يُبني المجتمع الإسلامي على نقاوة المشاعر، وحب المؤمنين وإخلاصهم، والوفاء بالوعود، بينما يعتبر كتمان عيب في الشيء حتى لا يعلمهالمستفيد منه ضرب ضروب الغش والتدليس التي حذر منها الإسلام؛ لذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وآله سلم بإدانة أي نوع من الخداعبين أفراد المجتمع الإسلامي بشكل قاطع؛ بل أعلنه بشكل صريح وفي كثير من المناسبات.
فعلم التدليس يعدّ من أدق علوم الحديث؛ حيث يتناول علم الرجال ويؤثر في منزلة المحدث المدلس، وهو كذلك خفي غامض فيدخل في علمالعلل، بهذا يتأثر به الإسناد بما حصل له من تدليس فيتضمن علم المصطلح، لما قد يكون سبباً في قبول أو رده.
والتدليس يكون بين القبول والرد من حيث صفة الراوي إذا كان ثقة ودلس عن الثقات أو وقع منه ما ندر في ذلك فلا تضره، بينما الحديثالروي المطعون فيه إذا اتصف بذلك فهي تؤثر في إسناده وقبول روايته.
فما هو التدليس؟
إن التدليس هو سياق الحديث بسند يوهم أنه أعلى مما كان عليه في الواقع إن التدليس في اللغة، يُحمل على معنيين: أولاً، الظلام أوالظلمة، وثانياً، إخفاء العيوب، لذلك نجد أن المحدثين استعملوا هذا المصطلح في وجه من حاول الإتيان بإسنادٍ مظلم، فيدلّسه موهماً قوته،واستعملوه فيمن حاول أن يخفي عيوب الإسناد، وهو المتعلق بإسناد التسوية، وإسناد الشيوخ.
أما التدليس اصطلاحاً: هو أن يروي عمن لقيهم ولم يسمع منهم، وقسّموه في الاصطلاح، إلى تدليس تسوية، وتدليس شيوخ، وتدليسإسناد، ثم بالغ الحافظ العراقي، وسمّاه تدليس عطفٍ وتدليس حذفٍ، وما إلى ذلك، وكل هذا يؤدي إلى شيء واحد بالنتيجة، وهو الثلاثةالمذكورة أولاً.
بالعودة إلى أقسام التدليس، إن تدليس الإسناد فيعني أن يروي عمن لقيه كما قلنا أعلاه، ما لم يسمعه من قوله أو يره من فعله، بلفظٍ يوهمأنه سمعه أو رآه، مثل “قال أو فعل، أو عن فلان، أو أن فلان قال وفع، ونحو ذلك”.
أما تدليس الشيوخ، فهو أن يسمي الراوي شيخه أو يصفه بغير ما اشتهر به، فيوهم أنه غيره، إما لكونه أصغر منه فلا يحب أن يظهر روايتهعمّن دونه، وإما ليظن الناس كثرة شيوخه، وإما لغيرهما من المقاصد.
بالتالي، المدلسون كثيرون وفيهم الضعفاء والثقات، كحميد الطويل وسليمان بن مهران الأعمش، ومحمد بن إسحق، والوليد بن مسلم، وقدرتبهم الحافظ إلى خمس مراتب:
المرتبة الأولى: من لم يوصف به إلا نادراً، كيحيى بن سعيد.
المرتبة الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى، كسفيان الثوري، أو كان لا يدلسإلا عن ثقة كسفيان بن عيينة.
المرتبة الثالثة: من أكثر من التدليس غير متقيد بالثقات، كأبي الزبير المكي.
المرتبة الرابعة: من كان أكثر تدليسه عن الضعفاء والمجاهيل كـ بقية بن الوليد.
المرتبة الخامسة: من انضم إليه ضعف بأمر آخر، كعبد الله بن لهيعة.
وبشكل عام، كل الأئمة الأجلاء، مثل الإمام الحسن البصري، والإمام البخاري، والزهري وغيرهم، على سبيل المثال، تعمّد الإمام الزهري مرّةًأن يدلّس في مجلس، إلا أنه دلّس عن ثقات، فاستغنى عن ذكرهم، أيضاً من المهم القول هنا، إن الحسن البصري ليس مدلّساً، بل من أدخله”الكرابيسي والعلائي والحافظ ابن حجر”، وكان حريّ بالأخير أن يخرجه من ذلك؛ لأن البصري مرسِل وليس بمدلّس، بالتالي، ليس لأحدالحق في إلصاق هذا الأمر به، لكن يجب وضع علامات فارقة بين من دلّس وبين من هو أرسل ولم يدلّس.
بالتالي، إن التدليس عن الثقات فهذا ليس تهمة، فإذا دلّس الإمام الحسن البصري على سبيل المثال، عن صغار الصحابة، فروى عن النبيصلى الله عليه وآله وسلم، مباشرةً ودلّس عن ثقة، وأرسل عن ثقة، استغنى عن ذكره، لذلك كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وطول باعهفي هذا العلم، كانت عنده المراسيل مردودة ما عدا عبد الله بن عدي بن الخيار، والحسن البصري وسعيد بن المسيب، هؤلاء الكبار كانتمراسيلهم صحيحة ولا تُرد.
بالتالي إن الأقزام الذين يحاولون التطاول على بعض الأئمة الأعلام مثل ما فعل أحدهم، هنا لا يسعنا إلا أن نسأل الله تبارك وتعالى أنيهديهم ويعديهم إلى جادة الصواب، لكن المؤسف أنها تخرج ممن يقولون إنهم أدعياء علم، يتخذونها ديناً ودينناً ورحمة بهم توخي الحذروالتحري جيداً قبل الخروج والكلام، والأهم من كل ذلك، أن يتقوا الله عزّ وجلّ فلا يتكلمون قبل أن يتعلموا.
وبالنتيجة الأكاديمية كما يحبذها العلماء الأجلاء، أن حديث المدلس غير مقبول، إلا أن يكون ثقة، ويصرح بأخذه مباشرةً عمن روى عنه،فيقول: (سمعت فلاناً يقول، أو رأيته يفعل، أو حدثني ونحوه…)، لكن ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم بصيغة التدليس عن ثقاتالمدلسين فمقبول، لتلقي الأمة لما جاء فيهما بالقبول من غير تفصيل.
بالتالي، قلت ما قلت ليس من فراغ، إنما جاء من ثقافة جاهلة أصبحت حالة عامة وسمة ظاهرة في مجتمعات تقول إنها إسلامية، لكنها أقربإلى تطبيق التقليد أكثر من الدين، وهذا لا يدلل على أي إيمان حقيقي، مع التأكيد على أنني لا أعمم فهناك من يؤمنون بحق ويحاولون هدايةالآخرين، بالتالي، هذا بعض قليل عمن يحاول التشويه بسلوك أو إيمان العلماء الأجلاء، ففي زمن النفاق والكذب، هم من بقي لنا من أمةلطالما تمنينا أن يستمر مجدها، لكن يبقى الأمل، وأن نعود إلى طريق سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.