فرضت كومة التراكمات الاقتصادية والإدارية والتنظيمية والتشريعية والمالية والإجراءات على كاهل الأسرة العُمانية متوسطة ومحدودة الدخل، عبئا كبيرا لم تتم تغطيته في منظومة الضمان الاجتماعي، إذ إن واقع الأسر المعسرة ومحدودة الدخل والأسر التي تم تسريح عائلها من عمله، قصة كبيرة وسيناريو محزن ومخيف بات يفرض مسارا آخر في منظومة الرعاية والحماية الاجتماعية، وما زال لم يؤخذ بعين الاعتبار في أجندة العمل الوطنية، إذ لم تعد المسألة اليوم محصورة في منظومة الضمان الاجتماعي، بل وضعت مستجدات الواقع الاقتصادي وطريقة إدارته فئات أخرى فوق السطح لتلقي بثقلها الآخر على منظومة الرعاية والدعم والحماية الاجتماعية.
وبالتالي أين موقع الأسر محدودة ومتوسطة الدخل والأسر التي سُرِّح عائلها والأسر التي باتت تحتضن أكثر من باحث عن عمل من مسألة الاستحقاقات المالية والدعم الحكومي المستدام، وهي الفئات التي باتت تتجه أنظارها ـ وللأسف الشديد ـ مع قدوم شهر رمضان المبارك أو غيره من المناسبات الدينية والاجتماعية إلى مساعدة الفرق الخيرية التطوعية بالولايات لسدِّ احتياجاتها من الطرود والقسائم والسلال الغذائية التي تحوي على الطعام والغذاء واللوازم المالية والمادية التي تحتاجها الأسرة لسدِّ احتياجات أبنائها، أو إعانتها على شراء بعض الملابس لأبنائها، على أن تزايد أعداد الأسر التي تنتظر الدور، وأن تصل إليها هذه المساعدات يعكس حجم العوز الاجتماعي الحاصل، وتزايد الحالات المستحقة خارج تغطية منظومة الضمان الاجتماعي، وتبرز صورة مخيفة للظروف المعيشية التي تلقي بظلالها على حياة المواطن العُماني، وتلقي بمسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والوطنية على دور المؤسسات المعنية في تبنِّي سياسات داعمة لهذه الفئات؛ ويطرح في الوقت نفسه تساؤلات حول موقع هذه الأسر التي لم يتم تسجيلها ضمن منظومة الضمان من واقع المساعدات الحكومية المادية والمالية؟ وإلى أي مدى يؤسس هذا الأمر لمراجعة جادة في قادم الوقت تعاد خلالها تقييم السياسات الوطنية المنظمة لمنظومة الضمان الاجتماعي في استيعاب هذه الأسر والأفراد الذين يزيد أعدادهم في ظل معطيات التسريح والأسعار وغياب سياسات الإنفاق الرشد والاستهلاك السليم؟ ثم إلى أي مدى، آن الأوان للعمل الاجتماعي المخطط القائم على كفاءة البيانات وفاعلية الإحصائيات وسرعة التحديث الفوري المستمر لها عبر وجود قاعدة بيانات وطنية شاملة بالحالة الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية لكل مواطن عُماني والأسرة العُمانية، موزعة حسب الولايات وأعداد أفراد الأسرة ومتوسط الأجور وظروف العيش واستقطاعات البنوك وغيرها من التفاصيل التي يمكن من خلالها تحديد هذه الأسر في سهولة ويسر وبعيد عن التكهنات والاجتهادات الشخصية، بالإضافة إلى إيجاد آليَّات جديدة في برامج تحديد أسر الضمان الاجتماعي بما يتواكب مع طبيعة المتغيرات والظروف الاجتماعية الصعبة التي تعانيها الأسرة العُمانية؟
ومع التحدِّيات الذي يمكن أن تترتب على هذا التوجُّه في ظل سعي الحكومة نحو إخراج فئة الضمان من الاستحقاق، إلا أن واقع الحالة العُمانية والظروف التي باتت تعيشها هذه الأسر تفرض وجود ملفات أخرى للأسر المعسرة ومحدودة الدخل تضاف إلى ملف الضمان الاجتماعي، في ظل ما تشير إليه إحصائيات وزارة التنمية الاجتماعية إلى أن أكثر من 107 ملايين ريال عُماني تُصرف سنويًّا لفئات الضمان الاجتماعي، وبلغ إجمالي عدد حالات الضمان الاجتماعي حتى نهاية فبراير لعام 2023 (72707) حالات، يُصرف لها شهريًّا مبلغ قدره 7 ملايين و681 ألفًا و915 ريالًا عُمانيًّا، وأن إجمالي المعاشات المصروفة سنويًّا 107 ملايين و546 ألفًا و810 ريالات عُمانية، وذلك بعد إضافة معاشين إضافيين تصرف تزامنًا مع عيدي الفطر والأضحى، هذا الأمر على الرغم مما يحمله من أرقام صعبة، إلا أننا نعتقد في الوقت نفسه بأن أعداد الأسر المعسرة ومحدودة الدخل والمسرحين ممن لم يتم تسجيلهم في منظومة الضمان الاجتماعي يفوق أعداد الداخلين ضمن هذه المنظومة، الأمر الذي يطرح اليوم بالحاجة إلى سياسات وطنية تقرأ منظومة الحماية الاجتماعية لكل هذه الفئات في إطار أكثر اعتدالًا وشمولية واتساعًا وعمقًا واحترافية.
من هنا نعتقد بأن مسألة ضبط هذا الملف والتشعب الحاصل فيها، وتقليل حالة الهدر أو التكهنات التي ما زالت تسيطر عليه، بحاجة إلى إعادة تحديد المسار المفاهيمي لهذه الفئات وضبطها في إطار معياري واضح، وأن يكون لمؤشر الفقر حضور في هذه المقاربات؛ باعتباره خطا أحمر يجب أن تعمل السياسات والأطر الوطنية على تداركه ومنعه، هذا الأمر يشمل (الأسر متوسطة الدخل، الأسر محدودة الدخل، الأسر المعسرة، الأسر المتضررة، مؤشر الفقر…إلخ)، إذ ما زالت هذه الفئات خارج الحسبة، كما أنها خارج الضبط المفاهيمي والتـأطير التشريعي الذي يمنحها استحقاق الدخول في منظومة الضمان والحماية الاجتماعية، فقد ظلت أعداد الأسر المعسرة ومحدودة الدخل تُشكِّل رقمًا قياسيًّا صعبًا قد يصل المجتمع إلى خط الفقر، فإن ما تفصح عنه جهود الفرق الخيرية الأهلية في المحافظات والولايات بات يدق ناقوس الخطر، ويؤكد الحاجة إلى مراجعات جادَّة تأخذ في الاعتبار حصول هذه الفئات على استحقاقات الدعم والحماية الاجتماعية ومعاملتها معاملة الداخلين في منظومة الضمان الاجتماعي بعد ضبط وتقننين المفاهيم، ومع أن المسألة اليوم لا تقتصر على توفير الغذاء والمؤونة اليومية لهذه الأسر، فإن المتطلبات المرتبطة بإيوائها من مخاطر الأمطار والأنواء المناخية ومساعدتها في سداد فواتير الكهرباء والمياه، أو سداد ديونها البنكية الإسكانية المتراكمة عليها بسبب التسريح الذي طال أبناءها أو المعيل للأسرة، أمر يفوق قدرة الفرق الخيرية والمجموعات التطوعية الشبابية المنتشرة في المحافظات والولايات، وما تمتلكه من برامج وموارد وممكنات وقدرات، لذلك كانت الحاجة إلى جهد حكومي يعمل على رفع درجة استحقاقات الدعم المادي لهذه الأسر في المحافظات، ممَّن هم خارج منظومة الضمان، وتوفير الممكنات والتسهيلات لها.
وعلى الرغم من أن وجود الأسر المعسرة ومحدودة الدخل يعكس حالة من التباينات الاقتصادية في المجتمع وحالة الإعسار التي تعيشها الكثير من الأسر العُمانية في ظل تدنِّي رواتب التقاعد من جهة أو كذلك زيادة مستوى الطلب على الراتب في ظل عدم وجود بدائل أخرى داعمة، الأمر الذي يطرح مرحلة جديدة من العمل الوطني المؤطر القائم على التوسُّع في خيارات الطرح في التعامل مع هذه الفئات للحدِّ من التداعيات الأمنية والاقتصادية والجرمية الناتجة عنها، من خلال العمل وفق مسارين، الأول يقوم على إعادة حوكمة هذه المنظومة وضبطها بتعريفات وأوصاف واضحة المعالم، ومؤشرات قياس لتحديد مؤشر الفقر، ومؤشر العسر ومحدودي الدخل وغيرهم، إذ من شأن ذلك أن يضمن وجود قواعد بيانات وطنية متكاملة حول الحالات الاجتماعية في كل محافظات السلطنة، الأمر الذي يؤدي إلى الاعتراف بوجود هذه الفئات والتي يبدو أنها ما زالت تعيش حالة الإنكار لوجودها رغم المعطيات التي تبرز انتشارها في المجتمع كظاهرة مقلقة تعيشها الكثير من الأسر العُمانية والتي ضاقت عليها الحياة بفعل التراكمات المالية والظروف الصعبة؛ وأما المسار الآخر فيتعلق بالبحث عن جهد آخر خارج أجهزة الحكومة ومؤسساتها، وعبر تبنِّي سياسات وطنية تؤكد تعظيم التشريعات والبنى الأساسية والناعمة المعززة للعمل الخيري وعبر التوسع في إنشاء الجمعيات التعاونية والفرق الأهلية الخيرية، وتوفير التشريعات اللازمة لانطلاقتها، وتوظيف مداخل البُعد الاجتماعي ومنظومة العلاقات والتفاعلات والشراكات الاجتماعية، وتشجيع إقامة الجمعيات التعاونية والتي تقدم وعبر قسائم اشتراك وتخفيضات لحامليها من ذوي الدخل المتوسط والمحدود والمسرحين والأسر المعسرة، ودورها في فك كربة وإعانة الأسر محدودة الدخل أو الفئات الأخرى ذات القواسم المشتركة، كما يمكن أن تمارس دورها في توظيف أبناء هذه الفئات بما يسهم في إخراجهم من منظومة الإعسار، وعليه فإن وجود هذين المسارين سوف يقلل من حجم المخاطر الناتجة عن هذه التراكمات والتداعيات الأمنية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية والنفسية على الأسر المعسرة ومحدودة الدخل أو كذلك على القِيَم والأخلاق والخصوصية العُمانية.
أخيرا، يبقى دور المحافظات اليوم في ظل الصلاحيات المقررة لها في نظام المحافظات الصادر بالمرسوم السُّلطاني (36/2022) وقانون المجالس البلدية الصادر بالمرسوم السُّلطاني (38/2022) استدراك هذا الأمر، ومنحه المزيد من الاهتمام والتأطير والمراجعة، وتعزيز مسار التوعية بالمحافظة عبر المنصات الاجتماعية، وعبر البحث عن هذه الفئات، واستقراء الأحداث الاقتصادية والحالات المعسرة من واقع البيانات المحدثة، وتشخيص الحالة المجتمعية وفهم مداخلها وتوفير الضمانات الداعمة في قراءة الحالة الاقتصادية وعلاقتها بمكوِّنات وممكنات النسيج الاجتماعي الوطني، لذلك نعتقد بأن ما انتهجته الحكومة من تشجيع إقامة مراكز الاتصالات بالمؤسسات أو في التعامل مع بعض الفئات ذات الصبغة الخاصة والسرية والتي تضمن مصداقية وموضوعية البيانات بات يؤسس اليوم لأهمية وجود رقم اتصالات حول الأسر المعسرة ومحدودة الدخل التي لم تستطع الفرق الخيرية الأهلية الوصول إليها أو لم تشخص حالتها، فإن ما باتت تفصح عنه المنصَّات الاجتماعية من أعداد متزايدة من الأسر المعسرة وزيادة في طلبات تفريج الكربة وعبر المساهمة في دفع مستحقات فواتير الكهرباء والماء والايجارات وغيرها كثير يؤكد اليوم على أن هذا البُعد بما يُمثِّله من مسؤولية أخلاقية وإنسانية واجتماعية يستدعي المزيد من الجهد الحكومي والمجتمعي، وأن يشارك القطاع الخاص بدَوْرٍ محوري في المحافظة على الصورة الإيجابية التي يحملها الإنسان العُماني حول نفسه ومجتمعه ووطنه. ويبقى الرهان في توسيع دائرة التعاطي مع هذه الفئات وإدماجها ضمن منظومة الضمان أو الحماية الاجتماعية مرهونًا بوفرة البيانات وكفاءتها والتحديث المستمر لقواعد البيانات الاجتماعية والاقتصادية والوظيفية للأسرة العُمانية، مع استمرار العمل نحو إخراج هذه الفئات جميعها من دائرة الإعسار ومحدودية الدخل والفقر عبر التمكين والدعم بالتوظيف والتشغيل وتوفير الفرص الاقتصادية لها.
د.رجب بن علي العويسي