وجَّه حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أثناء ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء الموقَّر في الثالث منيناير من عام 2023، الجهاز الإداري للدولة باتخاذ الإجراءات لتهيئة البيئة المناسبة التي تساعد المواطنين على الالتحاق بكافَّة الأعمال،وتوعية الشباب بفلسفة العمل وثقافته السائدة عالميا، وتشجيعه على خوض مجالات الأعمال الحرة.
إن قراءة سريعة لعاطر التوجيه السَّامي لجلالة السُّلطان المعظم، يحمل الكثير من الدلالات والموجِّهات حول الدَّور المعقود على المورد البَشريورأس المال الاجتماعي في تحقيق أولويات رؤية عُمان 2040، ودور الحكومة في تقديم التسهيلات اللازمة له في سبيل الالتحاق بكافَّةالأعمال التنموية المنتجة، وخوض مجالات العمل الحر، لذلك جاءت توجيهات جلالة السُّلطان المعظم مستوعبة ومؤطرة لكل الجهود الوطنيةالتي قامت بها الحكومة والمحطات التي ارتبطت بإقرار جلالته العمل برؤية عُمان 2040، والجهود الأخرى التي سبقت تنفيذ الرؤية في ظلالإجراءات التسهيلية والتحفيزية التي اتخذتها سلطنة عُمان في إطار خطة التوازن المالي وخطة التحفيز الاقتصادي، لمواجهة تأثيرات جائحةكورونا (كوفيد19) على الاقتصاد العُماني وسوق العمل والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ورواد ورائدات الأعمال، وهي تستشرف العمل علىالاستفادة من كل الأطر والبرامج والتقييمات والمعالجات والتوجهات الوطنية ومن بينها نتائج مختبرات البرنامج الوطني للتشغيل الهادف إلىإيجاد حلول مستدامة للتشغيل وتطوير بيئة العمل بسلطنة عُمان أو تلك التي تم تنفيذها في مراحل سابقة، وأفضل الممارسات والنماذجوالمبادرات التي كان لها حضورها في رسم صورة إيجابية لدى الكثير من روَّاد ورائدات الأعمال، وأثبتت كفاءتها وإنتاجيتها فيما يتعلقبتعزيز وعي الشباب العُماني بثقافة العمل، وتشجيعه نحو خوض الأعمال الحرة، وتوسيع دائرة حضوره في المؤسسات الصغيرة والمتوسطةلتكون لبنةً أساسية في منظومة الاقتصاد الوطني، هذا الأمر يأتي في ظل ما أفصحت عنه الجهود الوطنية بإعادة هيكلة الجهاز الإداريللدولة من مؤشرات على المدى البعيد، بأن قدرة القطاع الحكومي على استيعاب كافة مخرجات مؤسسات التعليم من الصعوبة بمكان، وفيالمقابل فإن التوقعات المرتبطة بهاجس تسريح العُمانيين من القطاع الخاص بما تمثله من تداعيات سلبية على حياة المواطن الأسريةوالاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والنفسية والأمنية، تلقي بظلالها على ثقة المواطن في العمل بالقطاع الخاص.
من هنا فإن معطيات التوظيف ومنغصات التسريح، تضع الشباب العُماني اليوم أمام مرحلة جديدة وخيارات أوسع وبدائل أنضج، تفتح فيهاأرحب الآفاق نحو خوض الشباب العُماني في مجالات العمل الحر، وهو عالم اقتصادي واسع لم يعُدْ فيه العمل الحر يحمل تلك الصورةالضيقة من الأعمال الحرفية أو المهنية المعتادة، بل أصبح يمتلك صبغة عالمية تتجاوز حدود الزمان والمكان، إلى عالم كوني واسع في ظلموجهات التقنيات الحديثة والابتكار والذكاء الاصطناعي والتسويق الإلكتروني والمهارات الرقمية والمهارات الناعمة، وتعظيم دور الشركاتالطلابية وخلق توأمة بين المدارس والجامعات والشركات بما من شأنه تسهيل تبادل المعرفة المهنية وترقية حضورها وتسهيل حصول المواطنعلى التدريب المتناسب، ويبقى عالم العمل الحر في ظل اتساع خياراته وتنوع بدائله وعالميته ووجود التشريعات وأنظمة الحماية الاجتماعيةالتي تحافظ على مقدراته وحقوق العالمين فيه وتحفظ موارده، بحاجة إلى بيئة عمل جاذبة ونطاق اقتصادي نموذج يؤمن بالتنافسية وإنتاجالقدرات وروح التغيير وحُسن الإدارة وحِس المهنة والتسويق الذكي، الأمر الذي يتناغم مع فكر الشباب وقناعاته ويتفاعل مع صورة العملالذي يريده، بعيدا عن القيود الوظيفية التي تعرقل فيه مساحة الإبداع والانطلاقة وتقلل حافز الرغبة نحو التفكير في توليد أنشطة اقتصاديةواعدة.
وبالتالي فإن معادلة القوة في تحقيق مسار العمل الحر كثقافة وسلوك للمواطن وإطار ونهج وطني يتجه إليه الشباب العُماني باعتباره خيارااقتصاديا ناجحا تضمن الدولة له الرعاية والدعم والاهتمام والمتابعة وتوفر له التشريعات والضمانات وأنظمة الحماية، ويتمتع القائمين عليهوالمشمولين تحته بأنظمة حماية اجتماعية واقتصادية ومادية ومعنوية، تبرز من خلال مكونين أساسيين، أولهما ينطلق من البناء الفكريوالمفاهيمي والتسويقي والتأصيل الفلسفي والتطبيقي لثقافة العمل الحر في بيئات التعليم ومراكز التدريب والمؤسسات والشركات بالقطاعينالحكومي والخاص، وتعزيز القدرات الوطنية وتأصيل مهارات العمل الحر وثقافته وفلسفته وأطره واستراتيجياته وبرامجه وخياراته فيشخصية المتعلم، بحيث يؤسس ذلك إلى قياس مدى التقدم الحاصل في تنفيذ التوجيهات السامية لجلالة السُّلطان المعظم ذات الصلة بهذاالمسار، والمتعلقة بالمواءمة وسوق العمل وإنتاج المتعلم اقتصاديا في إشارة إلى ما وجَّه إليه جلالته في الخامس عشر من يونيو لعام 2021،مجلس الوزراء بـ”ضرورة الإسراع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضرورية لتطبيق التعليم التقني والمهني فيالتعليم ما بعد الأساسي”، الأمر الذي يؤكد على أن بداية أي جهد قادم في تعظيم ثقافة العمل الحر في فقه الشباب وقناعاته وأولوياته،يجب أن تبدأ من التعليم وتنطلق بواعثها من الخطة الدراسية والمناهج التعليمية والأنشطة والبرامج، بحيث تتجه نحو تعزيز الثقافةالاقتصادية المتوازنة في المتعلم، وهو أمر يتطلب الحاجة إلى تبنِّي سياسة وطنية في تنويع المسارات في التعليم المدرسي وإيجاد مساقاتتدريسية متخصصة في الخطة الدراسية، لا يكفي فيها تشريب المناهج بالمفاهيم والمصطلحات الاقتصادية؛ بل بإيجاد مساق تدريسييعطي جانب التطبيقات العملية ومحاكاة الواقع المهني حضورا واسع، بالإضافة إلى المفاهيم المتعلقة بريادة الأعمال والعمل الحر ومتطلباته،هذا الأمر يأخذ في الحسبان أيضا تأصيل الوعي الاجتماعي وتوسيع الخيارات المهنية في نوعية الأنشطة التي يمكن أن تمارسها مخرجاتالتعليم في ظل قياس مستمر للعرض والطلب عليها في السنوات القادمة، وتصحيح أو إعادة تحديث الوعي الاجتماعي المهني والصورةالنمطية أو السلبية التي ما زالت تراوح العمل الحر، والنظرة الضيقة التي ما زالت تقرأ الوظيفة الحكومية، ودعوة مؤسسات التعليم العاليعبر ما تطرحه من تخصصات إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة حول مخرجات العمل الاجتماعي وإعادة إنتاجها في ظل إدماج المهاراتالناعمة والمهارات التقنية في تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية، ذلك أن تعزيز المعرفة الاقتصادية لدى المتعلمين وتعريفهم بوظائفالمستقبل، وثقافة العمل الحر، وتمكينهم من إتقان مهارة إدارة المشروعات الاحترافية، أحد أهم المرتكزات التي يمكن من خلالها تعزيز ثقافةالعمل وتوجيه الشباب نحو خوض مجالات العمل الحر.
على أن المكوِّن الآخر من المعادلة يرتبط بما يمكن أن تتخذه الحكومة من التسريع في الإجراءات المرتبطة بنمو ثقافة العمل الحر في عقيدةالشباب من مخرجات التعليم، وعبر اتخاذ خطوات جادة نحو تبسيط الإجراءات، وسرعة إصدار التراخيص، والتوسع في الخيارات والبدائلالمبتكرة التي تتناغم مع اهتمامات الشباب ويرتكز عليها سوق المستقبل والعرض والطلب المحلي والعالمي، بالإضافة إلى تبنِّي سياسات أكثراستدامة وأقدر على صناعة التغيير في مشاريع الشباب من خلال مزيد من التحفيز والدعم المالي المتناغم مع قيمة المشروع، والحدِّ منالإجراءات المرتبطة بمراجعات المؤسسات الخدمية وعبر تفعيل أكثر دقة واحترافية للبرامج والتطبيقات الإلكترونية، والتأكيد على أهمية وجودآليات واضحة تقرن القروض والدعم المالي بالتدريب والتأهيل وصقل مهارات الشباب؛ بمعنى أنه لا يكفي فقط منح الشباب المتَّجه للخوضفي العمل الحر أو روَّاد الأعمال الدعم المالي للانخراط في العمل الحر، بل أيضا أن تقدم جهة التمويل البرامج التدريبية والتأهيليةالمتخصصة التي تضمن قدرة الشباب المتجهين للعمل الحر على التوجيه الكفء لهذه الموارد والاستثمار الصحيح والفاعل لها، للحدِّ مناحتمالية تأثره بمخاطر الإفلاس أو ضعف إدارة أو التسويق للمشروع من جهة، وتهيئته النفسية والمهنية في أن يمارس دوره كرائد أعمال أوصاحب مشروع، فبعد أن يكون قد امتلك المعارف الأساسية لإدارة المشروع يأتي دور التدريب المتخصص على رأس العمل في صقل الذاتفي التعامل مع المواقف، وآلية التصرف فيها وكيفية التعامل معها وكيفية التسويق لمنتجه أو العمل الحر الذي يمارسه، مع ما يتطلبه ذلك منإعادة إنتاج التشريعات والقوانين والأطر والقواعد التنظيمية والضبطية التي تحفظ حقوق المواطن صاحب العمل الحر، وتفعيل القوانينالصادرة حول الاحتكار والإفلاس والشراكة، والتكاملية بين القطاعين الحكومي والخاص في تقديم التسهيلات اللازمة، بالإضافة إلىتسهيلات في إجراءات الاستيراد والتصدير وخفض الرسوم الحكومية والجمركية ذات الصلة. ويبقى طريقة وجدية التعاطي الذكي معالموضوع، واقترابه من شغف الشباب واستيعابه لكل المخاطر، وتوفير أنظمة الحماية الاجتماعية للشباب في العمل الحر وروَّاد الأعمال، وخلقفضاءات تسويقية داعمة، والحدِّ من العمليات المتكررة المرهقة التي تضع الشباب في عائق المراجعات المستمرة، وضمان أن تسهم التقنياتوالبرامج والتطبيقات الحكومية في تبسيط الإجراءات وإنجاز معاملات التراخيص إلكترونيا دون الحاجة إلى مراجعة الدوائر الحكوميةبالمحافظات التي يرغب صاحب العمل أو رائد الأعمال تنفيذ مشروعه فيها.
أخيرا، يبقى التساؤل: هل نحن جادون فعلا في جعل العمل الحر خيار الشباب الأكبر وتوجههم الأفضل وطريقهم الأسلم الذي يصنع فيهم مدد الرغبة والحافز والاهتمام والتنافس؟ إن قادم الوقت كفيل برسم المسار وتحديد بوصلة التوجُّه، وقياس إلى أين نحن ذاهبون؟
د.رجب بن علي العويسي