للوهلة الأولى عندما يسمع المرء بقانون اسمه «قانون قيصر» يخال أنه قانونٌ سنّه أحد قياصرة روسيا، ولكنه في الواقع هو قانونٌ أمريكيّ سمِّي بهذا الاسم نسبةً لشخص مجهول، قيل إنّه منشقٌ سرّب معلومات وصورًا لضحايا «تعذيب» في سوريا بين عامي 2011 و2014. ويستهدفُ القانون الأفراد والشركات الذين يقدّمون التمويل أو المساعدة للحكومة السورية؛ ويستهدف كذلك عددًا من الصناعات السورية بما في ذلك تلك المُتعلِّقة بالبنية التحتية، والصيانة العسكرية، وإنتاج الطاقة، هذا غير استهدافهِ للكثير من الشركات والشخصيات الإيرانية والروسية التي تقدّم الدعم لسوريا. وقد تردّدت كلمة «قانون قيصر» بكثرة في وسائل الإعلام العالمية مجدّدا، عقب الزلزال القوي الذي ضرب تركيا وشمال غرب سوريا يوم الاثنين 6 فبراير 2023، ولكن لا لإلغاء ذلك القانون الظالم، وإنما لمزيد من إذلال الشعب السوري، رغم معاناته الشديدة. ونحن لسنا بصدد الحديث عن «هذا القيصر»، وعن مدى صحة الصور التي قدّمها للأمريكان – فاضطهادُ الشعوب مرفوضٌ في كلّ الأحوال – ولكن تجربة العرب مع الأمريكان معروفةٌ، ولنا دليلٌ في حصار وتدمير العراق تحت حجج واهية وكاذبة، اعترف بذلك المسؤولون الأمريكيون أنفسهم، بعد أن تركوا مواقع المسؤولية، ولكن ماذا استفاد العراقيون من تلك الاعترافات بعد فوات الأوان؟
تقول ديباجة قانون قيصر إنه يهدف «لحماية المدنيين في سوريا»، ويفرض عقوبات على كلّ من يقدّم دعمًا ماليًا وتقنيًا وماديًا للحكومة السورية، ولكن ما حصل بعد الزلزال وضح تمامًا أنّ القانون كان سيفًا مسلطًا على رقاب الشعب السوري، فمن سنّه لم يحرّك ساكنًا لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب المنكوب؛ فلم نر التسابق في تقديم المساعدات له، ولكن شهدنا اختفاء تلك الشعارات البراقة التي كثيرًا ما تغنّت بحرية الشعب السوري وبتحريره من نظامه، «حتى يعيش السوريون في حرية وكرامة وعدالة»، بل إنّ القانون المذكور حال دون تقديم المساعدات لسوريا، خوفًا من العقاب الأمريكي، رغم النداء الذي وجهته وزارة الشؤون الخارجية والمغتربين السوريين إلى الأمم المتحدة والجهات المعنية والمنظمات والهيئات الدولية للتدخل لرفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، لتسهيل وصول فرق الإغاثة والأدوية والغذاء للمنكوبين، ولكن دون جدوى. وما يؤسف له أن تكرّر بعض وسائل الإعلام العربية كلمة «الزلزال الذي ضرب تركيا» ولا تشير إلى أنه ضرب سوريا أيضًا، وأنَ الضحايا كثيرون، رغم أنّ الزلزال ضرب المناطق التي تحت يد ما يُسمّى بالمعارضة السورية، ممّا يعني أنّ السوريين كانوا ضحايا مرتين، مرةً لأنهم اعتمدوا في معارضتهم على قوى غادرة، ومرةً لأنّ القانون الذي أصدرَته أمريكا «لصالحهم» وقف ضدهم، فحال دون تقديم العون الإنساني لهم. ومع التركيز على زلزال تركيا ونسيان سوريا إعلاميًا، فإنّ كلّ الذين ملؤوا الدنيا ضجيجًا لمساعدة السوريين، وأيّدوا تدمير سوريا وتشريد أهلها في بقاع الأرض المختلفة اختفوا، ونسوا أنّ سوريا كانت مزدهرة اقتصاديًا مع أمن غذائي ودوائي، والاكتفاء في الطاقة، مع وجود كهرباء وغاز وماء وجامعات ومشاف مجانًا، وكانت سوريا بلا ديون خارجية مع احتياطي بـ17 مليار دولار، وثبات في سعر صرف الليرة السورية لأكثر من عشرين عامًا. والمؤلم أنّ قناة الجزيرة ما زالت حتى الآن تسمّي الجيش السوري بـ«جيش النظام»، رغم أنها قامت بتغطية الحدث من داخل الأرض السورية المتضررة، وهو يُحسب لها طبعًا.
في لحظة عاطفية أشاد عبدالباري عطوان رئيس تحرير صحيفة «رأي اليوم» بالمساعدات العربية وبالطائرات المُحمّلة بفرق الإنقاذ والأغذية والمعونات الطبيّة التي تدفّقت على سوريا، ورأى أنها تكسر حِصار قيصر وتُهشّمه، وأنّ العرب الشّرفاء يعودون إلى سوريا ويقفون في خندقها، ويُهاتفون رئيسها، ويتعاطفون مع ضحاياها، ويقفون إلى جانب شعبها المكلوم، مُواسين ومُؤكّدين في الوقت نفسه على روابط الدّم والعِرق والعقيدة بل والإنسانيّة أيضًا. وفي تصوري أنه رأيٌ عاطفيّ إنسانيّ، فلا يجب أن ينسى السوريون – ونحن معهم – ما فعله العربُ بهم، فإذا كانت الأوضاع صعبة وهناك أخطاء ارتكبت ضد الشعب السوري إلا أنّ بعض العرب ساهموا في تدمير سوريا وإلى توصيله إلى ما وصل إليه، وتصريحاتُ الشيخ حمد بن جاسم بن جبر رئيس الوزراء القطري السابق واضحة في هذا الشأن ولا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، وهو الذي صرح لقناة «القبس» الكويتية أنّ مبلغًا كبيرًا من المال رُصد للإطاحة بالنظام السوري، بلغ ألفي مليار دولار، (هكذا نطقها) وأقيمت في سبيل ذلك غرفتا عمليات في كلٍّ من الأردن وتركيا؛ فلا ينبغي في لحظة عاطفية معيّنة أن نتصوّر أنّ تلك المساعدات والاتصالات الهاتفية مع الرئيس بشار الأسد ستُؤسّس لنقطة تحوّل مصيريّة في المنطقة العربيّة، فعلى ما يبدو أنّ تلك الهبة سوف تتلاشى مع مرور الوقت؛ ولكني أتفق مع عطوان في أنّ الزلزال وما حدث بعده، قد قرع الجرس لإيقاظ المُضَلّلين المخدوعين بالأكاذيب الأمريكيّة والإسرائيليّة، وعسى أن يُعيدهم إلى طريق الصّواب، وأنا كعماني أحس بالفخر أن بلادي لم تشارك في مؤامرات تدمير سوريا ولا أيّ بلد عربي آخر.
لقد تعامل الغرب – كعادته – بالازدواجية في المعايير، وفرّق بين الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا وكأنه زلزالان؛ فسارع إلى تقديم مساعدات الإغاثة والإنقاذ لتركيا – وهم بالتأكيد يستحقون – بينما نسي تمامًا سوريا التي تعاني أصلًا معاناة شديدة، بسبب الحصار عليها، ممّا جعلها في حاجة ماسة للمساعدة والدعم، لكن القانون الأمريكي يقف حائلا دون وصول المساعدات لسوريا، وهي (أمريكا) التي ترفع الشعارات البراقة عن حقوق الإنسان وغيرها.
تُشكر الدول العربية التي تعاطفت مع سوريا في هذه المحنة – والشكر بالتأكيد لكلّ من قدّم الدعم لسوريا وفي مقدمتهم إيران – ولكن ما قُدّم من الدول العربية لسوريا وأهلها لا يفي ما قدّمته سوريا للعرب طوال تاريخها، فعدا عن وقوفها مع المقاومة الفلسطينية، فإنّ سوريا – حكومةً وشعبًا – احتضنت كلّ العرب وعاملتهم كالسوريين في التعليم والصحة والدخول بدون تأشيرات، وفي تملّك العقارات والأراضي وغيرها من المنافع، وأذكرُ أنّ زميلي الإعلامي حسن بن سالم الفارسي، أخبرني أنه كان في زيارة لسوريا، فألمّت به وعكةٌ صحيةٌ قوية، استدعت أن تجرى له الفحوصات والتحاليل والأشعة، ولكنهم رفضوا أن يأخذوا ليرة واحدة باعتباره مواطنًا عربيًا، ونستطيع أن نقيس على ذلك قصصًا كثيرة.
وإذا كانت مصائب قوم عند قوم آخرين فوائد، فإنّ ما فعله بنيامين نتانياهو رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي يؤكد ذلك، عندما حاول أن يصطاد في المياه السورية العكرة بادعائه زورًا «أنّه وافق على إرسال مُساعدة إلى سوريا، بعد أن تلقّى طلبًا من دِمشق عبر قنواتٍ دبلوماسيّة»، فسارعت السّلطات السوريّة بنفي الخبر فورًا وبعد دقائق معدودة فقط؛ فالرئيسُ بشار الأسد ونظامه لم يتعرّضوا لما تعرّضوا له إلا لمواقفهم الثابتة تجاه المقاومة الفلسطينية، ولأنه – مثل أبيه – لم يصافح، ودعك من كلّ الكلام الإنشائي الذي يردده البعض من المهووسين بكلمة «الديكتاتورية»، فقد رددوها كثيرًا في وصفهم لصدام حسين، فإذا هم الآن يبكونه. ولو أنّ الرئيس بشار الأسد انضم إلى جوقة المُطبّعين لما كان حصل لسوريا ما حصل، وهذه حقيقة.
إنّ الزلزال الذي ضرب شمال سوريا، يقدّم فرصة ذهبية لكلّ من تباكى على الشعب السوري – سواء حكومات أو غيرها – لنجدته ومساعدته في هذه المحنة، وقد مللنا من سماع كلمة «إيران تحتل سوريا»، فقد كانت إيران السباقة لتقديم العون والإغاثة من خلال تسيير رحلات طيران لها، في وقت كانت سماء الأجواء التركية لا تكاد تُرى من كثرة الطائرات التي قدِمت للمساعدة والإنقاذ، وينسى الكثيرون أنّ السياسات العربية هي التي تخدم الوجود الإيراني في المنطقة، كما فعلت ذلك في العراق من قبل، وكذلك في لبنان واليمن. ولكن الغريب في المسألة أن تُعاقِب الدولةُ العظمى، سوريا بقانون تسمّيه قانون قيصر، اعتمادًا على صورٍ يقال إنه قدّمها لها هذا «القيصر المجهول»، ممّا يذكّرنا باعتمادها (أمريكا) على أقوال قالها أحمد الجلبي بأنّ العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، فذهب العراق وذهب الجلبي، لكن الخذلان العربي بقي، وفي كلّ الأحوال فإنّ أمريكا في غنى عن مسرحيات قيصر والجلبي، رغم كثرة أمثالهما.
زاهر المحروقي/ كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»