لست من متابعي كرة القدم، ولم أشاهد مباراة واحدة في حياتي، ولطالما عددت مثل تلك المباريات معادل المبارزات التي كان يقيمها قياصرةالروم في الملاعب العامة لإلهاء الشعب عن قضاياه الحقيقية وتهميشه سياسياً، ولطالما عددت التعصب الأعمى لفرق كرة قدم تمثل دولاًاستعمارية، أو لفرقٍ لا تمت إلينا كعربٍ بصلة، شكلاً من أشكال الهستيريا الجماعية التي تتبدد فيها العقول والقلوب والطاقات والمشاعروالأنظار في أنفاق تغريب الهوية القومية والحضارية.
أما حين يتحول مثل ذلك التعصب الأعمى إلى دعم فرق كرة قدم تمثل أطيافاً من المجتمع العربي، أي حين يتخذ صورة تعبئة طائفية أو عرقيةأو مناطقية أو قُطرية تعمق انقساماتنا الداخلية وترش الملح على الجروح الغائرة، فإنه يعزز مشروع تفكيك المجتمع العربي فيما يؤمّن منافذآمنة سياسياً بعيداً عن القوى المهيمنة على الوطن العربي أقطاراً وثروات.
لا يتعلق الحديث هنا بممارسة الرياضة، سواء كانت رياضة كرة قدم أم غيرها، ولا سيما ألعاب القوى والرياضات القتالية، فذلك لا نقاش فيأهميته وفائدته وجدواه وضرورة تشجيعه، ولا يتعلق بالمباريات الودية على المستوى المحلي التي تعزز الانصهار الاجتماعي، كما أنه لا يتعلقبتطوير المهارات الرياضية والتنافس فيها كأحد أبعاد تحقيق الإنسان لذاته الفردية والجماعية.
تكمن المشكلة، على العكس تماماً، في عدم ممارسة الرياضة، وفي تحول المرء من مشارك إلى “مشاهد”، وفي تحولنا الجمعي من شعبٍفاعلٍ مدركٍ لذاته، وواعٍ لقضاياه، إلى جموعٍ تحركها غريزة القطيع ممسوخٌ وعيها، أي تحولنا من جماهير إلى “جمهور” يشجع فريقاً ما،تتزايد الكارثة حجماً حين يكون فريقاً يمثل دولةً استعمارية، أو لوناً طائفياً أو مناطقياً محدداً في مواجهة الطوائف أو المناطق العربيةالأخرى.
ذلك الإعجاب بالأداء الكروي يتحول، في المحصلة، إلى تصفيقٍ لما يمثله المؤدون سياسياً، وإلى تبنٍ لعلمهم والتفاخر برفعه والتلويح به، وهذاخطيرٌ جداً، من المنظور القومي، لأنه مدخلٌ للاستلاب من بوابة إيهام المشاهد أن عليه أن يكون “محايداً سياسياً” كي يكون “محللاًرياضياً” جيداً، كأن رأيه يؤثر قيد أنملة على نتائج تلك المباريات أو على آراء حكامها، وكأن المنظومة الرياضية حول العالم تعمل بصورةٍمنفصلةٍ عن السياسة (مثال حظرُ الغرب اللاعبين الروس من المنافسات الدولية نموذجاً)، وعن التجارة (مثال إعلان رئيس الاتحاد الدولي لكرةالقدم أن مونديال 2022 عاد بإيرادات تبلغ 7.5 مليار دولار، بزيادة مليار دولار عن إيرادات مونديال 2018 في موسكو).
أما مشهد انسياق الملايين حول العالم ورفعها لأعلام دولٍ استعمرتها، أو لا تمت إليها بصلة، فقيمةٌ سياسية بذاتها، تصب في جيب منظومةالهيمنة الخارجية، وهو أمرٌ معيب بصراحة، لأنه عنوانٌ لفقدان الهوية والانتماء في أتون صراعٍ عالمي ضد الهيمنة الغربية من جهة، وفي أتونصراعٍ وجودي تخوضه الأمة العربية دفاعاً عن وجودها وهويتها من جهةٍ أخرى.
ومن يزعم أنه يشجع فريقاً ما بسبب حسن أدائه رياضياً فحسب، بغض النظر عما يمثله ذلك الفريق سياسياً أو اجتماعياً، لن يجد حرجاًفي دعم فريق “إسرائيلي” مثلاً، إن أعجبه أداؤه، أو فريق “حلف ناتو” (لو افترضنا منافسة دولية لفئات من غير الدول)، أو فريق أي قوةمحتلة في أي مكان وزمان. كما أن مثل هذا المنظور “الفني” لن يستطيع أن يميز أيضاً، على الصعيد الداخلي العربي، بين منافساترياضية أو غير رياضية تمثل انصهاراً اجتماعياً وبين ما يمثل انقساماً اجتماعياً. ويٌفترض أن الواحد منا، وأننا ككتلة، لو خيّرنا بين فريقعربي موحد صاعد ضعيف الإمكانات حالياً، وبين فريق يمثل دولة استعمارية تديره، بما تملكه من إرثٍ في الإدارة والتنظيم وخوض المعارك،كأحد معالم عظمتها عالمياً، ويتمتع بموارد هائلة، ويتعاقد تالياً مع أفضل اللاعبين والمدربين حول العالم، أن ننحاز تلقائياً إلى الفريق الأولقولاً واحداً.
ومن المؤكد أننا لو تمكّنا من تشكيل فريق، في أي رياضة، يستند إلى موارد الأمة العربية ككل، وإلى مهارات نخبة شبابها وشاباتها، أنهسيكتسح الميادين كسيفٍ بتار، لأن التميّز الرياضي، كما نلاحظ عالمياً، من المنافسات الدولية إلى الأولمبياد، ليس ببعيدٍ عن التميزالحضاري للأمم، فهو أحد معالم المشروع النهضوي، وليس العائق هنا في الكفاءة الفردية للمواطن العربي، ولا حتى في قلة المال، بل فيغياب مشروع للنهوض القومي العربي، بدلالة عدد العرب المتميزين من رياضيين وعلماء وباحثين ومهنيين إلخ… في سياقات غربية.
حول تفاعل الشارع العربي مع المنتخب المغربي في كأس العالم 2022
شهدت مباريات كأس العالم 2022 تفاعلاً شعبياً عربياً عارماً مع المنتخب المغربي إبان تقدمه المظفر إلى مباريات نصف النهائي، وصولاًإلى منازلته الكروية مع المنتخب الفرنسي. ولم يعد بوسع أي مراقب سياسي (لا رياضي فحسب) ألا يلاحظ بروز حس قومي عربي واضحفرض وجوده بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشارع العربي من الوطن العربي إلى المهاجر. ويمثل بروز مثل ذلك الحس، فيزمن العولمة والهويات القاتلة، وفي عز تراجع المد القومي، ظاهرةً سياسية ذات قيمة قومية عربية، وتجلت تلك الظاهرة فيما يلي:
أ – تحول علم المغرب إلى رمز قومي عربي، لأننا لم نلحظ ظاهرة الرفع المكثف للعلم المغربي في البلدان غير العربية ذات الغالبية المسلمة.
ب – تحول علم فلسطين، بما يمثله من بعد وطني تحرري مناهض للاحتلال الصهـ.ـيـ.ـوني، إلى رمز قومي عربي مجدداً.
ج – تبني المنتخب المغربي لعلم فلسطين.
د – تبني الفلسطينيين للعلم المغربي.
ه – بروز إجماع تلقائي بين مشجعي الفريق المغربي على ربط العروبة بمن يخوض معركتها في الميدان، ولو كان ذلك الميدان رياضياًفحسب، وأن فلسطين هي قضية العرب الأولى، وأن العلاقة بين العروبة والإسلام هي علاقة انسجام ووئام، لا علاقة نفي وتضاد.
في السياق، نلاحظ أن تلك الظاهرة برزت عكس التيار، ويسعى الطرف الأمريكي-الصهـ.ـيـ.ـوني وأذنابه إلى تعميق وجود التيارات التاليةفي الشارع العربي:
أ – تيار التطبيع، ولا سيما التطبيع المتصاعد للنظام المغربي الذي يتعامل على أن فريق “أسود الأطلس” يمثله، وتيار التطبيع “الإبراهيمي”عموماً وما سبقه من تطبيع على أرضية اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.
ب – تيار العولمة، ولا سيما الجهد المنهجي المبذول من طرف التيار الليبرالي ممثلاً بكتابه ورموزه والجمعيات غير الحكومية الممولة غربياً لنبذالانتماء الوطني والقومي والالتفاف حول هوية “الإنسان” الفرد المعولم والمنبت عن أي انتماء قومي أو حضاري.
ج – تيار تسخيف الانتماء العربي لمصلحة الهويات المخترقة، وهذا مهمٌ جداً في السياق المغاربي تحديداً في مواجهة دعاة الفرنسة والتمزيغومناهضة العروبة لغةً وهوية، وكان من المهم هنا خصوصاً أن يرى المغاربة مدى احتضان العرب لعلمهم من المحيط إلى الخليج ومدى فخرالعرب بالمغرب من دون توقف عند مسألة العرب والأمازيغ.
د – تيار “الشرق أوسطية” الذي يمثل تقاطعاً بين تياري التطبيع والعولمة، والذي يمحو هوية الوطن العربي لتعويم “إسرائيل” في قلبه كدولة”طبيعية”، وتيار “المشرقية” الذي لا يقل خطورة، لأنه يتلفح بعباءة المقـ.ـاومة، في الوقت الذي يهدف إلى تذويب العروبة والعرب وإلحاقهمبإطارٍ إسلاموي عثماني أو تركي-إيراني.
ولا نحمّل الظاهرة العروبية التي برزت في مباريات كأس العالم أكثر مما تحتمله، فهي ليست حركة وحدة وتحرير ونهضة، ولا حركة جديدةللنهوض القومي، ولا لفك الحصار عن سورية واليمن، ولا لتحرير فلسطين، إنما مجرد مؤشر لا يمكن إنكاره على أن في الأمة العربية نبضحياة، وعلى أن الحس القومي العربي لم يمت، وعلى أن بوصلة الشعب العربي لم تضل، وأنها، عندما يتاح لها أن تتجلى بلا عوائق، تبقى:العروبة-فلسطين-تبني من يخوض معركة العروبة منتصراً ومهزوماً.
هو موقفٌ شعبيٌ عربيٌ إذاً ظهر في سياق مباريات كأس العالم 2022، ولا نصِفُه بأكثر من ذلك، ولكنه موقفٌ مهم، لأنه يكشف عما في روحالأمة العربية، ولأنه يحيي الأمل باستعادة ما كان وما يمكن أن يعود تحت شروطٍ أخرى مختلفة عن ظروف الواقع العربي الراهن. ومثل هذالا يسعُ أي قومي عربي حقيقي أن يتجاهله، سواءٌ أتى على خلفية مباريات رياضية أو أغنية تحرك المشاعر القومية أو غير ذلك… أو فيموقف حارس مرمى المنتخب المغربي، ياسين بونو، حين رد على الصحفيين الأجانب الذين غضبوا لأنه أصر على التحدث باللغة العربية، ولميرد عليهم باللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية التي يتقنها: “ليست مشكلتي أنكم لا تتحدثون العربية ولم تحضروا مترجمين”.
لماذا لم يبرز الحس القومي في مواجهة التحديات الحقيقية في المشهد العربي؟
وكم من قائل: لماذا لم نرَ مثل هذا الحس القومي في الشارع العربي في فلسطين وغيرها إذاً، ولماذا لم نره في حصار العراق وغزوه واحتلاله،وخلال عدوان الناتو على ليبيا عام 2011، وخلال السنوات الـ11 الفائتة في سورية، إلخ…؟
والجواب هو: ما ظهر هو الموقف الشعبي العربي، محمولاً على ظهر مباريات كروية، عندما يكون التعبير عنه غير محفوفٍ بالمخاطر. لكنْتخيلوا لو كان ثمن رفع علم فلسطين مثلاً هو الاعتقال أو الطرد من الملعب بالنسبة للاعبين، أو الطرد من قطر والوضع على القوائم السوداء،وربما الضرب والسجن وفقدان الوظيفة إلخ… سيكون التعبير عن الموقف مختلفاً حينئذٍ، لأنه سيكون مكلفاً، وقس على ذلك بالنسبة للقضاياالعربية الأخرى. فالمعارك المكلفة لها حسابات أخرى، وتحتاج إلى أدوات مختلفة حرصت الأنظمة العربية على ألا تتركها متوفرة في الواقعالعربي اليوم، وحرص الغرب على ألا يتركها متوفرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي يسيطر عليها.
كان للنظام القطري مصلحة مباشرة في هذه الحالة بالذات في ترك مظاهر التعبير عن هذه المشاعر تتجلى ليغطي على الاختراق التطبيعيالكبير الذي سمح به والمتمثل بـ:
أ – السماح لآلاف “الإسرائيليين” أن يأتوا إلى قطر لحضور مباريات كأس العالم.
ب – السماح لوسائل الإعلام “الإسرائيلية” بالتحرك كيفما تشاء لتغطية تلك المباريات.
ج – السماح برحلات طيران مباشرة بين الكيان الصهـ.ـيـ.ـوني وقطر.
د – السماح بمكتب تمثيل “إسرائيلي” في قطر لإدارة شؤون المستعمرين المستوطنين القادمين إليها.
يجب أن ننتبه أيضاً إلى مسألة مهمة وهي أن “المعركة” هنا، أي في حالة خوض “أسود الأطلس” لمباريات كأس العالم:
أ – كانت واضحة، فهناك ميدان واضح (ملعب كرة القدم)، وفريق واضح (أسود الأطلس).
ب – كانت مباشرة، فهناك حدود زمانية محددة للمواجهة: أي أنها مباراة يخوضها الفريق المغربي ضمن سقف زمني محدد ولسوف تظهرنتائجها مباشرة في الزمان والمكان الراهنين.
أما في القضايا العربية الأخرى، فإن الحدود المكانية والزمانية غير واضحة، والنتائج ليست مباشرة، فلو دعونا مثلاً إلى تأسيس حركةجديدة للنهوض القومي فإن النتائج تبدو بعيدة المنال، وظروف النضال وشروطه قد تبدو ضبابية وغير واضحة المعالم، ولذلك لا يتجاوب معمثل تلك الدعوات إلا المواطنون العرب الطليعيون. معركة قناة السويس عام 1956، على سبيل المثال، كانت معركةً واضحةً مكانياً وزمانياًومحددة المعالم.
أضف إلى ذلك أن حجم التشويش والتشويه المعادي الذي يشوب القضايا العربية عموماً، والتناقضات العربية الداخلية التي تقف عائقاً فيطريق التصدي لها، وانفلاش الحروب اليوم، في جيلها الرابع، في مديات متداخلة غير واضحة المعالم،سياسية-عسكرية-اقتصادية-إعلامية-ثقافية-إلكترونية، لم يترك للوضوح مطرحاً فيها، وبالتالي صار تمييز معالمها يحتاج إلى قدرٍ لا بأسبه من دقة البوصلة وتطور الوعي.
ما حدث في التفاعل الشعبي العربي مع “أسود الأطلس”، بالمقابل، هو أن الشعار العروبي والفلسطيني والداعم لمن يخوض المواجهة قفزمن فوق كل تلك الظروف والتناقضات وحلق من فوق مساحاتها الملتبسة، ليعبر عن حسٍ قوميٍ عروبيٍ فحسب، ولهذا فإن الظاهرة، كتعبيرجماهيريٍ سياسيٍ عن موقف مبدئي، لم يكن مطلوباً منها أن تتحول إلى حركة تحرير شعبية عربية أو حركة عربية واحدة أو مد قومي عارميتحول إلى قوة سياسية في المشهد العربي، لأن لذلك شروطه التي لما تتحقق بعد، ولكنه يرسل رسالة إلى الطليعة بأن الحاضنة الجماهيريةموجودة، ورسالةً لكل من يهمه الأمر، من عدوٍ أو صديق، أو قومي عروبي يائس، أن للأمة العربية قلباً ينبض.
ثم أن هناك ظرفاً موضوعياً، أو حكمةً ربانيةً إن شئتم، ساعد أو ساعدت على انبثاق الظاهرة الشعبية العربية المتفاعلة قومياً مع “أسودالأطلس”، وهي أن الفرصة لم تتح للعرب كي ينقسموا لو تأهل أكثر من فريق عربي لكأس العالم 2022، وكانت فرق قطر والسعودية وتونسقد تأهلت أيضاً، لكنها لم تصل إلى نصف النهائي. ولو تواجه فريقان عربيان في نصف النهائي أو النهائي لحدث ما لا تحمد عقباه علىالأرجح نتيجة طبيعتنا الانفعالية وقابليتنا للتشرذم، وهو أحد التحديات الكبرى التي لا بد أن تتعامل معها أي حركة قومية صاعدة في وطنناالعربي اليوم.
باختصار، أظهرت ظاهرة التفاعل الشعبي العربي مع المنتخب المغربي في مباريات كأس العالم 2022 أن هناك حساً قومياً حقيقياً، ولاننفي وجود تيارات أخرى نقيضة من حوله، وأن هناك أملاً للعمل القومي، ولكن ما نفتقد إليه هو المشروع القومي العربي الذي يتصدىلتحديات الواقع العربي هنا والآن في القرن الواحد والعشرين.
إبراهيم علوش – طلقة تنوير 85