مددت يدي لأصافحه في مجلس عزاء من كان بينه وبينها مودّة ورحمة فقابلني بابتسامته المعهودة ! … فقلت له : عظّم الله اجوركم …. فردّ : لله البقاء والدوام ، وأمسك بيدي وأخذت مقعدي بقربه في خيمة العزاء ، واحتسيت فنجان قهوتي وأنا أنظر إليه … صامد كالجبل أمامنا بالرغم من الألم الذي يكتمه بين أضلعه خلف تلك الابتسامة.
همس في أذني ” شكراً لك على ما تقوم به من جهود تطوّعيّة في خدمة المجتمع “ ، فقلت له ” العفو أستاذي العزيز ، خدمة الوطن واجب مقدّس بالنسبة لي ” … قال لي : أعذرني لم أستطع الرد عليك بالرغم من اتصالاتك المتكررة فأعذرني لوجودي في المستشفى مع زوجتي رحمها الله … بالفعل اتصلت بك مرات عدة ولم أكن حينها أعلم بالظروف التي كنت تمر بيها إلا بعد أيام تم اخطاري لاحقاً بالأمر.
ما الأمر الذي كنت تريدني فيه ؟!
قلت له : بأني أفكر في إنشاء مكتبة عامة في ولايتنا وأردت مشورتك في هذا الأمر … ابتسم وهو يتقبل التعازي ، أعتقد أنا وأنت نتشارك الأفكار، هذا الموضوع يشغل بالي ولكن ما باليد حيلة في الوقت الراهن ، اخبرته سنترك الأمر حتى تسنح الفرصة لمناقشته لاحقاً.
لم أستطع الخروج من خيمة العزاء حتى اقبّل رأس ذلك الرجل الجالس على الكرسي المتحرك الكهربائي !!! … لم تمنعه إعاقته من الحضور لتأدية واجب العزاء والالتزام بالجلوس مع أهل قريته … وقفت متكئً على عكازي وأنا أنظر اليه ، تخطيت جموع المعزيين حتى وصلت إليه فقال : كنت أعلم بأنك لن تخرج قبل محادثتي ، فقبّلته على رأسه واعتذرت منه لعدم قدرتي بالجلوس معه على أمل العودة مرة أخرى … سألني إن كنت سافرت خارج الوطن !!! فقلت له : لم أسافر خارج الوطن ، ولكني أريد أن أرجع لأكثر من أربعين سنة مضت … ابتسم وهو يقول : كأن لديك سر ولا تريد أحد يعرفه ؟!!
قلت له : بالفعل لدي سر ولكن يحتاج مني العودة اليك لكي أجلس معك ولكن لا تنسى دلة قهوة وصحن سح … توادعنا على أمل اللقاء في القريب العاجل.
أربعين سنة مضت تراكم الغبار خلالها على تلك الدفاتر المنسيّة في رفوف المكتبة وكأن العنكبوت نسج عليها خيوطه ، واغلفت المذكرات ويومياتي القديمة التي نطقت بها اقلامي وأخذت جملها وعباراتها من أطراف جفوني قد مسها الضر وأصبح لزاماً أن تجد من يطببها … آن الأوان أن ألقي نظرة عليها وأعيد قراءة ما كتب فيها من ذلك الزمن الذي كانت فيه بداياتي.
حمدان العدوي