فرضت معطيات الحالة الاقتصادية في سلطنة عُمان وجملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في سبيل تعزيز الاستقرار المالي والاستدامة الاقتصادية، تحوُّلات كبيرة أدَّت إلى المزيد من الضغوطات الاقتصادية على المواطن، فمع وقف الترقيات لفترات طويلة، ورفع سقف الرسوم على الخدمات الحكومية، ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء والماء، لتضيف ضريبة القيمة المضافة إلى هذه الأحداث فصولًا من الظروف والمعاناة لها مخاطرها على حياة المواطن المعيشية، وقدرته على التكيف مع متطلبات هذا الواقع، هذا الأمر يأتي في ظلِّ استمرار البنوك التجارية في سياستها الانتهازية الربحية الصرفة المستغلة للمواطن في أصعب الظروف وأحلك المواقف؛ يضاف إلى ذلك ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل لتصل إلى ما يقارب من 85 ألف باحث عن عمل، وارتفاع أعداد المسرَّحين العُمانيين من القِطاع الخاص الذين يتحملون مسؤوليات أسرية وعائلية وقروضًا بنكية إسكانية وشخصية لتتجه بهم الظروف إلى الملاحقات القانونية في المحاكم، لتُشكِّل ظاهرة ارتفاع الأسعار هي الأخرى اليوم هاجسًا للمواطن عامة والفئات ذات الدخل المحدود والفئات المعسرة وفئات الضمان الاجتماعي والمتقاعدين من الدرجات المالية المتدنية والمسرَّحين من أعمالهم باتت تشغل تفكيره، وتستنزف جيبه، وتستهلك موارده؛ على أن تحدِّيات المسألة الاقتصادية لم تنتهِ عند هذا الحدِّ، بل استمر الضغط الاقتصادي على المواطن بشكلٍ آخر عبر التعقيد في الإجراءات، والتطويل في الآليات للحصول على خدمة امتلاك مشروع يساعد به نفسه، بأقل تكلفة وأكثر سرعة، وتزايد حدَّة الروتين والبيروقراطية التي أنهكت الواقع الإداري والاجتماعي، ناهيك عن حجم البطء في الخدمات البلدية والإسكانية والإجراءات الأخرى المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية والصناعية والتجارية ومشروعات الشباب، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والقروض البنكية والسياسات التمويلية لبنك التنمية العُماني.
من هنا يأتي طرحنا للموضوع، إلى أيِّ مدى يمكن أن يكون لهذه الإجراءات والمسارات تداعياتها على الواقع الاجتماعي، وما الصورة الأخرى التي باتت تعكسها على السلوك الاجتماعي العام؟ فمع القناعة بأنَّنا لسنا المجتمع الفاضل، وقد يرى البعض أن حصول مثل هذه الممارسات في مجتمع يشهد تحوُّلات كبيرة في منظوماته الاقتصادية أمرًا عاديًّا، إلا أنَّ ما يطرحه التقرير الأخير للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول الجرائم والجناة لعام 2021 وبشكلٍ خاص حول حصول الجرائم الواقعة على الأموال على المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان للعامين 2020 و2021 يعطي مؤشرات وإجابة مقنعة حول التساؤل الذي طرحناه، ويستدعي البحث عن معالجات جادَّة وشراكات يجب أن تتمَّ في الحدِّ من هذا الارتفاع ومخاطر تأثيره على النسيج الاجتماعي والهُوِيَّة العُمانية والقِيَم الأخلاقية، حيث تشير الإحصائيات إلى أنَّ عدد الجرائم المسجَّلة في عام 2021 بلغت (12812) بارتفاع بلغ (13%) عن عدد الجرائم المسجَّلة في عام 2020 والتي بلغت (11.312)، ومن حيث تصنيف الجرائم فإنَّ الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابًا في عام 2021 بـ(4121) بنسبة 32.2% بما يزيد على عددها في عام 2020 م حيث بلغ عددها (3.422) جريمة وبنسبة (30%) لتُشكِّل الجرائم الواقعة على الأموال المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان في السنوات الأخيرة؛ وأنَّ 98% من هذه الجرائم الواقعة على الأموال تتركز في السرقة والشروع فيها، والاحتيال، وإساءة الأمانة، والإضرار بالأموال الخاصة. مع العلم بوجود جرائم أخرى تتفاوت في حجم ممارستها وتقع تحت هذا التصنيف، مثل: الإضرار بالأموال العامة، والحريق قصدًا والشروع فيه، والقرصنة الإلكترونية واستعمال بطاقة الغير دون علمه، والتعدِّي على البطاقات المالية، أو غيرها مما يتحدث عنه الواقع كالغش والنصب والابتزاز الإلكتروني والمحافظ الوهمية والنصب على المواطن في الحسابات البنكية، ومشكلات تتعلق بعدم دفع الإيجارات السكنية والتجارية، واستغلال المناصب الوظيفية، واختلاس المال العام، والابتذال الخلقي من خلال الحصول على المكاسب السريعة عبر الدعاية والإعلانات التجارية، والشهرة وحب الظهور في المنصَّات الاجتماعية مقابل الحصول على المال على حساب الدِّين والشرف والعِرض والقِيَم، والحالات المتعلقة بالتسوُّل وغيرها من الظواهر الاقتصادية السلبية التي باتت تمارس بآليَّات وطُرق وأوصاف احترافية ومن فئات مختلفة في المجتمع.
وعليه، فإنَّ قراءة هذه المؤشرات، واستقراء الآثار والتداعيات الأمنية الناتجة عن هذه الإجراءات الاقتصادية، يؤسس لمرحلة متقدِّمة من العمل الوطني الموجَّه الذي يقرأ الحالة الاقتصادية في إطار المنظومة الاجتماعية والأمنية وعلاقتها بمُكوِّنات وممكنات النسيج الاجتماعي الوطني، فهي ليست حالة منفصلة عن الواقع، لذلك فإنَّ أيَّ سياسات أو توجُّهات أو إجراءات اقتصادية يجب أن تأخذ في الحسبان قِيَم المجتمع والهُوِيَّة العُمانية والظروف الاجتماعية والحالة المعيشية للمواطن وحجم الدخل، حتى تكون الممارسة الناتجة متناغمة مع الإطار الوطني العام، ولا تتسبب في أيِّ خلل في ثوابتها ومرتكزاتها الأصيلة، كما لا يكفي في ذلك الاعتماد على الدراسات والبحوث النظرية أو الأدوات التي تعطي إجابات غير واقعية أو مضلِّلة لإثبات تأثيرها القطعي المباشر أو غير المباشر، بل من الأهمية الوقوف عند كلِّ محطَّات التحوُّل التي يعيشها العُماني والتحدِّيات والظروف التي يواجهها، والحالة المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والاستهلاكية والعادات والتقاليد، مع الأخذ بعَيْنِ الاعتبار بعض المعطيات التي ما زالت حاضرة إلى اليوم في النسق الاجتماعي وهي الفئات ذات الدخل المحدود، والفئات الأخرى خارج منظومة الضمان الاجتماعي ذاتها والتي أشارت إحصائيات وزارة التنمية الاجتماعية إلى أنَّ إجمالي عدد حالات الضمان الاجتماعي حتى نهاية فبراير لعام 2023 بلغت (72707) حالة، واتسعت فئة الضمان لتشمل (الأيتام، والأرامل، والمطلقات، وغير المتزوجات، والعجزة، والشيخوخة، والمهجورات، وأسر السجناء، والفئات الخاصة)، بما تعنيه في ظلِّ معطيات الحالة الاقتصادية الجديدة من توقع عودة الارتفاع في أعداد فئة الضمان الاجتماعي، ذلك أنَّ التراكمات الاقتصادية أفصحت اليوم عن وجود حالات في المجتمع تتقاسم الظروف الاقتصادية الصعبة مع فئات الضمان الاجتماعي، إلَّا أنَّها خارج نطاق الدعم الحكومي.. فهناك الأُسر محدودة ومتوسطة الدخل والأُسر التي سُرِّح عائلها والمتقاعدون من الدرجات المالية المتدنية والمسرَّحون من أعمالهم والذين تراكمت عليهم الالتزامات الاقتصادية الأُسرية والاجتماعية والقروض البنكية والإيجارات وغيرها كثير، والأُسر التي باتت تحتضن أكثر من باحث عن عمل، ممَّن لم يتمَّ تسجيلهم في منظومة الضمان الاجتماعي، وهي تُشكِّل اليوم رقمًا صعبًا في معادلة البناء الاجتماعي والرعاية ومنظومة الحماية الاجتماعية؛ فإنَّ استيعاب الظروف الاقتصادية لهذه الفئات ووضعها ضِمْن منظومة الحماية الاجتماعية سوف يقلل من حجم الممارسات الاقتصادية غير المشروعة والظواهر الاقتصادية التي باتت ترفع هذا التصنيف.
وفي المقابل فإنَّ ما أفصحت عنه المؤشرات من أنَّ 51% من الجناة هم غير عُمانيين، يدعو إلى تبنِّي سياسات وطنية واضحة في الحدِّ من العمالة غير المرخَّصة والسائبة والعمالة المستترة ووضع الضوابط الرادعة لمنع وصول هذه الفئة إلى سلطنة عُمان، بالإضافة إلى ضوابط رادعة للممارسات الاستفزازية وحالة الاستهتار التي باتت تمارسها، كونها تعمل بطريقة غير مشروعة فإمَّا أن تكون هاربة أو متسللة أو مؤجرة لدى الغير أو مشغَّلة في مهن مخصصة للعُمانيين، في ظلِّ ما يحصل من عدم التزام أصحاب العمل أو الكفيل بتوفير عمل فعلي للعمال المصرح له بتشغيلهم، واقتصاره على مجرد استقطاع مبلغ شهري يودع في حسابه الشخصي دون سؤال عن الأعمال التي تقوم بها هذه الفئات، ودون مراعاة لِما قد تسببه أو تتسبب فيه من ضرر لمجتمعه؛ أو ما تمارسه من غش واحتكار وتزوير، أو قيامها بممارسة أنشطة اقتصادية مخصصة للمواطن دون غيره. وما تحمله الأيدي العاملة الوافدة غير المرخَّصة من ثقافات وأفكار هدفها الربح السريع والحصول على المال في أسرع وقت وبأقل جهد، وما قد تطبعه على واقعها من ممارسات غير قانونية، عبر دخولها في أنشطة البناء والتوصيلات الكهربائية وما ينجم عنها من مخاطر على حياة المواطن، إذ تمارسها دون خبرة أو إتقان لها، وعلى عجل وخوف وخلسة وعدم اطمئنان من أمرها، ناهيك عن جرائم التزوير وحالات الغش التجاري والغذائي والاحتيال والجرائم الأخلاقية والإلكترونية وغير ذلك كثير.
أخيرًا، وفي ظلِّ هذه المعطيات، يبقى التأكيد على أهمية العمل الوطني المشترك في بناء استراتيجيات عمل منتجة تقوم على كفاءة البيانات والمعلومات ودقتها وتحديثها المستمر واستخدام الأدوات المناسبة لرصد الواقع والتحوُّلات الحاصلة في مسار الجريمة والدوافع والأسباب التي تقف خلفها والضرورات التي باتت تُشكِّل الوجه الآخر السلبي في المجتمع العُماني وعبر الوقوف على واقع القضايا الاقتصادية المتداولة في أروقة المحاكم والادعاء العام وشرطة عُمان السُّلطانية، وهي في اتساعها وسرعة انتشارها وسيطرتها على المشهد الاقتصادي والاجتماعي؛ إنَّما تعكس تراكمات الصورة الأخرى التي باتت تشوِّه إشراقة السَّمت العُماني والشخصية العُمانية، وبات البحث عن بدائل مقنعة مقننة، وحلول استراتيجية مستدامة تقف على هذا التحدِّي، وسياسات وطنية تقرأ منظومة الحماية الاجتماعية لكلِّ هذه الفئات في إطار أكثر اعتدالًا وشمولية واتساعًا وعمقًا واحترافية؛ بالإضافة إلى أهمية توجيه مسار الإجراءات الاقتصادية بطريقة تضمن حماية كيان المجتمع والمحافظة على نسيجه الاجتماعي وروح الانتماء والولاء التي يتمتع بها، وتقوية فرص التكافل الاجتماعي وتنشيط نظام الحماية الاجتماعية لصالح جودة حياة المواطن، بحيث تضمن المراجعات والتقييمات الدورية التي تنتهجها الحكومة لِما اتخذته من إجراءات اقتصادية سابقة، محطَّة لحماية المواطن من أيِّ انحراف يبرر اتجاهه إلى هذه الظواهر والممارسات، وإيجاد إطار عمل وطني مقنن في دراسة هذه الظواهر وإنتاج الحلول المناسبة لها، منطلقًا من تشخيص المخاطر المترتبة عليها، والآثار الناتجة عنها، وأولوية التعامل معها، والأدوات التي تحتاجها، ومستوى انتشارها في المحافظات والمتغيرات أو الظروف التي باتت تروج لها، بالإضافة إلى أهمية أن تشهد المرحلة جهدًا آخر خارج أجهزة الحكومة ومؤسساتها، وعبر تبنِّي سياسات وطنية تؤكد تعظيم التشريعات والبني الأساسية والناعمة المعزِّزة للعمل الخيري وعبر التوسع في إنشاء الجمعيات التعاونية والفرق الأهلية الخيرية، وتوفير التشريعات اللازمة لانطلاقتها وتوفير ضمانات الحماية والرعاية لها، وتوظيف مداخل البُعد الاجتماعي ومنظومة العلاقات والتفاعلات والشراكات الاجتماعية، وتعظيم ثقافة العمل التطوعي والتكافل الاجتماعي، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ذات الصلة (جمعيات المرأة العُمانية، وفرق العمل التطوعي بالولايات، والأندية الرياضية والثقافية، المجلس البلدي بالمحافظات، ورجال الأعمال وأصحاب الأيادي البيضاء) بما من شأنه خلق روح وطنية عالية في تفريج الكرب ورعاية محدودي الدخل والأُسر المعسرة ومساعدة المسرَّحين والباحثين عن عمل، وتبنِّي مبادرات وطنية تستهدف تخفيف الظروف الاقتصادية التي يمر بها المواطن عبر منحه حزمة من الامتيازات والحوافز في مختلف المجالات الحياتية اليومية تضمن انحسارًا فعليًّا لأثر هذه الظروف وتحجيمًا للممارسات الاقتصادي غير المسؤولة التي باتت تُشكِّل خطرًا على أمن الوطن وحياة المواطن وصحته الجسدية والنفسية والفكرية.
د. رجب بن علي العويسي