رحل عام 2022 من عالمنا بلا عودة، وأنهى صفحته الأخيرة في سنَّة كونية بتغير الأحوال وتعاقب الأيام، الكيِّس فيه من عمل وأخلص،واستقام وأوفى، وأنجز وأعطى، ورسم البسمة في وجوه الأبرياء والضعفاء والفقراء والمحتاجين والمعسرين والمشردين ببره وعطفه، وحنانهواحتوائه، وشهامته وشموخه، رحل بكل ما فيه، ويبقى الود بين البشر حنينا، يحفظ تلك الذكرى، ويسجلها في ذاكرة الأيام، ويصنع منمواقفها شواهد إثبات متجددة لن تسكتها السنون والأيام واختلاف الأزمان والأحوال وتغيُّر المواقع والمواقف، محطات سيعاد إنتاجهاواستدعاؤها، كلما تعقَّدت في وجْه أناس ظروف الحياة، وأثقلت عليهم الأرض، وضاقت منهم أنفسهم، وعسى أن ترحل معه أوجاع المرضى،وأنين الجرحى، وبكاء اليتامى، ونوح المستضعفين، وحنين المشردين، وصراخ الثكالى، وتتوقف معه أصوات الرصاص وقاذفات الموت، وأمنيتوقف معه كل عسر أضر بالناس، وكل قرار أفجع الناس، وكل عمل ثقل على الناس، فلن تكون ذكرياتنا فيه إلا بقدر ما تركه من بصماتطيبة وفأل حسن، سيتذكر محاسنها الجميع بدعاء في ظهر الغيب، وسؤال في أحلك الظروف، وتبقى النقاط الباهتة في سوادها الكالح،وظلامها الدامس، ونطاقها الضيق فواجع ممقوتة، لن يكون لها نصيب من محاسن الذكر، وطيب الكلم.
رحل عام 2022 تاركا الباب مفتوحا على مصراعيه في مناورات سياسية وعسكرية غير محسوبة، ومواقف وممارسات يقودها الكبار ويلعبعلى وترها السذَّج، لتضيع شعوب، وتزول حضارات، ويئن من ويلات وقعها وضررها أبناء أوطان كانت في يوم ما ملاذا للآمنين وحضناللمشردين، أفصحت عن قبح الحياة في ظلال انحراف النهج وغياب الضمير ونفوق الأخلاق، وغلبة السادية، وبطر الأنا، ونزغات النفسالأمَّارة، حتى أشعلت خلافات أججت من نار الكراهية والأحقاد، وأسدلت الغطاء على فرص التعارف والتكامل وتوجيه الاختلاف في منفعةالبشر وخير الإنسان، لتبرز على السطح رائحة الجاهلية النتنة في قبحها وانسلاخها وضلالها وضياعها، واقع عظمت فيه الحساسياتالمفرطة، والأيديولوجيات المرهقة، والأفكار الهدامة، واتسعت دعوات الإثارة والتحريض والإشاعة، وحالة التعنت والازدواجية في المعايير، وعودةالوصاية والسيطرة وفرض الأمر الواقع، في أحداث أصابت العالم بجمود فكري، واختلال قيمي، وصراعات بات حسمها صعبا، وإنهاؤهامكلفا، واقع يبدو أنه يعيد إلى الأذهان سباق التسلح والحرب الباردة ليعيش العالم في فوهة مدفع وتحت رحمة قنبلة، مرحلة أدَّت إلى مزيدمن التنمر الفكري والتراجع في مسار الوعي الإنساني، وخروج الإنسان من دائرة الجمعية إلى الأنا والفردانية والشهوانية، في واقع يحكيقصة الغاب، وحكاية تنهي سردها بجهل العالم وقساوته من أن يضع للحرب أوزارها، وقد وضع الجميع أمام مسؤوليتهم فيما تسببت به أيديالناس.
وها هو عام 2023 يفتح صفحة جديد عسى أن تكون مساحة للتأمل والمراجعة واحتواء لأحلام الشعوب وآمالها، وتحقيق فرص البناءوالتطوير والتجديد لينعم الإنسان في وطنه، ويعيش الجميع على كلمة سواء، وفق عقيدة التفاؤل والفأل الحسن والإيجابية؛ باعتبارها القاسمالمشترك بين الشعوب، وخيوط الترابط والتكامل وجسور المودة التي تنسج أشرعة الأمان والسلام، تلك الإيجابية التي خلقت مع الإنسان،والأمل الذي ولد معه؛ لأنها الفطرة الصحيحة في أخلاقيات الإنسان وقِيَمه التي تحرك مسار العمل وتدير عقارب الزمن، وعندها تبقى مسألةصناعة الإيجابية في عالم اليوم محطة اختبار للعالم ليعيد حساباته، وإنتاج ذاته وتصحيح ممارساته ويقف على إنسانيته ويستعيد ضعفهوفقره، ويقرأ في كثرة النعم وما أوجدته التقنية من فرص تحفظ للإنسان حقه في الحياة والعيش والأمن والسلام، فهي طريقه لعالم ممتدةنجاحاته، شامخة مبادئه، لا مشتركة قضاياه، إذ بها يبني مجد الحياة، وفي ظلها يطوِّر أساليب العيش، ومن خلالها يتفاعل مع نمطالتحدي، لتتحوَّل الإيجابية إلى سلوك إنسان يتعايش مع الآخر ويحترم الاختلاف ويتسامى فوق الخلاف.
وعليه، شكلت الفرص التي صنعها المخلصون في هذا العالم في زمن النكسات على صعيد السياسة الدولية بهدف احتواء البلدان والشعوبتحت مظلة عالمية واحدة، إطار عمل يسمح لهذه العلاقات أن تقوى، والشراكات أن تنمو، لما تستهدفه في أصل نشأتها من بناء روح الشراكةوتقوية جوانب التناغم بين الأمم لتتشارك قيادات العالم وشعوبه والسياسيون والأكاديميون والحقوقيون ورجال المال والأعمال وعلماء الدينوالأطباء وغيرهم في رسم خريطة حوار الإنسان وتعزيز بنيته المعرفية والفكرية، في إطار توليد بدائل الحل وسيناريوهات العمل في التعاملمع أحداث العالم، وتعزيز بناء الخبرات والاستفادة من المشترك الإنساني، وتعميق دور العلاقات والتعاون الدولي في تحقيق السلم والتفاهموتعزيز فرص أكبر للحوار والشراكة من أجل السلام والتنمية، وعلى الرغم من أن أبواب الإيجابية مفتوحة، وثمرة التفاؤل يانعة، إلا أنها تحتاجإلى من يدخلها بسلام ويقطفها بذوق، وينظر لقيمتها باحترام، فإن فرص التصالح الإنساني في ظل ثورة التقنية والعوالم المفتوحة والإدارةالذكية، باتت أقرب من أي وقت مضى، ولكنها تفتقر للمخلصين من أجل تحقيق سلام دائم واستقرار تنعم بها الأوطان والشعوب، إنها محطةلفتح منصَّات أكبر للتعايش بين الثقافات، وتأطير منهجيات أعمق للمحافظة على الخصوصيات والهُويات، في مواجهة تحديات الإرهابوالفكر السلبي ونفوق القِيَم والأخلاق والمبادئ من السياسات والاقتصاديات والاتفاقيات، وتحقيق التزام أخلاقي حول قضايا المناخ والبيئةوالاحتباس الحراري والقضايا الاجتماعية كالجريمة والمخدرات والإيدز والفقر والأمراض الوبائية المختلفة، وما تتطلبه من توظيف الابتكاروالتقدم العلمي في تدارس آلية واضحة تُعظِّم فرص الاستفادة من المشترك الإنساني في معالجة قضايا العالم ومشكلاته، وأن يعيد العالمتقييم ممارساته وتصحيح أهدافه ومراجعة حساباته في سياساته الاقتصادية وما نتج عنها من تضخم وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشةوالاحتكار والرشوة والجرائم الإلكترونية وغسيل الأموال والتحايل والابتزاز، لتعكس في محتواها أزمة أخلاقية وتصدعات في القيم ونفوق فيمبادئ السياسة الدولية المهيِّجة للغة المصالح الشخصية، والعاكسة لحالة الازدواجية والفردانية والسلطوية في ظل ارتفاع درجة الحساسيةالسياسية، وزيادة قوة الضغط الاقتصادي التي باتت تفرض أجندتها الشخصية عبر سياسات القروض المقدمة في محاولة منها لتحجيمالتثمير الذاتي في الفرص، فإن شعوب العالم اليوم متعطشة للروح الإيجابية التي تتعايش فيها أحلام الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء،واعتمادها إدارة أخلاقية قيمية متوازنة قائمة على تأصيل قِيَم الاحترام بين الشعوب وتقدير الخصوصيات، وتوجيه الإعلام وشبكات التواصلالاجتماعي ومراكز البحث والممارسة التعليمية والخطاب السياسي والديني نحو تعزيز المؤتلف الإنساني والمشترك القيمي والأخلاقي.
وإذا كان لنا أن نرجو أن يكون عام 2023 عاما أكثر ازدهارا وسلاما وتقدما وإشراقا للعالم أجمع، فإننا نقرأ في السياسة المتوازنة لبلادناالغالية سلطنة عُمان ومواقفها الواضحة القائمة على مبادئ الحوار والسلام والتنمية والتعايش وعدم التدخل في شؤون الغير وحق الشعوبفي تقرير المصير وسعيها المستمر في معالجة قضايا العالم بحكمة ودبلوماسية وإنسانية راقية، في تغليب للغة الحوار المتكافئ ومدٍّ لجسورالتواصل والثقة والاحترام، محطَّة تحوُّل في مسيرة الإنسان وصناعة الأوطان، ونموذجا حضاريا يعكس صدق التوجُّه وثبات المنهج وقوةالإرادة وحس المسؤولية ويرسم عاطر النطق السامي لجلالة السُّلطان المعظم هذا السلوك الحضاري لعُمان التأريخ والإنسان والدولة بقوله: “لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرِّف، كیانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها،تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عُمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم،وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية”. إنهادعوة نحو استلهام القِيَم والمبادئ والأخلاقيات في صناعة أبجديات الحياة مع النفس والآخر، ومساحة أمان لحضور الإيجابية الفاعل فيالمواقف والأحداث التي يمر بها العالم والمنطقة، ويشاهدها المواطن بأُم عينيه واقعا في ما تعيشه بعض البلدان والشعوب من إرهاصاتالسلبية وضياع المبادئ، وغياب الهُوية ونفوق القِيَم، لتبقى إيجابيتنا هُويتنا التي ندخل بها عامنا الجديد، نصنع بها ذواتنا ونحافظ بها علىأصالتنا وشخصيتنا العُمانية وسلوكنا في هذا العالم الواسع، وتقديرنا لذواتنا واحترامنا للآخر، لتبقى شواهد حية في ذاكرة الأيام وفكرالأجيال القادمة من أجل من الحياة والامل والحب والفرح والسلام والإنسانية، ويبقى السؤال: هل سعيد العالم حساباته فيما كسبته أياديهفي عام 2022 ويترفع عن أنانيته وغطرسته لعام جديد يمتلك فيه الجرأة لإيقاف مهزلة تدمير إنجازاته الراقية وحضارته الواعدة؟
د. رجب بن علي العويسي