بدت القمة الأخيرة المعنونة باسم “بغداد 2 ” قمة مفارقات بامتياز ، فقد عقدت على ضفاف “البحر الميت” بالأردن لا فى “بغداد” ، التىشهدت القمة الأولى فى 28 أغسطس 2021 ، ثم أن مناقشات القمة الثانية متباينة التمثيل ، بدت حريصة رسميا على أحاديث مناسباتعن العراق وأزماته ، وعلى إبداء الدعم والشراكة مع “بغداد” ، بينما موضوعات البحث الجدى ، كانت مع إيران وعنها لا عن العراق ، وفىلقاءات جانبية لافتة ، بينها لقاء “أمير حسين عبد اللهيان” وزير الخارجية الإيرانى مع “جوزيب بوريل” مسئول السياسة الخارجية بالاتحادالأوروبى ، ولقاء آخر مع وزيرة الخارجية الفرنسية “كاترين كولونا” ، ثم لقاء أهم ، سبقت إيران إلى إذاعته أولا ، وجمع وزير الخارجيةالإيرانى مع نظيره السعودى الأمير “فيصل بن فرحان” .
وبدت المفارقات انعكاسا لحقيقة واقعة ، جعلت العراق شأنا لصيقا بإيران ، وبالذات بعد تشكيل حكومة “محمد شياع السودانى” ، معنجاح “اللقاء التنسيقى الشيعى” المقرب من طهران فى فرضه رئيسا للوزراء ، وفى سياق حكومة محاصصة طائفية ، أعقبت خروج “مقتدىالصدر” وتياره من المشهد ، ومن مجلس النواب قبله ، وقد كانت الكتلة الصدرية هى الفائز الأول فى انتخابات أكتوبر 2021 ، وأرادتتأسيس حكومة أغلبية وطنية لا طائفية ، ثم فشلت محاولاتها على مدى عام كامل ، انتهى باعتزال الصدر للسياسة ، وسحب أنصاره منالشارع بعد مصادمات دموية ، لتعود “ريمة” العراقية إلى عاداتها الطائفية الفاسدة ، التى صارت سائدة فى عراق ما بعد الغزو الأمريكى، ومن دون أن تفلح انتفاضات شعبية متوالية ، بدأ آخرها فى 25 أكتوبر 2019 ، فى إنهاء الصيغة الطائفية المفروضة عرفيا ، ومااستصحبته من توحش ظواهر النهب الفاجر وتنامى الإرهاب الدموى ، وإفقار السواد الأعظم من العراقيين ، وجعل العراق ملعبا مفتوحالتحكم الآخرين فى الجوار ، وبالذات من الجانب الإيرانى ، الذى استفاد من إجبار “الصدر” على الاعتزال ، والعودة لصدارة المشهدالعراقى بحكومة “السودانى” الحالية ، ومن هنا كان طبيعيا ومفهوما ، أن يكون لإيران نصيب الأسد فى البحث الجدى على هامش “بغدادـ2” على ضفاف “البحر الميت” ، بعد أن صار العراق فى وضع الرهينة لإيران ، تضيفه لأوراقها فى التفاوض حول شواغلها الكبرى ،خصوصا بعد اندلاع واستمرار وتوسع انتفاضة الحجاب ، التى دخلت شهرها الرابع ، وشهدت فورانا شعبيا جريئا ، انتقل من المناطقالكردية غرب إيران ، ومن مناطق “البلوش” فى الجنوب الشرقى ، وزحف إلى مراكز التجمع الفارسى من “طهران” إلى “زاهدان” و”قم”وغيرها ، وتنوعت وسائل الاحتجاجات فيه ، من المظاهرات إلى الصدامات والإضرابات ، فيما بدا كأكبر خطر داخلى يتعرض له النظامالإيرانى ، عبر ما يزيد على أربعة عقود ، فقد تجاوزت الانتفاضة الراهنة ماجرى فى أعوام 1999 و 2009 و 2019 ، وتجاوزت شرارتهاالأولى فى 17 سبتمبر 2022 ، التى بدأت بالاحتجاج على موت مريب للشابة الإيرانية الكردية “مهسا أمينى” ، كانت “شرطة الأخلاق”احتجزتها فى طهران ، وتعرضت لتعنيف وتعذيب فى مركز الاحتجاز أدى لوفاتها ، وبدعوى مخالفتها لقانون فرض الحجاب القائم منذ عام1983 ، لكن الاحتجاجات على مقتل “مهسا” ، سرعان ما تجاوزت مراحل حرق الحجاب و”قص الشعور” ، إلى حرق صور “على خامنئى”القائد الأعلى ، وهو ما كان سببا فى تطور الصدام والقمع الدامى من النظام وحرسه الثورى و”منظمة الباسيج” نصف العسكرية ، ومقتلعدد من جماعة الحرس الثورى و”الباسيج” ورجال الشرطة ، فيما سقط أكثر من 500 قتيل بين المتظاهرين المنتفضين ، نحو نصفهم منمناطق “الكرد” و”البلوش” الإيرانيين ، إضافة لاعتقال ما يزيد على عشرين ألفا بحسب الإعلام المعارض ، ودوران عجلة الإعدامات العلنيةلقادة الحراك ، وقد اتهم النظام واشنطن وأطرافا أخرى بدعم وتحريك الاحتجاجات ، ولم تخف الأطراف المتهمة دعمها وتمويلها للثورةالجارية فى إيران ، ولا رغبتها فى إسقاط النظام الإيرانى ، وتسهيلها لبدائل تقنية ، تمكن المتظاهرين من التحشيد عبر وسائط التواصلالاجتماعى ، بعد أن حجبتها سلطات طهران ، إضافة لتوالى عقوبات أمريكية وأوروبية مضافة على طهران ، تذرعت بقمع المتظاهرين ،وبأسباب ما يقال عن دعم طهران لموسكو بالطائرات المسيرة فى حرب أوكرانيا ، وقد حاول النظام الإيرانى احتواء الانتفاضة المشتعلة ، ومندون نجاح نهائى أكيد حتى اليوم ، برغم تصاعد أعمال القمع والقتل للمتظاهرين ، وتوجيه ضربات صاروخية لتجمعات الأكراد الإيرانيين فىشمال العراق ، ثم مزج القمع مع بعض التساهل الصورى ، كحديث السلطات الإيرانية عن تجميد عمل جهاز “شرطة الأخلاق” ، وعن بعضإعادة النظر برلمانيا فى قانون فرض الحجاب ، وتوجيه الآلاف من “الملالى” فى حملة إقناع بالحجاب و”الشادور” الإيرانى ، الذى لا تتجاوزنسبة النساء الإيرانيات المقتنعات بارتدائه عن 15% ، بينما يسود ما تسميه السلطات الإيرانية “الحجاب السئ” و”السئ جدا” ، الذىتتملص فيه النساء من غطاء الرأس ، وتتحايل عليه ، وتزيح الحجاب لأعلى الرأس وإلى الخلف ، وعلى نحو يجعلهن “كاشفات الشعور”عمليا ، فى ضيق طافح من إملاءات السلطات ، وجعل الحجاب فرضا من السلطة ، لا فريضة تؤدى باقتناع شخصى ودينى ، وفى سياقيتزايد فيه الغضب ، والرغبة فى خلع حجاب النظام نفسه عن رءوس الشعوب الإيرانية ، وهو ما يبرز إساءة النظم الدينية المتشددة للإسلامنفسه ، وتحميله أوزار فسادها الدنيوى ، وتخلفها عن تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان ، وبالذات مع الأثر السلبى التراكمى للعقوباتالغربية المفروضة ، وهو ما يضاعف الاحتقان الاجتماعى الاقتصادى إلى حدود خطرة ، صارت رافدا أساسيا لغضب الشعب ، الذى لا تميلقطاعات كبيرة فيه إلى قناعة كافية بإنجازات النظام الإيرانى ، وهى ظاهرة ، خصوصا فى مجالات الصناعة المدنية والعسكرية ، وفى القفزدرجات بنظام التعليم الجامعى بالذات ، وفى تطوير المشروع الصاروخى والنووى إلى آفاق بعيدة ، باتت ترشح إيران إن أرادت لصناعةقنابلها الذرية .
وقد يأمل البعض فى نهاية قريبة للنظام الإيرانى ، وبسبب تفشى تدخلاته وتوسع نفوذه الإقليمى ، على نحو ما جرى ويجرى فى العراقوسوريا واليمن ولبنان ، إضافة لدعمه منظمات مقاومة مسلحة لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، وبغض الطرف عن تنوع بواعث المنتظرين لسقوطالنظام الإيرانى ، إلا أن آمالهم لا تبدو فى وارد تحقق قريب ، صحيح أن الانتفاضة الإيرانية الحالية غير مسبوقة فى حجمها واتساعخرائطها ، لكنها لا تبدو قادرة على التعجيل بإسقاط نظام “الملالى” الإيرانى ، ليس فقط بسبب طاقات القمع المتاحة للنظام ، بل أيضابسبب وجود قاعدة شعبية مرئية داعمة للنظام الحالى ، خصوصا مع وضوح الدعم الخارجى لما يجرى فى الداخل الإيرانى ، واعتمادمنظمات المعارضة المقيمة فى الخارج على صلاتها مع أجهزة مخابرات غربية وإقليمية ، وهو ما قد يدفع النظام الإيرانى لمحاولة كسب تهدئةعلى جبهات الخارج ، تسوغ ما تبديه السياسة الإيرانية من انفتاح صورى نسبى ، ترفع فيه راية الحوار ، وتبدى استعدادها لاستئنافالتفاوض بهدف إحياء الاتفاق النووى ، بعد الوصول إلى الحائط المسدود قبل شهور ، وإلى ما يشبه “موت” الاتفاق لا مجرد تعليقه ، وإلىحد صدور تصريح عرضى للرئيس الأمريكى “جو بايدن” ، قال فيه أن الاتفاق صار ميتا دون إعلان رسمى ، ربما لأنه كان يتوقع نجدةتأتيه من انتفاضة المتظاهرين الإيرانيين ، بينما بدا “الاتحاد الأوروبى” فى موقف أكثر تحسبا وواقعية ، لا يمانع فى العودة لمفاوضاتالاتفاق ، وبالذات مع استقبال طهران أخيرا لوفد من “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” ، مع تفاقم أزمات الطرفين ، وإعلان إيران عن تخصيباليورانيوم بنسبة 60% فى منشأة “فوردو” إلى جوار مفاعل “نطنز” ، وهو ما يعنى اقترابا إيرانيا مزادا إلى حاجز 90% المطلوب لصناعةقنبلة ذرية ، ودفعا للأطراف الغربية إلى تجريب مجدد لمحاولة إنقاذ الاتفاق ، قبل أن يقع المحظور ، وبما يفسر دواعى اللقاء التشاورى الذىجرى بين “عبد اللهيان” و”بوريل” على هامش قمة “البحر الميت” الأخيرة ، فأوروبا تأمل فى إحياء الاتفاق لكسب مدد من موارد الطاقةالإيرانية الهائلة ، وهو رهان لا يبدو أن الطريق مفتوح إليه قريبا ، خصوصا مع اندفاع النظام الإيرانى فى تعميق وتوسيع صلاته بالقطبالشرقى الروسى والصينى ، ومع دخول الصين الصاخب على خطوط وتفاعلات المنطقة ، وهو ما كان له أثره فى التبريد النسبى لحرارةخلافات السعودية مع إيران ، وفى حديث الجانب الإيرانى عن استعداد الرياض لاستئناف جولات حوار البلدين ، التى جرت خمس منها فى”بغداد” زمن رئاسة ” مصطفى الكاظمى” ، ويريد “السودانى” العمل لاستئنافها ، ربما تلبية لطلب طهران ، الراغبة فى تفكيك الضغوط منحولها وفى داخلها .
عبدالحليم قنديل