في ظلِّ ما يعصف بالواقع الأُسري والاجتماعي من رياح التغيير السلبي وضياع العلاقات الاجتماعية، وكومة التراكمات والتباينات والاختلالات والنزاعات والخلافات التي يعيشها الكثير من الأُسر، وحالة الحساسية المفرطة من النصح أو النقد أو التوجيه، والهشاشة التي يعيشها الكثير من العلاقات الأُسرية المتجهة للمصالح الوقتية، وضيق الصدر في قَبول زلَّات الآخرين وسقط كلماتهم وعفوية تعبيراتهم، وحالة الانسحاب والهروب التي باتت تُشكِّل الوجْه السائد في العلاقات الأُسرية، بحجة العمل أو غيرها، وما لازمها من فجوة الحوار مع الأبناء وعدم الاكتراث بسماع أحاديثهم أو الحديث معهم أو التعرف على مستجدات واقعهم اليومي، وما نتج عن ذلك من ارتفاع سقف الخلافات الأُسرية والزواجية والعائلية لتظهر مشكلات الطلاق والميراث، وتزيد الشكاوى بين الأقرباء والأصدقاء والأرحام، الأمر الذي أدَّى إلى اتساع الفجوة وعمق الهوة، وضيق الصدور، وسرعة إصدار الأحكام، وكثرة الشك وسوء الظن، وضعف مساحة القَبول بالآخر، والأنانيات وتكريس لغة الفوقية والفردانية. كل ذلك وغيره كثير، إنما يرجع في الأساس إلى غياب ثقافة الحوار الاجتماعي وفهم الآخر والنزوع إلى الذاتية والفردانية وسلطوية الرأي. من هنا لم تعد مسألة بناء ثقافة حوارية متوازنة قائمة على أُسس ومبادئ الحوار الرشيد والحقوق والواجبات والتعددية والإيمان بالمشتركات والثقة في الآخر اليوم حالة قائمة على المزاجية والاختيار الوقتي، بقدر ما هي خيار رشيد لبناء علاقات الود والتعاون والتكامل وخلق مدد للأخوة الإنسانية وتعظيم الروابط المشتركة وفق مبادئ التكامل البشري والوعي الإنساني والمصالح المشتركة والمؤتلف الإنساني والمشترك القِيَمي وتقاسم المسؤوليات، ليصبح سلوكًا اجتماعيًّا، له أُطره وقواعده ومبادئه التي استنطقها القرآن الكريم وسيرة النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، على أن ما يتميز به مجتمع سلطنة عُمان من هُوِيَّة حضارية قائمة على التعددية والتسامح والمشاركة والمسؤولية تُشكِّل مائدة خصبة لنمو ثقافة حوارية تسع كل شيء، وتؤسِّس لمسارات التحوُّل في اللغة الحوارية وتبسيطها لتصبح لغة التعايش والتواصل والعلاقات اليومية ومنهج الخطاب وطريق الألفة والمَحبَّة والانسجام بين أبناء المجتمع. قد يعتقد البعض بأن نفوق الحوار الأُسري والاجتماعي، وغيابه في أروقة المجتمع الوظيفي بالمؤسسات وغربته من البيوت والأُسر؛ كان بفعل التقنية التي أسدلت الستار على الكثير من العادات الحوارية والتواصلية اللقاء والتواصل المباشر، ورغم القناعة بأنَّ التقنيات الحديثة اليوم أسهمت بدَوْرها في خلق هذه الفجوة في العلاقات الأُسرية والتباينات في مسارات التواصل بين أبناء الأسرة الواحدة، إلا أنَّها ليست عذرًا مقنعًا في قَبول هذا المنطق أو الاستمرار فيه، إذ إن ما تحتويه هذه التقنيات من فرص وتضمُّه من منصَّات، يمكن أن يؤدي هو الآخر إلى تعزيز دَور التقنيات كإحدى المنصَّات الحوارية لتعظيم العلاقات الأُسرية والاجتماعية إذا ما وظفت في إطارها الصحيح، وتبقى مسألة التطبيق مرهونة بكيفية توليد قناعة ذاتية بمفهوم التواصل والاتصال الأُسري بين الأبناء والآباء وبين الأبناء وبعضهم البعض مستفيدين من كل الفرص المتاحة لهم، سواء بالتقارب الزماني والمكاني أو عبر توظيف التقنية والمنصَّات الاجتماعية في إتقان لغة الحوار الأُسري، بحيث يُشكِّل منطلقًا لنقل التواصل من العالم الافتراضي إلى الواقع المعايش، لتظهر في جملة المناسبات الاجتماعية والأُسرية كالأفراح والاتراح ولقاءات الأُنس والاستجمام والتجمُّعات العائلية التي تفتح في النفس آفاق التعارف واللقاء عن قرب ورفع درجة الحوار والنقاش وإنهاض مساحة الإيجابية والذكريات الجميلة، بما يقلل من ردَّات الفعل السلبية، ويستنهض حسَّ الشعور والثقة، والتعرف عن قرب على ما لدى الآخر من مواقف، ويبرز ما لديه من نجاحات ليتقاسم الجميع روح العمل المشترك أو الإحساس الإيجابي بالإنجاز، سواء على مستوى الزوجين أو الأُسرة أو المؤسسات، فإنَّ مجموعات «الواتس أب» المغلقة مثلًا مساحة حوارية متجدِّدة تُسهم في إيجاد مساحة تواصلية عميقة تنتقل من التكرارية في المحتوى إلى الابتكارية فيه، وعندها تزيد فرص الحديث والاستماع والإنصات، وتنشط مساحة التعقيبات وردود الأفعال المعبِّرة، وتبرز محطَّات من الذوق في الكلمة والتفاؤلية في الحديث، وحسّ الذوق في التعامل مع المشاعر، واللطف في الخطاب، وتصبح هذه المحطَّات المتجدِّدة مواقف تستلهم منها الأُسر روح التغيير وتبني روابط الألفة وتقوي خطوط الاتصال، ومسارات العمل المشتركة في إطار الاحترام والثقة والمَحبَّة والألفة والتقدير والاعتراف بالآخر، واستشعار قيمة ذلك في ظلال الخلق والمبادئ والقِيَم، لمزيد من اللقاء، وتناغم المشتركات وتوليد الخيارات التي تتجه نحو إضفاء طابع الحميمية في العلاقات الأُسرية وتعظيم شأن الحوارات في تقديم صورة نموذجية مشتركة يتعايش خلالها الجميع في ظلال الودِّ والوئام. إنَّ الحوار الأُسري وتعظيم حضوره في تفاصيل الحياة اليومية ومعاهدته بالمتابعة والتقييم والرصد والتحفيز لغة حالمة بما تحمله من فرص نمو إيجابية ومحطَّات لتبادل الحديث، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على الثقة والشعور الإيجابي، في ظل استشعار قيمة التكامل والبناء وتعظيم مسارات الودِّ، وتقريب الأفكار والاقتراب من التفاصيل الجميلة التي تنعكس إيجابًا على صفاء النفس، ونوافذ التجديد وتتطلع إلى التغيير في المواقف، وتؤسس في المتحاورين روحًا متجدِّدة، في ظل ثقافة حوارية تغيب فيها عقدة الأنانيات والحساسيات المفرطة، وتقوى دعائم الشعور الجمعي بقيمة الألفة والمَحبَّة، ذلك أن استدامة الحوار كمنهج حياة في ثقافة الأُسرة وأدوات بنائها ومنظومتها التواصلية، هو الذي يتأسس على أُطر ومبادئ واضحة، ومنهجيات عمل حكيمة، واستراتيجيات في الأداء الحواري الفعَّال، الذي يتجاوز وقتية الأحداث، لتؤدِّي جميع قطاعات التنشئة التعليمية والفكرية والاجتماعية والتشريعية والإعلامية، والجهات المعنية بالأُسرة والمنظمة لعملها، دَورها المحوري في رسم ملامحه وتعظيم ثقافته وترسيخ أبجدياته، وبِدَوْرها يقع على مؤسسات التعليم والمؤسسات الدينية والإعلامية دَور كبير في تجسيد لغة الحوار الاجتماعي في برامج التعليم وبيئة المدرسة والجامعة وغيرها وعبر بناء النماذج وإنتاج نظم محاكاة، تستحضر مفهوم الحوار داخل بيئات التعليم والتعلم والصفوف الدراسية وقاعات التدريس، كما تؤسسها القوانين والتشريعات من خلال إيجاد نصوص ومواد صريحة تعمل على تنشيط لغة الحوار والتكامل بين أبناء المجتمع باعتبارها لغة جامعة، بل أيضًا في صناعة البدائل والخيارات لتضع لغة الحوار أمامها كبديل استراتيجي في حل المشكلات الأُسرية والاجتماعية وفتح آفاق أوسع للخروج من الأزمات النفسية والفكرية والقناعات غير السارَّة التي باتت تُلقي بظلالها على حياة المجتمع. على أن ما أشرنا إليه من إرهاصات الواقع الاجتماعي وتجلِّياته يؤسس اليوم إلى مرحلة جديدة من العمل الوطني يتَّجه فيه العمل إلى تجسيد منظور الحوار الاجتماعي في مختلف مراحل العمل الوطني وعلاقة المواطن بالتنمية ورؤية عُمان 2040 ليتَّجه إلى تبنِّي سياسات وطنية تعظم من شأن الحوار في المجتمع، واستحضاره على مستوى مؤسسات الجهاز الإداري للدولة وقضايا الشباب وملفات التشغيل والتوظيف والتسريح والابتكار والمواهب ومشكلات الشباب والجرائم، وبناء التشريعات الداعمة لاستنهاض الفرص المؤدية للحوار والتكامل المجتمعي من خلال سن التشريعات والأنظمة، وترقية أساليب العمل لتتَّجه لتحقيق هذا الغرض على مستوى الأُسرة من خلال مراجعة قانون الأُسرة والأحوال المدنية، وقانون العمل، وفترات الدوام وتطبيق مفهوم الدوام المَرِن والدوام عن بُعد لضمان تحقيق فترة أوسع لوجود الوالدين في المنزل، والتقليل من فجوة التباين الناتجة عن ظروف العمل أو الظروف الاقتصادية وتقوية برامج الدعم والحماية الأُسرية بما يضمن نهوض أنماط الحوار الشائعة في الأُسرة العُمانية وتعظيم حضور العادات الأُسرية المعزّزة للترابط والحوار، بالإضافة إلى تعزيز دَور التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية في تبنِّي آليَّات وسُبل جديدة لتطوير أسلوب الحوار ولغة التواصل من خلال نهج تطويري واضح يضع ثقافة الحوار في قائمة الاهتمامات، وتوفير البيانات والإحصائيات والمؤشرات الاجتماعية التي تعمل على طرح وتحليل أسباب غيابها والتأكيد على أهمية الحوار مع الآخر ليس فقط لأهميته في ذاته، بل ضرورة تدعيمه وتفعيله بشكل علمي، في تيسير سُبل التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية على اختلافها وتنوُّعها. من هنا تبقى مسألة حوكمة الحوار وتعظيم ثقافته وترقية أساليبه وتحقيق التنافسية في آليَّات تطبيقه؛ الطريق لممارسة حوارية مستدامة ومتناغمة مع طبيعة المتغيرات والظروف ومتجاوبة مع طبيعة القضايا والمشكلات التي تعيشها الأُسر العُمانية على المستوى الشخصي والاجتماعي، وتمتلك أساسيات نجاحها وقدرتها على صناعة سلوك اجتماعي راقٍ، ونقله من المزاجية في التطبيق إلى الاستدامة والمهنية والتأطير في مواجهة فجوة الثقة وصراع العلاقات وغياب دَور الوالدية والضبط الاجتماعي، وحالة الاحتضار الاجتماعي والنفوق التي تعيشها ثقافة الحوار في مجتمع سلطنة عُمان؛ وبالتالي أن تصبح ثقافة الحوار خيارًا استراتيجيًّا، وفق برنامج عمل وطني محدَّد الأهداف والغايات، ومحكم الأدوات والأساليب والمستهدفات، ويمتلك أنظمة التقييم والرصد والتشخيص والمراجعة، ومرجعية وطنية تعمل على مراقبة تطوُّره ومعالجة تأثيره، والوقوف على أسباب نفوق ثقافة الحوار في المجتمع على مختلف المستويات، وضمان كفاءة التشريعات وكفايتها التي تحفظ للحوار مكانته وموقعه في منظومات التشريع والتنفيذ، فهو ضرورة مجتمعية سوف تعيد هيكلة البناء الفكري للمجتمع وتضمن المزيد من الالتصاق بالهُوِيَّة العُمانية القائمة على التسامح والتعاون والتكافل والود والعفو. أخيرًا، فإن ثقافة الحوار في ظل ما يعصف بالواقع الأُسري والاجتماعي من رياح التغيير السلبي وضياع العلاقات الاجتماعي التي باتت تفصح عنها مساحة وجود الزوجين والوالدين والأبناء والإخوة في أروقة المحاكم والادعاء العام والمؤسسات الشُّرطية في قضايا وخلافات أُسرية، يمكن أن تحل بالحوار، وأن تستر بالحوار، وأن يسدل الستار عليها بالحوار، وأن تتلاشى كومة الأحقاد والكراهيات والضغائن بالحوار، والصورة القاتمة التي باتت تتولد عنها هذه الأحداث في مستقبل النشء ما يدق ناقوس الخطر، ويصيب الغيور بالذهول والقلق.
د.رجب بن علي العويسي