اليقين بداخلي يتسلل في كل وجداني ، فكلما انتابني شعور بتبعثر أوراقي أشعر بأمان يزيل بقايا الخوف الذي كان يرعبني ، لأن الله معي ويسمعني ، فتترتب على ضوء ذلك أوراق أيامي الباقية ، وينتهي ما ظننته شتات قد لامس أقداري ، وتبدأ تلك الطمأنينة تنساب في جسدي الضعيف المنهك ، فيزداد قوة عند سماعه لذلك الصوت من بين حنايا الروح يحدثني بوجود الله الدافئ في نبضات قلبي وفي جريان دمي وأنفاسي ، حينها لوحت بيدي مودعاً لكل آلامي وآهاتي ، وتركت خلفي لوحات حزن رسمتها أيادي الزمن العابث ، وبدأت أتحسس طريقي للسمو بروحي العاشقة لوهج ذلك الخلود ، وفي ذلك المكان الذي أتردد إليه كلما اشتقت لمن يؤنس وحدتي ويسامرني.
حديثنا، صمتنا ، تمتمات شفاهنا ونظرات أعيننا ، وتلك الأنفاس بحشرجتها تتمثل في جسد أحدنا لتبلغ من بقى ليأخذ المواساة في من رحلوا ، وأخرى تجسد ذلك المشهد في مسرحية الأيام العابرة بأقدارها لواجب عزاء لواحد منا كان بالأمس واقفاً ها هنا ، ليحمل اليوم نعشه في موكب عزاء مهيب آخر ، لتستمر الحياة المرسومة طريقها لنا سلفاً بكل ما تحمله أقدارها ، بل هي أقدارنا التي فرضت نفسها لتحملنا إلى ذلك المجهول.
نغمض أعيننا عن الحقيقة ، ونمني أنفسنا بطول العمر، ونتجاهل بأننا بإرادتنا تجاهلنا حقيقة ذلك الرحيل بداخلنا ، فكل شيء راحل حتى الألم والفرح كليهما راحلان بعدنا ، فليس لهما مكوث في أرواح فارقت معابدها ، ولا حتى لهما حق البقاء الدائم في هذا الوجود.
كل شيء مني وحتى أنفاسي في ذلك المكان لها وجود ، فهناك تعودت أن أخيط جروحي من الداخل ، لأنه لا يوجد أحد يعرف حقيقة وجعي وشدته مثلي أنا ، فأي يد أخرى تحاول أن تمتد لمجرد المحاولة لتلمس جروحي سوف تؤلمني ، ولن يحتمل صبري ذلك الألم.
هكذا هي آهاتي مكتوب لها أن تعدوا في سباق مع زمن اللحظات ، فالنوم لا يؤجل سفرها ، ولا تسارع الخطوات يجعلها تتخطى مراحلها ، نظن بأننا نصارح أنفسنا بحديثنا معها ، وهي تدرك بأن الصراحة ليس لها في قواميسنا وجود سوى قهقهت نمارسها من تحت خيوط الجرح من الداخل ، أقدارنا هي من تختارنا لتعبث فيما تبقى من أنفاسنا وهي تشق طريقها ، وتحركنا كيفما تشاء ومتى ما تشاء، وتأخذنا معها دون عناء السؤال منا.
لم أكن أدرك بأن للوجود والخلود مسافات لا يدركها المرء إن لم تغادر روحه الجسد ، لتعود إليه فيما بعد إن كان ذو حظ عظيم لتخبره بسر ذلك الخلود ، لم يعد يهمني اليوم والتاريخ والتوقيت ولا حتى المكان لم يعد من ضمن اهتماماتي ، فكل ذلك لا يغير من مشهد خروج الروح شيء ، فهي بالنسبة لي مجرد مسميات لمراحل أدوات قدر محتوم عابث بمفاهيم لحظات الوجود ، لينتقل بعدها إلى ذلك الخلود الذي نبحث عنه .
بعثرات الروح في ذلك اليوم لن تتغير فيه مسمياته ، فأي يوم لا يهم ، فقد خط قلم القدر في لحظات أوقاته ، يوم جمعة كانت أو غيرها فهي كلها أيام الله ، لن تنقص من تلك الأيام يوم ولن تزيد ، هكذا هي أعمارنا منذ الأزل قصص وحكايات بكل ما فيها مكتوبة … لعلها اللحظة التي أكون فيها مغمض عيني في ذلك المكان ، وتلك الزاوية التي لا يعرفها أحد غيري.
حمدان العدوي