تمر هذة الايام الذكري ال 105 لميلاد الزعيم الوطني والقومي جمال عبدالناصر (ولد في 15 يناير 1918) ولانه لا يزال حيا بفكره وسيرتهالعطرة ومواقفه القومية الصلبة وثبات وصواب رؤيته تجاه قضايا الامة الكبري ..من هنا وجب التذكر والاهتمام والتدبر ..ولعل في مواقفهورؤياه تجاه علاقة الدولة بالدين و موقع الاسلام كحضارة وثقافة في قضايا الوطن ..ما يتطلب إعادة تأمل لما قاله وفعله هذا الزعيم الكبير ..عل ذلك يفيد الامة في صراعاتها الراهنة مع دواعش وغلاة هذا الزمان والذين لا يقلون شذوذا وجهلا وعنفا عن دواعش زمن عبد الناصر.
في البداية يحدثنا التاريخ فيقول إن عبد الناصر لدى(الدواعش القدامي : الإخوان ) وفى مجمل وثائقهم (حاكم يعادى الإسلام) لمجرد أنهيعاديهم، حيث هم الإسلام ، ومن عاداهم يصبح بالتبعية خارجاً عن الملة ، وعبد الناصر لديهم لا يمتلك رؤية إسلامية صحيحة بل رؤية فاسدةوأحياناً (كافرة) فهل هذه الاتهامات صحيحة ؟ وهل كان عبد الناصر علمانياً ، معادياً للإسلام بالفعل ، هذا ما ستحاول هذه الدراسةالإجابة عليه من خلال بحث علمى موثق ، نرفع فيه اللبس ونرد على الاتهام بالعلم.
سيظل عبد الناصر ، حاضراً ، بفكره وتجربته ، مهما طال الزمن أو بعد ، ربما يعود ذلك إلى أن تجربته كانت ثرية بإنجازاتها ؛ ربما يعودذلك إلى أنها جاءت فى لحظة تاريخية فاصلة من عمر الأمة ، فخلقت واقعاً جديداً مفصلياً فى تاريخ مصر الحديث .. وربما لأسباب أخرىسياسية داخلية وخارجية كان لهذه التجربة الناصرية بريقها وديمومتها ، رغم أخطائها ، واليوم نعيد فتح ملف هذه التجربة من زاوية جديدة ،زاوية نحسبها لاتزال تطلق تأثيراتها ، وتفرض معاركها علينا ، وعلى العالم ، زاوية (الإسلام) وموقعه فى مدركات وسلوكيات الأنظمة الحاكمة، اليوم نحاول أن نعيد قراءة رؤية عبد الناصر للإسلام وهى الرؤية التى نحتاجها اليوم ، تعبيراً عن جدلية الصراع بين أنظمة الحكم الوطنيةوبين الاخوان ودواعش الفكر التكفيري الجدد ..والسؤال الاساس هنا ما الذي نستفيده من فكر وتجربة عبدالناصر تجاه علاقة الدينبالدولة بالثورة ..وما هي الدروس الرئيسية في تلك التجربة والتي قد تفيدنا مصريا وعربيا اليوم (2023) في صراعنا مع الاجيال الجديدةمن التكفيرين الدواعش الذين هم الابناء الشرعيون لحركة الاخوان وجهازها السري ؟ .
مصادر فكر عبد الناصر الإسلامي
في البدية دعونا نسأل ماذا عن مصادر فكر عبد الناصر فيما يتصل بالدين وعلاقته بالدولة والثورة ؟ لقد عرف (ولم يتأثر ) عبدالناصر..حركة الإخوان المسلمين ، وعرف الحركات الشيوعية والوفد ، ومصر الفتاة ، والمؤسسة العسكرية) وعلى المستوى الفكرى كانت له وبشكلموسع قراءاته وثقافته العامة،بالنسبة لعلاقته بالإخوان المسلمين ، والتى بدأت عملياً عام 1944 بلقاء مع الضابط المتقاعد/ محمود لبيب ،ولكن لم يصل تأثير الاخوان عليه اية أبعاد ذات قيمة .زفقط هي قوة حزبية من عشرات القوي التي يستطيع عبدالناصر توظيفها في إطارسعيه للثورة ذضد النظام الملكي ولم يأخذ عنهم عبد الناصر –مثلا- فكرة الربط بين الدين والسياسة ، بل كان حريصاً على عدم ربط حركتهبأى أيديولوجية معينة ، ولكنه فى ذات الوقت لم يعاد أياً من النظريات القائمة مما ساعده على إقامة اتصال بكل التنظيمات فكان منفتحاًعلى الشيوعيين ، وعلى الإخوان المسلمين على السواء.
أما بالنسبة لعلاقته بمصر الفتاة ، فيرى البعض أن نظرة عبد الناصر إلى السلطة ، وموقفه وسياساته تجاه البريطانيين أو الغرب والشرقالعربى ، والعالم ، كذلك إدراكه للمسألة الوطنية المصرية ، كل هذه الأمور تبدو قريبة الشبه جداً من تصور مصر الفتاة إلى الحد الذىيصعب معه اعتبارها مجرد صدفة أو مبالغة فى التقدير.
ولا أحد ينكر هذه الحقيقة الهامة حول تأثر عبد الناصر بفكر مصر الفتاة ، لتصبح أحد روافده الفكرية الهامة ، وقد تعود إليها نظرته إلىقضايا الإصلاح وسياسات التمصير ، ولكن تأثير مصر الفتاة الدينى على عبد الناصر لم يكن واضحاً بالقدر الكافى ولا يمكن اكتشافه إلافى سياق معاداتها للنموذج الغربى ، على وجه العموم ، والذى ظل يمثل هاجساً سياسياً مستمراً عند زعامة مصر الفتاة وتحديداً أحمدحسين وفتحى رضوان ، وهو السياق الوحيد الذى يوضح موقع الدين والدولة عند هذه الزعامة ، وحجم تأثر عبد الناصر بها.
ولعل فى إثارة العلاقة المفقودة بين عبد الناصر وحزب الوفد ، ما يثير الانتباه ، فهذه العلاقة لم تكن قائمة بنفس الدرجة التى قامت بين عبدالناصر وجماعات الرفض الأخرى كالإخوان المسلمين والشيوعيين ومصر الفتاة ، وهو الأمر الذى قد يفسر ما أشار إليه أحمد حمروش بأنهلم يكن موجوداً بين قيادة التنظيم قبطى واحد ، مما يعنى عدم تأثر عبد الناصر بعلمانية الوفد وموقفه تجاه مسألة الوحدة الوطنية ، وعلاقةالدين بالسياسة ، ومن جانب آخر فإن تزايد الفساد السياسى والاجتماعى الذى ارتبط ببعض قيادات الوفد أعطى صورة غير طيبة له عندعبد الناصر وزملائه ، ولكن هذا الموقف من قبل عبد الناصر تجاه الوفد ، لم يمنعه عندما تولى السلطة رسمياً عام 1954 من أن يبدأ طريقهمع العلمانية الاجتماعية ، وإن كان بأداء مختلف عن أداء الوفد.
وتأتى تجربة عبد الناصر الشخصية فى التعليم الابتدائى والثانوى واشتراكه فى المظاهرات الصاخبة التى قادتها مصر الفتاة عام 1936 ثم دخوله فى الكلية الحربية وتأثره بالنموذج العسكرى فى التنظيم والتفكير ، تأتى هذه التجارب لتمثل رافداً رابعاً وأخيراً فى روافد الفكرالدينى لعبد الناصر ، والتى تؤكد جميعها على نقطة هامة وهى أن عبد الناصر كان لا يميل إلى العلمانية بمعناها الغربى فى علاقة الدينبالدولة.
موقع (الدين) فى فكر عبد الناصر :
بعد نجاح الثورة عام 1952 استمر الصراع على السلطة ، ومن حولها حتى عام 1954 ، ومنذ هذا التاريخ وحتى عام 1970 ، كان عبدالناصر الرجل الأول فى النظام وعليه أثير ولايزال الجدل ، حول موقع الدين وقضاياه المختلفة من الإدراك الناصرى وأيضاً موقع الإسلامتحديداً منه ، وفى هذا السياق يمكن طرح الأسئلة التالية :
أ – ما هي الأبعاد التي يثيرها موقع الدين في فكر عبد الناصر؟
ب – هل تغير موقع الدين عند عبد الناصر حسب لتطور التاريخي والسياسي العام الذي مرت به مصر خلال الفترة ( 1952-1970) ؟ وهلتوجد مواقف أو نقاط تاريخية معينة يبرز فيها دور الدين وأخرى يخبو فيها ؟
جـ – هل لجأ عبد الناصر إلى الدين عندما كان في موقف الدفاع عن النفس تجاه الإتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى؟
وعند وضع هذه الأسئلة في إجابات محددة تصير متصلة : فى أبعاد موقع الدين فى فكر عبد الناصر والتى حول :
البعد الأول ، أن الدين فى إدراك عبد الناصر هو جزء من عملية التنمية الشاملة والتغير الاجتماعى فهو يساهم فى عملية التحول تجاهها ،ويخضع لنفس الشروط ولذات التحديات وخاصة فى المجتمعات ذات الثقافة التقليدية والتى يلعب الدين ورجاله فيها دوراً مؤثراً ، وبالنظرةالسريعة للعينة السابقة نلاحظ أن الدين قد استخدم فى مجال التنمية الشاملة وكعنصر دافع لها خلال الفترة (1952 – 1970) والدين هناأصبح يلعب دوراً فى التنمية من خلال كشف أعدائها حيث ” شريعة الله هى شريعة العدل وهى شريعة المساواة ، أما شريعة الرجعية فهىشريعة ضد الإسلام وضد الدين مهما تمسحت به ” () خطاب عبدالناصر في 22/3/1966.
وحيث يرتبط الدين لدى عبد الناصر بالعدالة ” فالذى يريد أن يطبق الدين لا يقسم الشعب إلى أسياد وشعب من العبيد .. ده .. ده هو الكفر” كما يقول فى خطابه فى 1/5/1966.
أما البعد الثانى من أبعاد موقع الدين فى إدراك عبد الناصر ، فهو أنه كان يرى أن للدين الإسلامى دور مؤثر فى توحيد وتضامن العالمالإسلامى تجاه أهداف اجتماعية وسياسية وهنا ينبغى التأكيد على نقطتين هامتين :
الأولى : الدين عند عبد الناصر لم يكن هو الإسلام وحسب ، ولكنه مثل لديه كل التراث من قيم وتقاليد وتاريخ دينى ، عاشته مصر والمنطقةالعربية ، يعنى هذا ادخال المسيحية ، وبعض العادات الدينية والفرعونية وغير الفرعونية ، والتى لايزال المواطن العربى والمصرى يمارسبعض طقوسها كالموت ، أو زيارة القبور أو إرسال الرسائل إلى الموتى وما شابه ذلك أما الإسلام فهو أكثر تحديد وأقل شمولاً من الدين عندعبد الناصر.
أما الثانية : فهى أن الدين ككلمة أو كفكرة ، استخدمت عند عبد الناصر فى المجال الداخلى المصرى أو الإقليمى العربى ، فهى لم تتعدكثيراً عنده إلى حيث الإطار الدولى أو اطار العالم الثالث أو الإسلامى ، فالدين استخدم فى مواجهة الرجعية العربية وأعداء الاشتراكية والتنمية أيضاً أعداء الجمود الفكرى حيث :
” الرجعية التى أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين ، وراحت تتلمس فيه ما يتعارض معروحه ذاتها لكى توقف تيار التفكير ، أما الإسلام فإنه يتجه إلى العالم الخارجى ، وفى مواجهة الحلف الإسلامى ومن أجل تضامن الأممالإسلامية على نحو مطلق ، وبشأن دخول الإسلام كعامل مؤثر فى توحيد العالم الإسلامى يلاحظ استخدام عبد الناصر لكلمتى التضامنوالتعاون وعدم استخدامه لكلمة الوحدة مع العالم الإسلامى ، حيث لم يظهر أساساً مفهوم الوحدة الإسلامية ، فى الخطاب الناصرى إلا مرةواحدة قبل 1956 فى السياق التالى ” إنما أرى فيكم – الجنود – وحدة قومية بل أرى أيضاً وحدة عربية ، بل أرى أيضاً وحدة إسلامية ، بلأرى أيضاً وحدة إسلامية أفريقية ” فى خطابه وسط مجموعة من الضباط المصريين فى عام 1955.
أما البعد الثالث لموقع الدين فى فكر عبد الناصر ، فهو رفض الرؤية المتزمتة والتفسيرات الجامدة للدين وللإسلام ، ويفرق عبد الناصر هنابين الإسلام كعقيدة ثابتة ومقدسة وبين الفكر الدينى المتجدد والمتغير ويرفض عبد الناصر هنا أيضاً احتكار بعض القوى الدينية لحق تفسيرالدين وخاصة إذا تعارض هذا التفسير وعملية التحول الاجتماعى التى يقودها ، عندئذ يصير الدين جزءاً من عملية التعبئة السياسية فىمواجهة الفكر الرجعى ، وفى مواجهة الأعداء التقليديين له ، الرجعية العربية والاستعمار وإسرائيل ، ولعل فى نموذج اعتلائه لمنبر الأزهر إبانالعدوان الثلاثى عام 1956 وحديثه المستمر عن الدين كعنصر فى عملية التعبئة السياسية ومواجهة الصراع الخارجى وبهدف تعبئةالجماهير ، ما يؤكد عليه.
أما البعد الرابع والأخير من محددات موقع الدين فى فكر عبد الناصر ، نجد أنه يرى أن الدين لا يصلح كأيديولوجية سياسية مستقلة بليصلح كأداة وكمنطلق وكأحد العناصر لأيديولوجية سياسية هى القومية العربية ، من هذه الأبعاد السياسية لموقع الدين فى فكر عبد الناصر أمكن تحديد أربعة محاور أساسية تتحدد حولها رؤية الناصرية للدين هى :
– الدين كأحد عناصر القومية العربية.
– الدين كعنصر فى عملية التعبئة السياسية.
– الدين كعنصر فى عملية التغير الاجتماعي.
– الدين كعنصر فى عملية المواجهة للصراع الخارجي.
الخلاصة.. إن مصادر الفكر الدينى عند عبد الناصر تعود إلى مرحلة ما قبل عام 1952 ، حيث تعرف وفهم آليات عمل وفكر وسياسات كلمن حركة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والقوى السياسية الأخرى وكيف أن الدين – وتحديداً الإسلام – قد احتل موقعاً هاماً فى فكره ،ولكن برؤية مستنيرة وليس منغلقة أو ضيقة الافق مثل( الاخوان : دواعش زمن عبدالناصر )، وأن أبرز أبعاد الرؤية الناصرية للدين تمثلتفي كونه : عنصرا مهما فى عملية التعبئة السياسية ، والتنمية الشاملة ، والقومية العربية ، ومواجهة الصراع الخارجي.
د. رفعت سيد أحمد