ثلاثة أسباب حفزتنى لتأجيل الكتابة هذا الأسبوع فى سلسلة مقالات نزعة «التفرد الأمريكى»، وأقنعتنى بالكتابة عن ذكرى حرب العاشر من رمضان التى مرت السبت الفائت بهدوء ودور جيل السبعينيات من شباب مصر الذى كنت ومازلت أنتمى إليه (على الأقل معنوياً بعد مرور 50 سنة على هذا الحدث). السبب الأول ، أن حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 التى تصادفت مع يوم العاشر من رمضان ستكمل عيدها الذهبى بعد أشهر معدودة، بأمانة شديدة فى مقدورى أن أقول إن هذه الحرب «المجيدة» وهذا النصر العظيم، لم تنل ما يكفى من اهتمام سواء على مستوى التأريخ والتوثيق، أو على مستوى التأليف العلمى والأكاديمى والعسكرى، أو على المستوى الثقافى والأدبى والدرامى والفنى. ولذلك فإن محصلة كل ما جرى القيام به وانعكاساته على الذاكرة الوطنية والعقل الجمعى المصرى والعربى جاءت محدودة ، على الأقل عند الأجيال الجديدة . سؤال مهم نتجاهل الجهر به طيلة عقود خمسة مضت على هذه الحرب هو: لماذا كان عدم الاهتمام هو نصيب هذه الحرب؟ وهل كان هذا متعمداً لانتزاع مردود الوعى الذى كان يمكن أن ترسخه هذه الحرب وهذا الانتصار من الذاكرة الوطنية كى تبقى هذه الذاكرة مفرغة من محتواها الذى يؤصل الوعى بأننا قادرون على صنع النصر وأننا قادرون على الإبهار، وأننا فعلاً حققنا هذا كله على كل المستويات العسكرية والاقتصادية والشعبية؟ وهنا يستوجب أن أتذكر ما ورد على لسان رئيس وزراء مصر العظيم الراحل الدكتور عزيز صدقى، الذى كان وراء هذا الإعداد للاقتصاد الوطنى خاصة قوله إنه «أعطى التمام للرئيس السادات أن مصر تستطيع تحمل الحرب بتبعاتها لمدة 6 أشهر متصلة دون حاجة للاستيراد من الخارج، وأن مخزون مصر من الغذاء يكفى لتحمل احتياجات كل هذه المدة». كان قد قال ذلك فى معرض انتقاده لموجة بيع شركات القطاع العام التى اجتاحت مصر وقال ما نصه إن «القطاع العام هو البطل الحقيقى فى حرب أكتوبر». فقد تحمل كل الأعباء حتى مسئولية بناء حائط الصواريخ الذى كان من أهم أسباب النصر. هناك من يقولون إن «السياسة انتصرت على النصر العسكرى»، وأن الانخراط المبكر فى البحث عن «حل سياسى» للصراع الذى انتهى بزيارة السادات للقدس ثم التوصل إلى اتفاق «كامب ديفيد» الذى أخرج مصر نهائياً من معادلة الصراع ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى كان من أهم أسباب القفز المتعمد على هذا النصر ومحاصرته. ربما تكون هذه الإجابة صحيحة، لكن لا يفوتنا أن العدو الإسرائيلى مازال متربصاً بمصر وأن عيونه لا تغفل لحظة عن قدرات مصر التسليحية وكل ما له علاقة بأوضاع الجيش المصرى وعقيدته القتالية وغيرها من الأمور المهمة التى تؤكد أن الصراع مازال مستمرا ، وإن كان بأدوات أخرى، وأن تخليد حرب أكتوبر / العاشر من رمضان واجب وطنى تحتمه دروس التاريخ وتؤكده الطموحات الإسرائيلية لإقامة الدولة اليهودية على كل أرض فلسطين. من هنا أجد أنه بات حتمياً أن نستعد من الآن للاحتفاء بالعيد الذهبى لهذا النصر العظيم وتعويض ما فاتنا من استعدادات، وأن يكون الهدف هو جعل نصر أكتوبر فخراً لكل الأجيال الجديدة من المصريين وتخليداً لأبطالنا العظماء وبطولاتهم الأسطورية. السبب الثانى هو أن جيل السبعينيات الذى تحمل العبء الأكبر فى هذه الحرب مهم أن يحظ بالاهتمام الكافى. هذا الجيل عاش نكسة يونيو 1967 بكل انكساراتها مبكراً، كان فى السنوات الجامعية الأولى أو فى السنوات النهائية فى المدارس الثانوية عندما وقعت النكسة. وهو الجيل الذى اندفع نحو الكليات العسكرية للالتحاق بها، وهو الذى أكمل دراساته الجامعية والتحق مباشرة بالجيش ابتداء من أعوام 1968 إلى عام 1973، لذلك فهو الجيل الذى خاض الحرب وانتصر فيها وتحمل كل أعبائها، وهو الجيل الذى انكسر مرة ثانية عقب انتصار أكتوبر مع موجة الانفتاح الاقتصادى وبيع القطاع العام، والانخراط فى سلام كاذب مع العدو الإسرائيلى، وهو الجيل الذى عاش مرارة تقزيم النصر، وهو الذى تصدى لموجات التطبيع مع كيان الاحتلال، وهو الذى انخرط فى معارك الدفاع عن العروبة فى جميع أقطارها فى فلسطين والعراق وسوريا ولبنان.
وهو نفسه الجيل الذى ملأ ميدان التحرير فى الأسبوع الأول بالذات من ثورة 25 يناير قبل أن تنزل جحافل الإخوان لتختطف الثورة وهو ذاته الجيل الذى تصدى للإخوان لاستعادة الثورة فى 30 يونيو. هو بحق «جيل المسئولية الكبرى» الذى لم ترو بطولاته بعد، ولم توثق أدواره بعد، ابتداء من الانتفاضة الطلابية عام 1968 التى خرجت للاعتراض على «الأحكام المخففة» لقادة الطيران عقب نكسة 1967، والانتفاضة الطلابية عام 1972 التى خرجت لتطالب بـ «حتمية الحرب» ورافضة أى محاولة لتسويغها واستبدالها بمبادرات سلام على غرار مبادرة الرئيس السادات فى 4 فبراير 1971 أى بعد أربعة أشهر فقط من رحيل الزعيم جمال عبد الناصر. هذا الجيل يكمل هو الآخر نصف قرن من نضالاته كما هى حرب أكتوبر، لذلك فإنه يستحق هو الآخر أن توثق أدواره وبطولاته العسكرية والمدنية ، السياسية والثقافية، فهو الجيل الذى سوف تبنى على إنجازاته الأجيال المصرية القادمة.
السبب الثالث هو أن عدداً كبيرا من قادة الحركة الوطنية المصرية من أبناء جيل السبعينيات خاصة قادة الحركة الطلابية المصرية قد بدأوا الرحيل إلى عالم الخلود الواحد تلو الآخر، ومعهم ثروة هائلة من المعلومات والأفكار والأدوار التى لم توثق بعد، فقد رحل فى السنوات الأخيرة وفى الأشهر الأخيرة عدد كبير من أعز الزملاء والأصدقاء، وبرحيلهم بات من المحتم ضرورة الإسراع فى توثيق نضالات جيل السبعينات خاصة علاقته بحرب أكتوبر المجيدة، وهو الجيل الذى كان عن جدارة عنوان تلك المرحلة المضيئة من حياة مصر، وبه تكتمل أسطورة النصر المجيد الذى سيظل خالداً فى وجدان الشعب المصرى وشعبنا العربى فى جميع الأقطار العربية.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام : 4 / 4 / 2023م