ينطلق طرحنا وتناولنا للموضوع ممَّا تشهده الأيام العشر الأخيرة من رمضان، وكذا الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة من فعاليات تراثية وعادات اجتماعية وطنية متوارثة تحمل الكثير من المدلولات الإيجابية التي تعكس نموذجًا اجتماعيًّا في تنشيط الحركة الاقتصادية اعتمدها المجتمع العُماني في تأريخه الطويل، ليمارسها قَبل المواسم الدينية (عيدي الفطر والأضحى) لبيع وعرض السلع المرتبطة باحتياجات الأهالي في هاتين المناسبتين، وشراء مستلزماتهم من الكماليات والملابس والزينة واحتياجاتهم من اللحوم وغيرها، وعَبْرَ ما يُسمَّى بـ»الهبطة» وهي سوق تقليدي موسمي يقام قَبل عيد الفطر وعيد الأضحى في مختلف ولايات سلطنة عُمان، وتختلف أيام إقامتها من ولاية لأخرى وتُسمَّى أيضًا بـ: الحلقة والجِلب. ونظرًا لِما تُشكِّله الهبطة من أهميَّة اقتصادية وتجارية وفرصة سانحة لتنشيط الحركة الشرائية في الولايات وبيع المنتجات المحليَّة، ممَّا انعكس إيجابًا على قناعات أبناء المجتمع من الشباب والصغار والكبار في استغلال هذه المواسم والأوقات للذهاب إلى الهبطة وشراء المستلزمات العيدية، بل وحتى القيام بالبيع وعرض ما لديهم من سِلع وبضائع، فإنها أيضًا تعبير عن سلوك اجتماعي جمعي يؤسِّس للغة الحوار والتكامل والتعايش والألفة وإنتاج الفرص في ظل ما يرافقها من لقاءات وجلسات ونقاشات، وهي في ظلِّ ما تقدِّمه السياحة التراثية والثقافية من فرص تُمثِّل بُعدًا سياحيًّا ومساحة ترفيهية للأهالي والمقيمين والزوار، وتوافد السياح إليها في الاختلاط بالناس والتقاط بعض الصور الجميلة حول ما يتخلل هذه الهبطات من عادات وتقاليد وما يتداول فيه من مفاهيم للبيع والشراء وما يعرض فيها من صنوف المنتجات المحلية والبضائع التي قد لا توجد في أماكن وأوقات أخرى؛ لِتكُونَ الهبطات محطة تسويقية من الدرجة الأولى وفرصة تجميعية لكلِّ السلع والبضائع، وما ينتجه الأهالي والأُسر من مستلزمات لِتكُونَ في موقع واحد.
لقد حظيت هبطات العيد، في ظلِّ ما تُمثِّله من موروث تاريخي وحضاري عُماني أصيل، باهتمام الحكومة، وفتحت الأسواق التقليدية والمطوَّرة لها لتمارس فيها عادات التسوق الشَّعبي المعتادة، غير أن الوجْه الآخر من الصورة التي يرصدها مستقبل هذا الموروث في ظلِّ التخطيط العمراني اليوم يضع عليها علامات استفهام كبرى، وبشكلٍ خاصٍّ في الولايات التي أصبحت فيها المواقع القديمة لهبطات العيد غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المواطنين والمقيمين والزوار المترددين على هذه الهبطات، في ظلِّ الازدحام والكثافة أو أن تلك الأماكن أصبحت مكتظَّة بالسكَّان، ليتمَّ نقلها إلى أماكن أخرى ومواقع قريبة من الطُّرق الرئيسية للولايات بحيث يسهل الوصول إليها وتستوعب عددًا أكبر من الحضور، كما تتوافر لها المداخل والمخارج التي تُسهِّل حركة الدخول إليها والخروج منها، وهو أمْرٌ لعلَّه يتَّجه إلى الاستقرار في أكثر الولايات ومحافظات سلطنة عُمان؛ هذه الصورة القاتمة قد تُمثِّلها هبطة العيد بمحافظة مسقط وتحديدًا ولاية السيب، خصوصًا في ظلِّ عدم الاستقرار على موقع لهذه الهبطة في الخريطة العمرانية التخطيطية والهيكلية، إذ ما زالت اليوم تبحث عن موقع لها ومكان يحتويها في ظلِّ حركة الانتقال العشوائية التي باتت تمارس في حقِّها، ولعلَّ المبرر في ذلك حجم الكثافة السكَّانية المتَّجهة إلى ولاية السيب بكُلِّ مُدنها وأحيائها السكَّنية، ليضعنا قرار محافظ مسقط والوارد على لسان والي السيب برقم (10/2023) بنقل هبطة العيد لِتكُونَ في المنطقة المحيطة بمسلخ بلدية مسقط بالسيب في منطقة المعبيلة الجنوبية، حيث قامت بلدية مسقط بتجهيز الموقع ببعض الخدمات الضرورية والمرافق الأساسية، وما تحمله رسالة الوالي إلى المواطنين بالدعوة إلى تنشيط هذه الفعالية لإحياء العادات المتوارثة.
هذا الأمْرُ وحركة التغيير المتسارعة الحاصلة في تحديد موقع الهبطة يطرح اليوم تساؤلات تخطيطية لهذه المدينة العريقة، حول أين موقع الموروث الاجتماعي في المسار التخطيطي العمراني والحضري في محافظة مسقط؟ فمع أهميَّة ما ورَدَ في خطاب والي السيب في جزئية « تنشيط هذه الفعالية لإحياء العادات المتوارثة» فإنَّها في الوقت نفْسِه تضع علامات استفهام كبرى على موقع هذا الموروث بكلِّ تفاصيله في التخطيط الحضري، وعلى الرغم من أن الاستراتيجية العمرانية لمحافظة مسقط أكدت على أهميَّة استحضار البُعد الثقافي والموروث الحضاري لهذه المحافظة وولاياتها في عمليات التخطيط وتوزيع الأراضي، إلا أن التحدِّي اليوم في قدرة التخطيط العمراني الحضري على إعادة هيكلة وهندسة العمليات التخطيطية الإسكانية، والتوسُّع العمراني الذي اِلْتهمَ هذه المساحات المتاحة لتنفيذ هذا الموروث؛ وبالتالي هل سيكون لهذه الهبطات بعد فترة زمنية معيَّنة موقع في محافظة مسقط في ظلِّ ما يظهر من عشوائية عمليات التخطيط العمراني التي باتت تلتصق بها في ظلِّ آليَّات توزيع الأراضي، وعدم وضوح مسار التنفيذ في أكثرها؟ هذا الأمْرُ قد ينطبق على موقع الهبطات والأسواق التقليدية المحدَّثة ليشمل مواقع المتنزهات والحدائق والمتنفَّسات الترويحية والشوارع وخطوط الخدمات الرئيسية، في ظلِّ تعدِّي المخططات السَّكنية على هذه المواقع. على أن الحديث عن هبطة السيب كأحد النماذج التي باتت تواجه خطر الاحتضار نتيجة التعدِّي الحاصل عليها، يعود بالذاكرة إلى موقع هبطة السيب السابق المتوسط بين وادي اللوامي والبحائص والقريب من سوق السيب التقليدي، لينتقل في ظلِّ ما ارتبط به من ازدحام وصعوبة الحركة والتنقل وعدم وجود تجهيزات متكاملة له، ليتمَّ نقله إلى منطقة جنوب المعبيلة في حي التضامن التي ما زالت في تلك الفترة تشهد باكورة التعمير لها والنزوح إليها، يومها لم يكن هناك من مساكن تحيط بهذا الموقع حتى بدأت البيوت في النهوض ليتضرر الأهالي القاطنون في تلك المناطق من الازدحام الكثيف والروائح الكريهة والإزعاج، وعدم وجود بيئة تسوق مكانية مناسبة تظلُّ الناس من شمس الصيف الحارقة أو تحافظ على بضائعهم من الأتربة والغبار، وما هي سوى سنوات معدودة، لينتقل إلى موقع آخر في الحي التجاري ـ والقريب من مسقط مول في وادي الخوض، وهو السيناريو الذي ما زال يكرر نفْسه في عدم وجود بيئة تسوُّق مكانية تصنع من هذا الموقع مكانًا آمنًا للبيع والشراء. ولأن المنطقة في بداية تعميرها كان في نقله إليها فرصة أكبر للتخلص من زحمة المنطقة الصناعية بالمعبيلة، وما هي سوى سنوات معدودة أيضًا حتى أحاطت البنايات العالية بالموقع وأصبح من الصعوبة بمكان بقاء هبطة العيد في ذلك الموقع؛ نظرًا للازدحام والكثافة المرورية وعدم تأهيل شارع النزهة المخرج الرئيسي لتلك المنطقة إلى شارع مسقط السريع، ولِما قد يسببه وجود هذه الهبطات من حركة دائبة لا تنتهي، ليأتي القرار الجديد بنقله إلى المكان القريب من مسلخ بلدية مسقط بالسيب، هذا المكان الذي يشهد اليوم توسُّعًا عمرانيًّا سريعًا وظهور منطقة إسكان جديدة محاذية لمركز شرطة عُمان السُّلطانية. فقَبْل فترة وجيزة كان موقع مسلخ بلدية مسقط بعيدًا عن الأحياء السَّكنية، بينما اليوم تحيط به المخططات السَّكنية من كلِّ جانب، والسبب في ذلك أن مسار التخطيط العمراني لم يراعِ متطلبات تحقيق المعايير والشروط التي تحفظ استدامته والحفاظ على وجوده بعيدًا عن الأحياء السكنية، ولم يستدرك مشكلة الروائح الكريهة التي قد تُشكِّل في قادم الوقت تحدِّيًا لسكَّان المنطقة، ذلك أن الوجْه الإسكاني الجديد في هذه المنطقة، بات يرسل إشارات استغاثة إلى الجهات المعنيَّة ممثَّلة في بلدية مسقط ومحافظ مسقط والمجالس البلدية تظهر امتعاض السكَّان القاطنين في تلك المنطقة من روائح كريهة للحيوانات، بما يعنيه ذلك أن وجود المسلخ اليوم بات مهددًا بإبعاده من تلك المنطقة، فماذا يعني نقل هبطة العيد إليها، وهي سيستقر بها المطاف هناك في ظلِّ ما أشرنا إليه من موقف الأهالي من المسلخ ذاته؟ أرجو أن لا يكون ما أتوقعه من أن الأمر لن يستمر أكثر من 5 سنوات أو أقلَّ إلى أن يتمَّ نقله في مكان آخر ولكن أين؟ هل سيكون هذه المرَّة ضِمْن أحرامات مسقط الكبرى ـ خارج محافظة مسقط الحالية؟
تساؤلات يجب أن تضعها الجهات المعنيَّة في أجندة عملها، فإذا كانت محافظة مسقط وبخاصة ولاية السيب تشهد كثافة إسكانية كبيرة ونزوحًا إليها من المناطق الأخرى كالخوير والغبرة والعذيبة وروي وغيرها، والتخطيط فيها يتمُّ دُونَ مراعاة لِما تحتاجه هذه المناطق في المستقبل من خدمات ومواقع يجب أن يكون لها حضورها في قاموس التخطيط الحضري، والتراجع الحاصل في مسار المفاهيم المطروحة منذ فترة حول مدن المستقبل « مسقط مدينة مستدامة وأنسنة المدن والمدن الذكية»، في ظلِّ التخطيط الإسكاني الذي بات يتَّجه إلى العشوائية، كلُّ ذلك وغيره يطرح تساؤلات عدَّة حَوْل مسار التخطيط الحضري في مسقط عامَّة والمعبيلة خاصَّة؛ كونها منطقة إسكان حديثة لم يتجاوز عمرها التخطيطي عقدًا من الزمن، ولعلَّ الفرصة مواتية اليوم في ظلِّ ما يشار إليه من قِبل المختصين من أن المواقع الفضاء في المعبيلة ما زالت تُمثِّل اليوم ما يزيد عن 50% من نسبة الاستخدام، وبالتالي أين موقع هذا الموروث العُماني الذي تمَّ وضعه ضِمْن أولويات رؤية «عُمان 2040» من منظومة التخطيط الحضري؟
من هنا نعتقد بأنَّ بناء مُدن ذكية قادرة على إدارة المستقبل والتعامل معه، بما لا يفقد المكان خصوصيته التاريخية والتراثية والسياحية، وتحقيق مفهوم أعمق لأنسنة المُدن، والمُدن للحياة، والعيش الآمن، معادلة بين تعظيم التراث والثقافة والموروث الحضاري وإدماجه في عمليات التخطيط الحضري بالشكل الذي يضيف فيه بُعد الجمال والذوق ويشعر فيه السكَّان القاطنون بانتمائهم لهذه القِيَم والموجِّهات مع رفع سقف الفرص الوظيفية والاقتصادية والمهارية والذوقية التي تعظم من متطلبات الواقع ورؤية التطوير القادمة، فمن جهة تحفظ مساحة أكبر للخصوصية، ومن جهة أخرى تحافظ على جودة النموذج الحضاري والمعايير المحققة للاستدامة والترويح وجودة الحياة في ظلِّ بيئات نموذجية صحية ومريحة وآمنة وبعيدة من الأمراض والروائح لتحافظ على جمالياتها ونظامها وتخطيطها. أخيرًا، فإنَّ إعادة إدماج البُعد التاريخي والموروث الحضاري الاجتماعي مع رؤية مسقط مدينة المستقبل، بات اليوم يطرح على الجهات المعنيَّة تحوُّلات كبرى في مستوى التفكير وعمليات التخطيط ورسم السيناريوهات، والخروج من نمطية الممارسة والرتابة والتكرارية، وتتطلب المزيد من العمق والحدس في قراءة معطيات المستقبل والمؤشرات المرتبطة بجودة الحياة في المُدن، وتبقى المحافظة على البُعد الثقافي والاجتماعي بكلِّ تفاصيله ومكوِّناته وتعبيراته ومنها «هبطة العيد»، محطَّة متجدِّدة لتغيير وجه الخريطة العمرانية وتصحيح مدخلاتها، والإبقاء على مساحة الاستدامة والابتكارية والتنوُّع والجاهزية فيها، في ظلِّ قَبول هذا التنوُّع الثقافي والخصوصية الاجتماعية التي ظلَّت حاضرة في محافظة مسقط ومحافظة عليها لسنوات عدَّة. لذلك نقرأ اليوم في استراتيجية التخطيط العمراني محطَّة لإنقاذ ما يجب إنقاذه من العادات والتقاليد التي تحتاج ممارستها إلى موضع قدم على الأرض ومكان في الهيكلة الحضرية والتخطيط العمراني بعيدًا عن أي اعتراضات أو شكاوى من السكَّان، فإنَّ محاولة تهميش البُعد الاجتماعي وإقصائه من عمليات التخطيط العمراني بحجة توفير الأراضي للناس أمْرٌ غير مبرر ويتعارض مع مفهوم مدن المستقبل، وهو في نظرنا أحد أسباب هذا التراجع في كفاءة الخريطة العمرانية في محافظة مسقط تحديدًا، فهل ستثبت هبطة العيد أمام هذه المناورات الحاصلة والتعدِّي على أحراماتها؟ وهل ستجد بلدية مسقط مكانًا أكثر استقرارًا لهذه العادات المتوارثة والتي أثبت الواقع أهميتها والحاجة إليها وقيمتها المضافة في تشكيل الوجْه المُشرق لمحافظة مسقط؟
د.رجب بن علي العويسي