديكتاتورية؟) لهونغ كونغ وماكاو.
ما برحت منظمة “إيبك” تتوسع. وثمة دولٌ أمريكية وآسيوية أخرى قدمت طلبات انتساب إليها، مع أن بعضها، مثل الهند وباكستانوبنغلادش، تقع على المحيط الهندي لا الهادئ، وهما محيطان متصلان مائياً عبر الأرخبيل الأندونيسي، لكنهما ليسا شيئاً واحداً طبعاً. ولنُبقِ الصلة بين المحيطين الهادئ والهندي في البال لما سيأتي لاحقاً.
وعاء المحيط الهادئ سياسياً
ليس المحيط الهادئ بحيرةً صغيرة. فهو أكبر محيط في العالم، ويترامى طولياً بين المحيط المتجمد الشمالي والقارة القطبية الجنوبية،ويقسمه خط الطول 180 الذي يبدأ منه النهار رسمياً في الكرة الأرضية، وهو خطٌ يمتد بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، ويفصل شرقالكرة الأرضية عن غربها، ويقابله من الجهة الثانية للكرة الأرضية خط غرينيتش، وفي ذلك معنى رمزيٌ كبير، كأن المحيط الهادئ أصبحميدان الصراع بين الشرق والغرب حول محور خط الزوال 180.
في الشمال، تقع أمريكا الشمالية إلى يمين الخط 180 مباشرة. وإلى يساره تقع قارة آسيا، ابتداءً من شرق روسيا، مع أن طرف أقصىالشرق الروسي يقع نظرياً على يمين الخط 180 في الغرب أيضاً، تليه ألاسكا.
في أقصى الجنوب، يكاد الخط 180 يمر بنيوزيلاندا التي تقع يسار الخط، تليها أستراليا، وهما غربٌ ثقافياً وسكانياً، وشرقٌ جغرافياً،ويشكلان عمقاً استراتيجياً، جنوب المحيط الهادئ، لطوق القواعد العسكرية الأمريكية الكبيرة في جزر “غوام” والفليبين وكوريا الجنوبيةوسنغافورة واليابان، ولا سيما في جزيرة أوكيناوا، أقصى جنوب اليابان، في مقابل التنين الصيني وظلاله الإقليمية.
ويذكر أن ولاية هاواي الأمريكية، التي استعمرتها الولايات المتحدة عام 1898، وجعلتها ولاية عام 1959، تقع إلى يمين الخط 180 أيضاً،وهي قلعةٌ عسكرية.
تمتد منطقة آسيا-الهادئ أفقياً إذاً حول عامودها الفقري؛ خط الزوال العكسي 180. وقد تمايزت تلك المنطقة، هويةً واقتصاداً وجغرافيا،في نهاية ثمانينيات القرن العشرين مع تزايد وزن اقتصادات دولها، لا سيما مع الصعود الصيني، وتزايد التشبيك الاقتصادي بينها، تجارةًواستثماراً.
تأسست مجموعة “إيبك” عام 1989 تكريساً لهاتين الحقيقتين الوازنتين. يضاف إليهما تسارع تشكيل التكتلات الاقتصادية الإقليميةآنذاك، مثل مشروع الاتحاد الأوروبي. وأعلن هدف منظمة “إيبك” الرسمي بأنه إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية أمام التجارة الحرةبين الاقتصادات المنضوية فيها من أجل تشكيل سوق كبيرة على ضفاف المحيط الهادئ.
بين “إيبك” و”أسيان”
تقول الرواية الرسمية إن منظمة “إيبك” انبثقت عن مجموعة “أسيان” ASEAN، أي رابطة دول جنوب شرق آسيا، وهي رابطة تضم 10 دولهدفها تعزيز التنسيق حكومياً وتسهيل التكامل اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وثقافياً، وحتى تربوياً، فيما بينها. وتتشكل الرابطة من ميانمارولاووس وفيتنام وكمبوديا وتايلند وأندونيسيا وماليزيا وبروناي وسنغافورة والفليبين.
لو نظرنا إلى خريطة تلك البلدان المتصلة ببعضها بعضاً في جنوب شرق آسيا، سنجدها تتوسط ثلاثة عمالقة كبار: الصين، شبه القارةالهندية، وأستراليا. لذلك، فإن الخيار الاستراتيجي بالنسبة إليها، من المنظور الجغرافي-السياسي، هو إنشاء صيغة وحدوية ما فيما بينها(تتجاوز التجارة الحرة)، إن أرادت الحفاظ على ذاتها وإيجاد مكانٍ ما لها تحت الشمس في هذا العالم، على الرغم من تعدد قومياتهاولغاتها وثقافاتها. (واسمحوا لي، واحسرتاه علينا نحن العرب، كيف لا نستوعب مثل هذا الدرس البديهي، على الرغم من انتمائنا إلىمساحةٍ ولغةٍ وأمةٍ واحدة!)
أشكك بمقولة انبثاق منظمة “إيبك” من منظمة “أسيان”، لأن تأسيس “إيبك” عام 1989، انطلاقاً من كانبيرا، أستراليا، جاء كتكتلغربي-جنوب شرق آسيوي، ليجمع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وكندا إلى بروناي وماليزيا وأندونيسياوالفليبين وتايلند وسنغافورة، ولم تكن فيتنام ولاووس وكمبوديا قد انتسبت إلى “إيبك” بعد، فكانت في بداياتها أشبه بتمدد ناتوي إلى جنوبشرق آسيا.
ويستبعد أن تكون دول جنوب شرق آسيا استدعت الناتو وشركاؤه إليها، إنما العكس هو الأرجح، لا سيما أنها مضت في طريق تعزيز”أسيان” وتوسيعها بصورةٍ موازية، وهو تكتل أكثر تماسكاً من “إيبك” يقتصر على جنوب شرق آسيا.
لم يمض عامان على تأسيس منظمة “إيبك” حتى التحقت بها الصين (وتايوان وهونغ كونغ) عام 1991. ومع عام 1998، استُكمِل القوامالأولي للمنظمة مع انضمام روسيا وفيتنام إليها. وبذلك، تحقق نوع من توازن القوى في “إيبك”، لتتحول إلى أحد ميادين الصراع فعلياً بينالغرب وحلفائه من جهة، والاقتصادات الصاعدة من جهةٍ أخرى، في وعاء آسيا-المحيط الهادئ.
لم يُقبل طلب انتساب الهند إلى منظمة “إيبك”، بالمقابل، لأنها لا تقع على المحيط الهادئ، ومُنِحت الهند، عوضاً عن ذلك، صفة “مراقب” فيها،وفي ذلك معنى، كما سنرى، في اعتراض الاستراتيجية الأمريكية لربط منطقتي المحيط الهادئ والهندي معاً.
الحلقة اليابانية
كان اجتماع منظمة “إيبك” في بانكوك، تايلند، الأسبوع الفائت، مهماً بعد أربع سنوات من الانقطاع فعلياً، لأن اجتماعي عامي 2021 و2020 عقدا افتراضياً، واجتماع عام 2019 ألغته تشيلي، الدولة المضيفة، فجأةً نتيجة احتجاجاتٍ عنيفةٍ عمت البلاد قبيل انعقاده بأسبوعين.
أتى اجتماع “إيبك” الأخير في بانكوك أيضاً في ظل تصاعد التوترات والحشود العسكرية في المحيط الهادئ، حول تايوان، وفي محيطكوريا الشمالية، وفي بحر الصين الجنوبي، وبين روسيا واليابان، وبين الصين واليابان.
يذكر أن الصين، بعد تطور قدراتها العسكرية خلال العقد الفائت، راحت تطالب بمجموعة جزر صينية تحتلها اليابان في بحر الصين الشرقيبصورةٍ أكثر إلحاحاً. وفي العام الفائت، إعلن وزير الدفاع الياباني أن الوقت حان كي تقف طوكيو في وجه الضغوط الصينية على تايوانوتحمي الجزيرة.
وفي أيلول / سبتمبر الفائت، قدم الحزب “الديموقراطي الليبرالي” الحاكم في اليابان مشروع قرار لمضاعفة إنفاق البلاد العسكري من 1% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي الياباني، وبلغت الموازنة العسكرية اليابانية أكثر من 54 مليار دولار عام 2021 بحسب موقعStatista. ويمكن مقارنة ذلك مثلاً مع الموازنات العسكرية لكلٍ من روسيا وبريطانيا والهند، والتي بلغت 66، و68، و77 مليار دولار علىالتوالي في العام ذاته.
يذكر أن الموازنة العسكرية اليابانية شهدت نمواً سنوياً منذ عام 2012. فإذا تضاعفت تلك الموازنة أو أكثر (بما أن الناتج المحلي الإجماليالياباني ينمو)، بحسب المقترح، قد تصبح اليابان ثالث أكبر دولة من حيث الإنفاق العسكرية عالمياً، بعد الولايات المتحدة والصين، مع العلمأن هناك توجهاً لزيادة الإنفاق العسكري الألماني أيضاً، الذي بلغ 56 مليار دولار عام 2021، ومنه إقرار قرض بـ 100 مليار يورو، فيحزيران / يونيو الفائت، لتحديث الترسانة العسكرية الألمانية، ستذهب حصة دسمة منها للشركات العسكرية الأمريكية.
يضاف أن مطالبة اليابان بمجموعة جزر الكوريل الجنوبية، التي سيطر عليها الاتحاد السوفياتي السابق في الحرب العالمية الثانية، اتخذتطابعاً متأزماً بعد معركة أوكرانيا وانخراط اليابان في الحملة على روسيا إعلامياً واقتصادياً ودبلوماسياً، ما دفع روسيا لإيقاف مفاوضاتمعاهدة السلام مع اليابان حول جزر الكوريل الجنوبية ومسائل أخرى معلقة منذ الحرب العالمية الثانية.
الحلقة الهندية
يزداد الجو توتراً في المحيط الهادئ إذاً، لا سيما مع المساعي الأمريكية لعسكرة المنطقة من خلال تحالفات مثل “كواد” (بين الولايات المتحدةواليابان والهند وأستراليا)، و”أوكوس” (بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا لتعزيز الوجود الغربي في المنطقة نووياً). ويترافق ذلك معالتوجه الأمريكي لتعزيز العلاقة مع الهند استراتيجياً كوزن مكافئ للصين، وهذا العامل الهندي هو الدافع الرئيس لربط منطقتي المحيطينالهادئ والهندي ببعضهما في الاستراتيجية العليا الأمريكية.
ثمة نقطة مفصلية برزت عام 2018، إذ أعاد البنتاغون تشكيل القيادة العسكرية لمنطقة المحيط الهادئ US Pacific Command، التيتشكلت عام 1947، لتصبح القيادة العسكرية لـ”منطقة” الهادئ والهندي US Indo-Pacific Command، بعد ضم الهند إليها وما يليهامن مياه، وصولاً إلى القارة القطبية الجنوبية. أما باكستان، فما برحت تحت سلطة القيادة العسكرية المركزية US Centcom، التي تضمأيضاً آسيا الوسطى وأفغانستان وإيران والجناح الآسيوي للوطن العربي ومصر.
ومن المهم الانتباه إعلامياً إلى أن من يستخدم مصطلح “منطقة الهادئ-الهندي” يميل أمريكياً، وأن التقارير الصينية والروسية والحليفةتستخدم مصطلح “منطقة أسيا-الهادئ”. وكثيراً ما نجد تعبير “منطقة” الهادئ-الهندي في التقارير الهندية مثلاً.
لا يعني ذلك أن الهند ورقة خاسرة في الصراع مع الهيمنة الغربية، إذ إن تناقضها مع الصين يقربها إلى الخط الأمريكي طبعاً، لكنّ علاقتهامع روسيا، وإرثها الاستقلالي وإرث علاقتها مع الاتحاد السوفياتي السابق يقربها من “منظمة شنغهاي للتعاون”، وهي التحالفالروسي-الصيني الأضيق من “البريكس” في مواجهة الهيمنة الغربية.
لذلك، نلاحظ مثلاً أن قبول عضوية الهند وباكستان رسمياً في “منظمة شنغهاي للتعاون” جاء في اليوم ذاته، في 9 حزيران / يونيو 2017 تحديداً، حفظاً للتوازن، لأن باكستان حُسِبت على الصين، والهند على روسيا، لكن الهند بذاتها قطبٌ دوليٌ كبيرٌ صاعد.
وإذا كانت واشنطن تراهن على زج نيودلهي في مواجهة بكين، وتعيد رسم استراتيجيتها العليا على هذا الأساس، فإن موسكو ما برحتتلقي باتجاه نيودلهي حبالاً من ودٍ ونفطٍ رخيص الثمن، فكلٌ من موسكو ونيودلهي له مصلحة في نشوء تعددية قطبية حقيقية، لا ثنائية قطبيةجديدة تتربع واشنطن وبكين على رأسها. ويبقى الرهان على وعي القيادتين الصينية والهندية بأن انشغالهما ببعضهما، مهما تفاقمتمشاكلهما، لا يخدم إلا مشروع الحفاظ على الأحادية القطبية الأمريكية.
الحلقة الفرنسية
أما تعمد الرئيس الفرنسي ماكرون استعراض حضوره في ملتقى “إيبك”، فسببه أن فرنسا تمتلك مئات الجزر، وبالتالي تمتلك مياهاً إقليميةواسعة وقواعدَ عسكريةً في المحيط الهادئ، ومنها جزر كالدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية وغيرها، ويعيش 1.5 مليون فرنسي في المنطقة،كما أن الفرنسية هي اللغة الرسمية في جزر “فانواتو” Vanuatu المستقلة التي يقطنها نحو 300 ألف.
وذكرت “لوموند” الفرنسية في 19/11/2022 أن ماكرون وقف أمام قادة “إيبك” في بانكوك مؤكداً أن فرنسا “هي بلدٌ في المنطقة”، وإندعوته إلى الملتقى “تدعم استراتيجية (الهادئ-الهندي) التي أطلقت عام 2018″، أي أن ماكرون ثبت هنا التزامه الخط الأمريكي أملاًبالحصول على حصة من الكعكة، بعد تلقي فرنسا طعنة نجلاء بإلغاء عقد بيع 12 غواصة فرنسية إلى أستراليا ليستعاض عنها بصفقة”أوكوس”، ما فتح باب التراجع عن العقود الفرنسية مع أستراليا والهند وأندونيسيا لتزويدها بطائرات رفاييل وغواصات وفرقطات، أي أنماكرون عرض العلاقات الفرنسية في المنطقة للتوظيف أمريكياً كي لا يخسرها.
مشروع بايدن الاقتصادي الجديد لـ”منطقة” الهادئ-الهندي
يصعب فهم تحذير الرئيس شي جين بينغ لواشنطن في كلمته في بانكوك في اجتماع “إيبك”، الخميس الفائت، بأنه يجب منع تحول “منطقةآسيا-المحيط الهادئ” إلى “ساحة للتنافس بين القوى العظمى”، وبأنها “ليست فناءً خلفياً لأحد”، إلا على خلفية تصاعد مثل ذلكالاستقطاب والتحشيد العسكري فيها.
عُرِف الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما منذ عام 2011 بأنه صاحب رؤية “إعادة محورة” السياسة الأمريكية العليا نحو أولوية منطقةآسيا-المحيط الهادئ، معلناً أن النظام العالمي سوف يتشكل فيها وأن وزن الولايات المتحدة الأمريكية سوف يتحدد هناك. ولم يكن الاتفاقالنووي مع إيران، وشبه الانسحاب من العراق، إلا إحدى ثمار ذلك التوجه الذي واجه معارضةً ضاريةً من اللوبي الصهيوني في واشنطن.
قبل أوباما، ومنذ نهاية عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، انخرطت الولايات المتحدة في مفاوضات مع عدد من دول المحيط الهادئلتأسيس “شراكة عابرة للهادئ” تضم أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة وفيتناموالولايات المتحدة.
والرجاء الانتباه إلى أن فيتنام نحت بعيداً باتجاه التفاهم مع الولايات المتحدة ضد الصين.
جرى التوصل لاتفاق “شراكة عبر الهادئ” وتوقيعه أمريكياً في ظل الرئيس أوباما في 4/2/2016، لكن الكونغرس لم يقره، وعارضتههيلاري كلينتون ودونالد ترامب. وبعد أسبوعين بالضبط على تولي ترامب الرئاسة، انسحب منه في 23/1/2017، لأنه عدّ تخفيض القيودالجمركية وغير الجمركية مع الموقعين خطراً على المصانع والعمال الأمريكيين، وكان ذلك حمقاً استراتيجياً بمرتبة قوة عظمى، لا شك أنمنافسي الولايات المتحدة لم يتوانوا عن استغلاله.
مضى الموقعون في اتفاقية الشراكة عبر الهادئ من دون الولايات المتحدة، بعد تغيير اسمها، ودخلت حيز التنفيذ بينهم عام 2018، ولكنأثرها لم يكن قوياً بما فيه الكفاية عالمياً، أو على الضفة الآسيوية من المحيط الهادئ، كوزن مكافئ للصين، ولم تُحدِث الأثر الإقصائيالمرغوب غربياً.
لم تضِع الصين الوقت في عهد الرئيس ترامب. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 2020، جرى التوقيع على تشكيل أكبر تكتل تجاري فيالتاريخ يضم أكبر اقتصادات المحيط الهادئ، مع الصين، من دون الولايات المتحدة، بمعية الأعضاء العشرة في “أسيان”، وعلى رأسهمأندونيسيا، مع اليابان وكوريا الجنوبية، زائد أستراليا ونيوزيلاندا اللتان وجدتا أنهما لا تستطيعان البقاء خارج التاريخ. وكان ذلك انتصاراًصينياً بامتياز. ويفترض أن تكتمل عملية تشكيل التكتل في غضون 20 عاماً، فالنفس الصيني طوووويل.
عندما أتى بايدن إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، كان من المتوقع أن يعيد إحياء “الشراكة عبر الهادئ” التي انسحب منها ترامب،لكنّ قطار الزمن ولّى. وفي عام 2018، أنتجت الدولة العميقة الأمريكية، من خلف ظهر ترامب، عبر البنتاغون، استراتيجية ربط المحيطالهادئ بالمحيط الهندي، ومشروع زج الهند ضد الصين.
في 23 أيار / مايو 2022، أطلق الرئيس الأمريكي جو بايدن مبادرة “الإطار الاقتصادي لمنطقة الهندي-الهادئ من أجل الازدهار”،بمشاركة 14 دولة في الهادئ، من دون الصين، وبمشاركة الهند، بالإضافة إلى أستراليا وبروناي وجزر فيجي وأندونيسيا واليابان وكورياالجنوبية وماليزيا ونيوزيلاندا والفليبين وسنغافورة وتايلند وفيتنام.
قد يبدو التكتل الأمريكي اقتصادياً أكبر حجماً من ذاك الذي شكله الصينيون في المحيط الهادئ عام 2020، سوى أنه يعاني مشكلتينرئيسيتين:
أولاً، أنه لم يتضمن جدولاً لتخفيض الجمارك، ولا منطقة تجارة حرة.
ثانياً، أن الهند، واسطة العقد في الاتفاق، اعترضت على بعض بنوده، لا سيما تلك المتعلقة بالفضاء الافتراضي، ووافقت على بعض بنودهالأخرى، فهي كمن وافق ولم يوافق، وكمن وقع ولم يوقع، وهذا يعني، أنها لم تحسم أمرها، وأنها تبقي خياراتها مفتوحةً في الاصطفافالدولي، وأنها تنشكح قائلةً لكل الفرقاء: “دللوني”.
المحيط الهادئ في علم الجغرافيا السياسية
في الجغرافيا السياسية، إذا عدّ هالفورد ماكندر أوروبا الشرقية قلب العالم، وأن من يسيطر على القلب يسيطر على الكل، فإن المعركة علىقلب القلب جاريةٌ في أوكرانيا، وهي معركة برية بطبيعتها.
وإذا عدّ ألفرد ثاير ماهان القوى العظمى مرهونةً بقوتها البحرية، وأن من يسيطر على العالم يسيطر على البحار بأسطوله، فإن المحيطالهادئ، كقلبٍ اقتصاديٍ للعالم، قد يصبح ساحة أكبر حرب بحرية في التاريخ، وميزان القوى، على هذا الصعيد، لا يميل مع الصين وروسيا،بل مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى الآن.
أما إذا أخذنا الجو بعين الاعتبار، فإن عالِم الجغرافيا السياسية نيكولاس سبايكمان رأى أن الفضاء الجوي لا يقل أهميةً عن البر والبحر. ويجب أن نننته هنا أن الجو لا يقتصر على الطائرات، بل على القوة الصاروخية، الفرط صوتية وغيرها، وهنا لا بد من القول إن روسياوالصين تمتلكان أفضلية، حتى الآن.
إنه عالمٌ جديدٌ متعدد الأقطاب في طور التشكل، وعلينا أن نجد مكاننا فيه.
إبراهيم علوش – الميادين نت