أعادنا الصديق خميس بين عبيد القطيطي إلى الزمن الجميل، بتلك اللقاءات المنتقاة التي يُجريها مع نجوم الكرة الخليجية، الذين تركوا بصمات جميلة في الذاكرة الخليجية والعربية، والتي ينشرها أسبوعيًا في صحيفة “أصداء” الإلكترونية؛ وهي لقاءاتٌ تُوثّق للرياضة العمانية والخليجية في فترة مهمة هي فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لم تكن الفضائياتُ قد انتشرت بعد، ولم يكن أمام الجماهير إلا متابعة الدوريات المحلية وكذلك بطولة كأس الخليج، التي اعتُبرت في فترة ما بمثابة كأس عالم مصغر بالنسبة لأبناء المنطقة. وعندما تكتمل هذه اللقاءات وتصْدرُ في كتاب، من المؤمل أن يكون له صدى جميل؛ فالنخبةُ التي اختارها خميس تألقت وأثرْت الساحة الرياضية في الخليج. ولا تكمن الأهمية في تذكير الجماهير الرياضية الخليجية بهذه الأساطير وما قدمته لمنتخباتها في مجال لعبة كرة القدم فقط؛ وإنما في توثيق تلك التجربة، وأهمُّ من ذلك هو تكريم أولئك اللاعبين بذكرهم والالتفات إليهم وهم أحياء. فقد جرت العادة أن يكون التكريم غالبًا بمراثي بعد وفاة الشخص، كما قال الروائي الفرنسي بلزاك: “كلمة مدح واحدة في حياتي، أحبّ إليّ من ألف كلمة بعد موتي”، وقد وصل الأمر أني قرأتُ في الفيسبوك مقالًا لأحد الكتّاب يمتدح شخصًا آخر ويذكر محاسنه، فإذا الناس يترحمون عليه، ظانين أنه قد تُوفي.
من اللقاءات الجميلة التي أجراها الصديق خميس القطيطي، كان اللقاء مع اللاعب العماني الخلوق الكابتن يونس أمان، أحد نجوم الكرة الخليجية، إذ اتسم اللقاء بالذكريات الجميلة ليونس وللكرة العمانية والخليجية، وما ميّزه أنّ يونس صاحب ذاكرة قوية، ويُعتبرُ مرجعًا رياضيًا الآن بما يملكه من أرشيف رياضي قلّ أن نجده في بعض صحفنا ومؤسساتنا الرياضية بما فيها الأندية نفسها، فمن يبحث عن أيّ معلومة تاريخية رياضية، فعليه بيونس أمان.
أذكر أني في عام 1986 كنتُ في الكويت في مهمة تبادل المذيعين، وكان ذلك عقب بطولة أبطال مجلس التعاون الخليجي الرابعة للأندية، التي أقيمت في الرياض، وفاز فيها نادي ظفار على العربي الكويتي بأربعة أهداف مقابل هدفين؛ سجل يونس هدفين، ورشيد جابر هدفين، فكنتُ كثيرًا ما أواجَه من الزملاء في الكويت بما يشبه الصدمة عن نادي ظفار وأسباب فوز ظفار على نادي العربي الكويتي المدجج بالنجوم، وكان الحديث يدور عن يونس أمان وأسرع هدف في البطولة، الذي سجله أمام العربي. وعن تلك المباراة يقول يونس أمان: “الحقيقة لا أستطيع وصف هذه البطولة لأنها ليست بطولة إنما عرس كروي خليجي للأندية فاق التوقعات والتكهنات، ولا زال صداها إلى اليوم رغم مرور السنين، وكانت مباراتنا الأولى مع نجوم العربي بطل الدورة الأولى المدجج بالنجوم من أبطال آسيا والمشاركين في كأس العالم ١٩٨٢م وأولمبياد موسكو. والترشيحاتُ كلها كانت تصبّ لصالح العربي، ولكن أبناء الزعيم قلبوا التوقعات وفزنا على العربي الكويتي بأربعة أهداف مقابل هدفين، وكانت أكبر المفاجآت حسب الإعلام والصحافة، وكان هذا الفوز أول فوز عُماني يسجل على الكرة الكويتية”.
في حواره، تناول الكابتن يونس أمان ذكرياته مع كرة القدم العمانية والخليجية منذ بداية الثمانينيات، وكذلك مشاركته في بداية بطولات الأندية الخليجية، حيث كان له نصيبٌ من التألق في بطولات كأس الخليج، مرورًا بتاريخه الكروي مع ناديه ظفار قبل أن ينتقل إلى نادي مرباط لاعبًا ثم مدربًا. كنتُ حريصًا ألا أفوّت حرفًا واحدًا ممّا قاله، لأنّ في حديثه بعض الدروس، فيذكرُ مثلًا نقطة مهمة أعتبرُها أساسية في اكتشاف المواهب؛ إذ البداية الحقيقية والأساسية لاكتشاف أيّ موهبة يجب أن تكون من المدرسة، وهذا ما حصل مع يونس، عندما قال: “كانت البداية من المدرسة السعيدية في صلالة، حينها اهتم بي كثيرًا الأستاذ فوزي السقا مدرس التربية الرياضية، ووجهني للتدريب مع ناشئي ظفار، وهو كان يدرب الفريق الأول بالنادي عام ١٩٧٥- ١٩٧٦م وحصل معه على أول بطولة تدخل خزينة ظفار، فلعبتُ لناشئي ظفار عام ١٩٧٧م وللفريق الأول عام ١٩٧٨م في دوري المناطق”. وعن بدايته مع المنتخب يذكر أنه استُدعي لأول مرة من قبل المدرب الانجليزي جورج سميث عام ١٩٧٩ في بطولة الخليج الخامسة ببغداد ١٩٧٩، وسافر مع المنتخب إلى معسكر ألمانيا. واستدعاؤه للمنتخب ذلك الوقت كان لتشجيعه فقط نظرًا لصغر سنه، وحسب كلام المدرب فإنه “يتوقع أن يصبح هذا اللاعب نجمًا كبيرًا في المستقبل”، وهي في الواقع لفتة طيبة من جورج سميث، فهكذا ينبغي التعامل مع المواهب وتشجيعها.
لم يغب نادي ظفار عن منصات التتويج، حتى أصبح صاحب نصيب الأسد من البطولات، فما سر ذلك؟ يقول يونس أمان: “كلمة السر في تألق ظفار، باختصار هي روح الأسرة الواحدة، ودائمًا فيها كبير العائلة، وهو الشيخ عبد العزيز الرواس الرئيس الفخري للنادي، وكذلك التكاتف والتلاحم بين رجال الزعيم، والروح العالية التي يلعب بها اللاعبون لحصد كلّ البطولات التي يشاركون فيها على مستوى المراحل السنية أو الكبار، بالإضافة إلى توالي عدد من الرؤساء الذين يحظون دائمًا بالاحترام، ويقودون السفينة بكلّ اقتدار، والأطقم الادارية التي تعمل بكلّ إخلاص، ولا ننسى القاعدة الجماهيرية الكبيرة فهم السند للنادي”. وأنا أعتقد أنّ كلمة “روح الأسرة الواحدة” اختصرت موضوع تألق ظفار، وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها، فمتى ما أحسّت الجماعة بالانتماء والإخلاص فهذا كفيل بتحقيق المستحيلات، ليس في الرياضة فحسب، بل في كلّ شيء. وهذا درس قدّمه الكابتن يونس لكلّ الأندية ويجب أن تستفيد منه، في زمن تغيّرت فيه المفاهيم وسيطرت فيه المادة.
كان يونس أمان ضمن تلك المجموعة التي أسعدت الجماهير الكروية في عُمان، وهي مجموعةٌ مميّزةٌ لم تنل حظها من التكريم، وضمّت نجومًا كثيرين، لا يتسع المقال لذكرهم، منهم سليمان خايف ويوسف عبيد وحامد عبد الرزاق وغلام خميس ومحمد جمعة وطالب هلال وحمتوت جمعان وسالم قصبوب ودرويش أحمد وناصر حمدان وسعيد فرج وهلال حميد وغيرهم ممون سبقوا هذا الجيل وممن أتوا بعدهم. وأذكر – كما يذكر جيلي – أننا كنّا نتسابق إلى ملاعب “بيت الفلج” و”الأهلي” و”سداب” و”المعلمين” ثم ملعب نادي روي فيما بعد، لنشاهد المباريات التي كانت تُقام في النهار، لعدم وجود الإضاءة الكافية، ولم تكن هناك قناة تلفزيونية رياضية، وإنما كنا نستمع إلى تعليقات المعلقَين الرياضييَّن سالم بن سيف العادي وعيد بن حارب المشيفري – اللذين يستحقان أيضًا التكريم والالتفات – وكان ما يميّز الكلّ (إداريين ولاعبين وجمهورًا) هو الحبّ والإخلاص قبل أن تطغى المادة على كلّ شيء، وقبل أن تنتشر الفضائيات، وأصبح الجمهور يتابع الدوريات الأوروبية، وصار لدينا جمهور برشلوني ومدريدي، ومتعصبون لميسي ولكيليان مبابي.
عن وضع الأندية العمانية سابقًا وحاليًا يقول يونس أمان في مقابلة سابقة في جريدة الشبيبة: “في السابق كان هناك شغف وحب في اللعب؛ واللاعب كان قريبًا من الجماهير؛ والجمهورُ كان محبًا للعب وللأندية بشكل كبير؛ والأنديةُ كانت تضم نجومًا وأسماء لامعة لأصحاب مهارات فنية عالية، والدوري العماني كان من أقوى الدوريات، وكان التنافس شديدًا بين جميع الأندية، رغم الظروف الصعبة التي واجهتنا، مثل عدم توافر ملاعب صالحة للعب وللإبداع، بالإضافة إلى نقص الموارد المالية للأندية وللاعبين بشكل عام. أما الكرة العمانية الآن رغم توافر كلّ الإمكانيات من ملاعب ومدربين ومعسكرات وكذلك الاحتراف والإمكانيات المادية للاعب، إلا أنني لا أرى ذلك التطور الكبير في كرتنا العمانية، فيجب أن تُدرَس الأسباب بشكل علمي ومتكامل”.
الكابتن يونس أمان نموذجٌ للنجم الخلوق داخل الملعب وخارجه، ونموذجٌ للاعب المثقف الملمّ بقضايا كرة القدم العمانية؛ لذا عندما يتحدّث فهو يتحدّث عن دراية وفهم، وفي اعتقادي أنّ الأخذ بآراء وأفكار ومقترحات ذلك الجيل – في المجالات كافة – أمرٌ مهم. والحديثُ عن الكابتن يونس أمان ونحوم الثمانينيات يقودنا إلى التأسف على توقف بطولات الأندية الخليجية على مستوى الأندية والمراحل السنية التي توقفت، فقد كان مردودها إيجابيًا على مستوى الأندية، وكان ينبغي أن تستمر أسوة بكأس الخليج.
زاهر بن حارث المحروقي