الموتُ هو الحقيقة المؤكدة التي يغفل عنها الناس. صحيحٌ أنه حقّ ونعلم كلنا أننا سنموت، إلا أننا نُصابُ بصدمة قوية إذا جاءنا خبر وفاةأحد ممّن نحب، خاصةً إذا كان الموت فجأة، وهذا ما حصل معي ومع كثيرين، عندما بلغنا نبأ وفاة جارنا وأخينا وصديقنا العزيز عبد الله بنحميد الأخزمي أبي هاني. كان الخبر مفجعًا، إذ تلقيتُ رنة هاتفية في فجر أمس الأول الخميس، من راشد الهنائي إمام مسجد حرقوصبن زهير، وقلتُ في نفسي ربما جاء الاتصال بالخطأ، مع ذلك كتبتُ له رسالة، فإذا هو يبعث لي برسالة صوتية يقول لي: “أبو هاني في ذمةالله. ونحن حاليًا في المسجد ننتظرك لنصلي عليه”، وفي اللحظات الأولى لم أستوعب الخبر، رغم إيماني التام بأنّ الموت حقّ ولا يحتاج إلىمقدّمات، لكنها الصدمة التي تصيب الإنسان عندما يأتيه خبرٌ كهذا فجرًا، فيترك ألمًا في القلب لا يمحى، فكيف أصبح أبو هاني فجأةذكرى، وهو الذي كان شعلة من النشاط والحركة الدؤوبة، لا يكلّ ولا يملّ، يساعد هذا.. ويلبي دعوة ذاك.. ويشارك في دفن هذا.. ويحضرعقد قران ذاك.. ويتابع أمر المسجد.. وفوق ذلك يمارس هواياته في الرحلات الخلوية والأودية.. ويجمع بين المتخاصمين.. ويصلح بين الناس.. ويمدّ يده للكل بما رزقه الله حتى وإن كان شيئًا يسيرًا. فهل فعلا قد غادرنا أبو هاني بغير رجعة ولن يعود لنا؟ وهل حقا سيبقى كرسيّه فيالمسجد فارغا؟ وماذا سيقول المصحف الذي تعوّد أن يقرأ منه كلّ فجر؟
في لمح البصر طافت بذهني كلّ ذكرياتي معه منذ أن تعارفنا كجيران، وحتى لحظة سفره النهائي بلا عودة؛ واسترجعتُ آخر اتصال لي بهقبل يوم من رحيله، عندما ذكر لي أنّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية قدّمت عرضًا لبيع جميع كتبها في معرض مسقط بنصف القيمة، وأرادأن نذهب سويًا للمعرض لشراء بعض الكتب للمسجد، إلا أني اعتذرتُ له بأنني لا أنوي زيارة المعرض هذا العام، وكعادته لم يلح بل قالسأذهب وحدي.
كان أبو هاني رحمه الله رجلا استثنائيًا ومميزًا؛ لذا أصاب ذهابُه محبيه بالصدمة، وكأنه قد ذهب سريعًا. ولستُ أدري هل كان يحسّ بأنّأجله قد اقترب؟ لا يمكن إثبات ذلك، ولكن الرجل قال لي قبل فترة ما معناه: “إننا نضيّع وقتنا في جدال لا طائل من ورائه، والأفضل أن نترككلّ ذلك ونتّجه إلى الله، لأنّ هذا زمن الفتن”. وقد طبّق ذلك في الواقع، وابتعد كثيرًا عن التعليقات في مجموعة الجيران في الواتسآب، ولكنالغريب في الأمر أنه في آخر يوم له في حياته، تحدّث عبر الهاتف مع معظم الجيران وربما مع أهله وأصدقائه، وحتى قبل وفاته بسويعاتأدى بعض الخدمات لبعض الجيران، حيث لم يكن يتردّد أبدًا في خدمة الكل؛ فهو الجاهز دائمًا. والغريب أنه عمم الرسالة التالية لأهلهوأصدقائه وجيرانه:
((الأربعاء))
1/3/2023م
*همسة محب
للصابرين ثلاث بشائر بشر الله بها عباده، فقال تعالى:
” ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”.
(طبتم بود)
دارت نقاشاتٌ كثيرةٌ بيننا حول التطعيم ضد كورونا، بعد أن رأى البعض أنّ التطعيم مضرٌ على المدى البعيد، وأنه السبب في انتشار موتالفجأة والسكتات القلبية، فقال مرة إنّ الموت مكتوب وهذه مجرد أسباب، ومن الغريب أنه أصيب بأنفلونزا قبل وفاته بيومين فقط، وعصر يوموفاته ذهب لإحدى العيادات وحقن بإبرة، فهل كان مصابًا بكورونا؟ هل الإبرة لها دور في وفاته؟ هذه مجرد أسئلة، فالأجل قد حان.
في حياته لم يعتب ولم يلم أحدًا، وكثيرًا ما كان يتمثل قول الشاعر بشار بن برد:
إذا كنتَ في كلّ الأمور معاتبًا صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
وكان يتمثل في كلّ أفعاله البيت التالي:
فعش واحدًا أو صل أخاك، فإنه مقارف ذنبٍ مرة ومجانبه
وقد قال لي ونحن عائدان من عزاء عم صديقه الحميم الدكتور ناصر اليحيائي: “يجب علينا في هذه الحياة أن نتعامل مع الناس حسبطباعهم، ويجب ألا نلوم أحدًا؛ فالناس تختلف طباعُهم من إنسان إلى آخر، وما ينبغي أن نلزمهم بما نريد نحن”. وضرب مثلا بي قائلا:”كثيرًا ما أتحدّث مع الجيران عنك، وأقول إنّ زاهر أقرب إلى أن يكون انعزاليًا أو انطوائيًا، لذا يجب أن ندعه كما هو ونعذره، ومع ذلك لمندْعُه إلى أيّ تجمع أو رحلة إلا ووافق”. وبهذه الطريقة والمعاملة الأبوية تعامل مع الكلّ فكان نعم الأب لنا جميعًا – رغم تقارب أعمارنا – وكانفي الحارة هو الشيخ غير المتوج رسميًا، يعامل الكلّ بأبوية صادقة، وبكرم منقطع النظير.
كان رحمه الله يُحسن الظنّ بالله وبالناس، وهذه صفة أصيلة فيه، وقد قاده حسن الظن هذا إلى التفاؤل التام، وكثيرًا ما كنتُ أختلفُ معهبسبب هذا التفاؤل، ورأيي أنّ التفاؤل فقط دون عمل هو تواكل، وأنّ الله ينصر من ينصره، وكان يؤمن إيمانًا تامًا بعُمان وقيادتها، ويستبعدُتمامًا التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعندما فتحت السلطنة أجواءها لمرور الطائرات الإسرائيلية، أظنّ أنه أصيب بصدمة، فلم يعلق أبدًا،واكتفى بالصمت، وابتعد كثيرًا عن المناقشات.
وقد أكرمه الله بأن تكون آخر محطة في حياته على ظهر الأرض قبل التحول إلى باطنها، هي المسجد الذي سعى وأشرف على بنائه وأدارأمره طوال سنوات، إذ صلينا عليه بعد صلاة الفجر مباشرة، بالقرب من المصحف الذي يقرأ فيه القرآن كلّ فجر، وهي نعمة عظمى.
لقد تأثرنا كثيرًا بوفاة أبي هاني. وأنا أمشي خلف جنازته، تردّد في ذهني كثيرًا أنّ الدنيا فعلا لا تساوي شيئا، فلا ينبغي أن ندخل فينقاشات تُسبّب الخصومة، في قضايا لا نملك أن نغيّرها. وقلتُ لنفسي إنّ أبا هاني فعلا كان محقًا عندما كان يعذر الكلّ، فيجب أن نلتمسالعذر لبعضنا البعض، ودارت في ذهني أفكار كثيرة عن الدنيا والموت والآخرة والحلال والحرام، ولكن للأسف إنني أتعظ لحظات ثم أعود إلىغيي، وهذا هو حال معظمنا، ونسأل الله السلامة. وهذه الحال ذكرتني بمحاضرة ألقاها الراحل الشيخ ناصر بن محمد المرموري رحمه اللهفي مسجد السيد حمد بن حمود من سنوات طويلة، حيث شبّه حالنا مع الموت بحال قطيع من الغزلان ترعى في أمان، وإذا أحد الأسودينقضّ على غزالة فيفترسها، فتهرب بقية الغزلان، ولكن بعد دقائق تعود إلى طبيعتها وإلى المرعى وتنسى ما حصل لزميلتها، وكأنّ الموت لنيصيبها هي الأخرى أيضًا، وهذا هو واقعنا تمامًا حتى نشرب من تلك الكأس.
من شدة الحضور الطاغي لعبدالله الأخزمي في مشهد حياتنا اليومية، بت أتصور أنني سألقاه في عزائه أو في المسجد أو في الحارة وهويتريض. نتضرع إلى الله أن يرحم أبا هاني ويتقبل منه أحسن ما عمل ويتجاوز عن سيئاته، وأن يعاملنا ويعامله برحمته، فقد ترك فراغا كبيرامن الصعب ملؤه.
زاهر بن حارث المحروقي